نعلم أن المصريين القدماء تركوا لنا العديد من الشواهد والبقايا الأثرية المرتبطة بالملاحة والسفن والنقل النهرى والبحرى. وعلى مدى عقود اكتشف العديد من المواقع الأثرية المصرية القديمة ذات الطابع البحري وهي: قوارب دهشور وسفينة خوفو الجنائزية وميناء فاروس القديم وخليج أبي قير والميناء الشرقي وفنار فاروس وسفن اسطول نابليون بأبى قير... في الأول من آب (أغسطس) 1798 وقعت معركة أبي قير البحرية بين الأسطولين الإنكليزي والفرنسي وأسفرت عن هزيمة الأسطول الفرنسي وإغراق غالبية سفنه بما فيها سفينة القيادة المسماة «لوريون Lorient». وظلت تلك السفن ومحتوياتها فى موقع أبي قير حتى 1965 عندما استطاع الغواص المرحوم «كامل أبو السعادات» تحديد موقع ثلاث من تلك السفن، غير أن الاكتشاف لم يحظ باهتمام المسؤولين المصريين. في 1983 عادت السلطات وسمحت لمجموعة من الباحثين الفرنسين التابعين للمتحف البحرى بباريس بالغوص وانتشال بعض القطع الأثرية من سفن الأسطول أسفل الخليج وبالفعل استطاع الفريق وبمساعدة «أبو السعادات» اكتشاف حطام سفينتين أخريين هما «لوجوريية» و «لاريميتس» كما انتشلت البعثة العديد من القطع الاثرية مثل العملات والمدافع والسيوف وغيرها من الكنوز، وفي سنة 1984 تابع باحثون من الجمعية الفرنسية للآثار البحرية البحث والتنقيب فى الموقع بتمويل من شركة الكهرباء الفرنسية التى قامت بدورها بإنشاء معمل خاص بترميم الآثار المعدنية أقيم في منطقة المسرح الروماني بإلاسكندرية. في بداية الثلاثينات من القرن الماضى وأثناء تحليق أحد طياري القوات الجوية البريطانية فوق منطقة خليج أبي قير (نحو 20 كلم شرق الاسكندرية) لاحظ وجود مساحات كبيرة من الخليج بها آثار وقطع معمارية غارقة وأبلغ الأمير»عمر طوسون» بهذا الامر- وهو المولع بالعلم والآثار والتاريخ وصاحب المؤلفات المهمة عن النيل والبعثات العلمية- وعام 1933 قام طوسون بإجراء مسح أثري لمنطقة الخليج مستعيناً بعدد من الغواصين المهندسين وبعض المتخصصين في الآثار العاملين فى المتحف اليوناني الروماني. وقد رأى طوسون أن تلك المنطقة تمثل بقايا مدينتي «هيراكليون ومنيوتيس» اللتين ترجعان إلى العصر الفرعوني وفي الحقيقة فقد كانت أبحاث الأمير طوسون حول خليج أبي قير أحد الأسس التي استندت إليها البعثات الآثرية التي عملت في المنطقة في ما بعد (نشرت في مجلة جمعية الآثار في الاسكندرية ع29 / 1934). كشف سفينة خوفو الجنائزية الصحفى وعالم الآثار المصرى الشهير» كمال الملاح» الذي اكتشف حفرتين مسقوفتين، دُفنت في كل منهما سفينة مفككة إلى أجزاء وقد تم التنقيب عن إحدى تلك الحفر حيث اكتشفت 1224 قطعة من الأخشاب تم تجميعها خلال الفترة من عام 1957 وحتى 1971 لتصبح واحدة من أهم وأشهر القطع الآثرية في التاريخ وهي سفينة خوفو الجنائزية والمعروضة حالياً فى متحف خاص بها أقيم حيث وجدت بجوار الاهرام ويبلغ طولها 43.4م وعرضها 5.9م، وهي مصنوعة من خشب الأرز المجلوب من لبنان وترجح الدراسات أن السفينة كانت ذات طابع ديني جنائزي صنعت لتحمل جثمان الملك إلى مثواه الأخير. إلا أنه من غير المؤكد ما إذا كانت قد إستخدمت بالفعل قبل تفكيكها ودفنها بجوار الهرم الأكبر. ويذكر أنه منذ عام 2012 تقوم بعثة أثرية مصرية يابانية بالتنقيب عن سفينة خوفو الثانية. أما فنار فاروس الميناء الشرقي فيرجع اكتشافه إلى عام 1960. وأثناء قيام الغواص الراحل كامل أبو السعادات بالصيد عند منطقة رأس السلسلة في الجانب الشرقي من الميناء الشرقى بإلاسكندرية، عثر على بعض الأواني الفخارية الغارقة والتي كان قد رأى مثلها من قبل في المتحف اليوناني الروماني بإلاسكندرية. وأثار هذا الاكتشاف اهتمامه وظل لسنوات يقوم بالغوص في المنطقة لاكتشاف وتسجيل كل ما يراه من آثار غارقة، ووثق كل ما اكتشفه بدقة، من تماثيل وأعمدة وقطع معمارية غارقة وأوانى فخارية وعملات. وفي عام 1962 قامت القوات البحرية المصرية بانتشال أحد التماثيل والذي كان أبو السعادات قد اكتشفه وأبلغ عن مكانه وهو تمثال من الغرانيت الأحمر لسيدة بطول 6 أمتار ووزن 25 طن وهو للملكة «ارسينوى» زوجة الملك بطليموس الثانى والذي أقام فنار الاسكندرية القديم في طرف جزيرة فاروس عند الموقع الحالي لقلعة قايتباي ويعتقد أن تمثال الملك والذي تم إنتشالة عام 1995 وزوجته كانا مقامين عند مدخل الفنار. وعلى رغم عدم اهتمام مصلحة الآثار المصرية آنذاك باكتشافات أبو السعادات أو بالآثار الغارقة عموماً إلا أن تلك الاكتشافات حظيت باهتمام دولي حتى أنه عام 1968 أرسلت منظمة اليونيسكو الباحثة البريطانية «هونورفروست» (ت2010) للغوص مع أبو السعادات في منطقة شرق قلعة قايتباي، حيث توجد البقايا الغارقة لفنار الإسكندرية القديم (فاروس). ونظراً إلى الظروف التي كانت تمر بها البلاد عقب حرب 1967 والقيود التي فرضت على الأجانب والغوص بوجه عام آنذاك، فإن مشروع البحث والتنقيب فى منطقة فاروس لم يتم وظل حلماً يراود الباحثين حتى منتصف التسعينات من القرن الماضي، وبخاصة عام 1994 الذي يعتبر البداية الحقيقية لظهور علم الآثار البحرية في مصر. حيث شهد ذلك العام حدثين مهمين كانا سبباً مباشراً فى دخول تخصص الآثار البحرية في شكله العلمي والتطبيقي إلى مصر. وهذان الحدثان هما بداية عمل كل من بعثة المركز الفرنسي لدراسات الإسكندرية وبعثة معهد الآثار البحرية فى مجال الآثار الغارقة في مصر. وأدعو القارئ لقراءة أطروحة دكتوراه المؤلف التي طورها فى كتاب «الآثار البحرية والتراث الثقافي الغارق» للدكتور عماد خليل مؤسس مركز الآثار البحرية والتراث الثقافى بكلية الآداب – جامعة الإسكندرية والذي شارك في اكتشافات أثرية بحرية عدة.