أكثر من نصف مليون زائر شاهدوا معرض"فرعون"منذ افتتاحه في"معهد العالم العربي"في شهر تشرين الأول أكتوبر من السنة الماضية. ونتيجة لهذا الإقبال الكبير الذي فوجئ به منظّمو المعرض، تمّ التمديد له ستة أسابيع إضافية، أي حتى شهر حزيران يونيو المقبل من السنة الجارية. ويعدّ هذا المعرض من أبرز المعارض الكبرى الذي يقيمها المعهد، بل من أبرز المعارض المقامة الآن في فرنسا. وإذا كان نجاحه يؤكّد شيئاً فإنّما هو الاهتمام الفرنسي الكبير بالحضارة الفرعونيّة، وهي أكثر الحضارات التي يوليها الفرنسيون اهتمامهم لأسباب عدة، منها أوّلاً ما تنطوي عليه من قوّة وسحر وغرابة، وثانياً الإحساس أنّ فرنسا من خلال العالِم شومبوليون، كانت بمثابة"القابلة"القانونيّة التي أعادت ولادة هذه الحضارة عبر الكشف عن محتوياتها وألغازها من خلال غوامض اللغة الهيروغليفيّة وتفسيرها. يتجلّى هذا الاهتمام بصورة خاصّة من خلال"علم المصريات"الذي كرّسته فرنسا على مستوى رفيع وخصّصت له أقساماً داخل الجامعات والمعاهد وفي مقدّمها"الكوليج دو فرانس"، وكذلك من خلال البعثات التنقيبيّة التي تساهم في الكشف عن الآثار الفرعونيّة ودراستها والتعريف بها، وما يواكب ذلك من إصدارات وكُتب ومعارض تشهدها العاصمة الفرنسيّة سنوياً. في هذا السياق جاء معرض"فرعون"في"معهد العالم العربي"ويحتوي على أكثر من 250 قطعة أثرية تنقلنا إلى 3500 سنة من تاريخ الملوك الفراعنة وحياتهم ومسالكهم. تكشف القطع المعروضة عن حضارة أسطورية بنتها شخصيات كبرى من أمثال أخناتون وتوت عنخ أمون ورعمسيس السادس وسواهم من الفراعنة الذين يستهلّ بهم المعرض أقسامه الستة، مبيّناً تعدّدية الأوجه التي تكتسبها شخصيّة الفرعون، الذي تمتزج فيه الطبيعة والثقافة والسياسة والدين القديم. يبدأ المعرض برواق الملوك ويضمّ عدداً من القطع الفنيّة المهمة والتماثيل التي تجسد عدداً من الفراعنة. هناك 15 تمثالاً تسمح بفهم أعمق لحضارة قديمة ترقى إلى ما يزيد على الأربعة آلاف سنة، ومن هذه التماثيل وهي تعدّ الأقدم زمنياً وتعود إلى العصر الثيني، تمثال لرجل ملتح. معظم التماثيل الأخرى في هذا القسم تجسّد ملكاً واحداً، ولكن في صورة بشر عاديين تناوبوا على عرش الحكم طوال تاريخ مصر القديمة. من القطع المتميزة أيضاً والتي جيء بها من محفوظات"المتحف المصري"في القاهرة وهي تعرض للمرّة الأولى في فرنسا، تمثال ضخم لتوت عنخ أمون، وهو يشتمل على العلامات التقليدية للفرعون ممثلة في التاج المزدوج الذي يرمز إلى اتحاد مصر العليا ومصر السفلى، وفي تسريحته المقلّمة المصبوغة باللونين الأزرق والأصفر. تمثال صنع من الحثّ الصواني المصبوغ ويبلغ طوله ثلاثة أمتار ويفوق وزنه الأربعة أطنان، ويعكس بالفعل قوة هذه الحضارة العريقة وعظمتها. كذلك هناك تمثال لأمنحوتب الثالث وهو تمثال نادر من الفخار المصبوغ، يعتليه تاج ملكي منقوش بزخارف دائرية وبأفعى الكوبرا رمز الملكية وقد عثر عليه في معبد الكرنك. من جهة ثانية، وفي قسم المجوهرات، تمكن مشاهدة كنز"تانيس"الذي اكتشفه عالم المصريات بيير مونتي سنة 1940 في القسم الشرقي من دلتا النيل. يتألّف هذا الكنز المستخرج من القبور الملكية من أكبر مجموعة من المجوهرات والحلي الفرعونية منذ اكتشاف قبر توت عنخ أمون عام 1922. ومن بين القطع المعروضة تتميز اثنتان وعشرون قطعة من الذهب والأحجار الثمينة بجمالها وبالتقنية الدقيقة التي استعملت فيها وهي تتغنّى بالملكية وتؤكد سلطتها. من أهم القطع المعروضة أيضاً قناع جنائزي لبسونس الأول الذي حكم طوال نصف قرن، وهو قناع مصنوع من الذهب الخالص ويتألّف من خمس قطع جمعت بخمسة مسامير. يتمثّل الحاكم هنا من خلال علامات السلطة كالتسريحة والأفعى والقناع رمزاً للأبدية. ثمّة قطعة أخرى تمثل رسم عصافير، تقدّم أنموذجاً عن العمارة الفرعونية حيث نلاحظ مدى الاهتمام بالمشهد الطبيعي في هذا النوع من الرسوم التي كانت تزيّن القصور ولم يبق منها اليوم سوى قطع نادرة. تضاف إلى ذلك مجموعة من الأثاث المتكوّن من مقاعد وخزائن وصناديق وأسرّة، وهي القطع التي تمّ العثور عليها في وادي الملوك وكانت تشكّل جزءاً من الأثاث الجنائزي الذي يكشف عن الترف الذي كان سائداً في القصور الملكية في عصر الدولة الحديثة. ترافق هذا المعرض الضخم الذي يعدّ حدثاً ثقافياً كبيراً في فرنسا إصدارات عدة منها كتاب جماعي بعنوان"فرعون"تحت اشراف كريستين زيجلر. الكتاب الثاني لفلورنس ماريجول بعنوان"أبجدية الفراعنة". والكتابان صادران عن دار"فلاماريون"الباريسية، علاوة على نشاطات ثقافية متنوعة. يعد الفنّ الفرعوني، بل ما يتعلّق بالحضارة الفرعونيّة ككلّ، عامل جذب كبيراً للجمهور الفرنسي، وقد يسجّل المعرض الراهن أكبر نسبة من الزوّار قياساً الى المعارض الكبرى السابقة وبعضها سجّل أرقاماً كبيرة متجاوزاً متحف اللوفر ذاته. ويبقى السؤال: لماذا كل هذا الشغف بالحضارة الفرعونية في الغرب عموماً وفي فرنسا خصوصاً؟ في الحقيقة لم تتوقّف مخيلة الشرقيين والغربيين معاً عن الانشغال، وبشغف، بالحضارة الفرعونية وما تثيره من غموض وسحر، منذ عهد هيرودوت إلى العصور الحديثة. وقد برز الاهتمام بالآثار الفرعونية منذ العصور الوسطى، وتزايد تدريجاً من خلال ما كان ينقله الرحّالة والمسافرون والعلماء والسياسيون الغربيّون، فأخذت هذه الحضارة طابعاً سحرياً مع العالم النباتي بولون الذي زار الجيزة عام 1533 وفرنسوا دي بافر الذي اكتشف سنة 1575 موقع ممفيس مدشّناً عهداً جديداً من العلاقة مع تاريخ مصر القديم. ولم يتوان نابليون بونابرت عن إحاطة نفسه بعلماء في رحلته إلى مصر فأنشأ"معهد مصر"عام 1799. غير أنّ اللحظة الحاسمة في العلاقة مع الحضارة الفرعونيّة، بدأت مع العالم الفرنسي شامبليون الذي فكّ، كما ذكرنا، رموز اللغة الهيروغليفية لحجر الرشيد، واستطاع من خلال اكتشافه هذا أن يفتح أبواباً واسعة أمام فهم ما تنطوي عليه تلك الحضارة من ثراء وقوّة وسحر. ألقى شامبليون الضوء على مسالك حضاريّة كانت في الظلمة، وهذا ما يجعل الفرنسيين أيضاً يشعرون بعلاقة وطيدة مع مصر القديمة، وهي علاقة دعّمتها إعادة اكتشافهم لها. منذ 1789 تحوّل الاهتمام بمصر القديمة وآثارها وتاريخها ومنجزاتها المعمارية إلى شغف لا يطال العلماء والمتخصّصين الفرنسيين فقط، وإنّما أيضاً رجال الدولة، ويكفي أن نلتفت إلى القسم الفرعوني في متحف"اللوفر"، خاصّة بعد تجديده وتوسيعه في عهد الرئيس الراحل فرنسوا ميتران، بما يتلاءم والمجموعة الفنية والأثرية الضخمة التي تمتلكها الدولة الفرنسيّة، والتي تعتبر من أهمّ المجموعات في العالم، وليصبح القسم الفرعوني الأبرز قياساً للمتاحف الكبرى في الغرب. في هذا الإطار، ووفاء للدور الذي لعبه العلماء الفرنسيون، جاء معرض"معهد العالم العربي"ليساهم في التعريف بحضارة مصر القديمة، وليكون، في هذه الظروف الصعبة والمعقّدة، جسراً يربط بين الثقافات والحضارات.