أهدى رئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة مؤتمر "باريس -3" الى ذكرى الرئيس الراحل رفيق الحريري "وهو حلم بلبنان الذي نعمل لأجله". وحض في كلمته امام المشاركين في المؤتمر على دعم لبنان، مؤكداً وجود صعوبات سياسية ومعتبراً ان"التحديات الاقتصادية لا تقل جدية"عنها. وعرض السنيورة مفاصل البرنامج الإصلاحي لحكومته، معتبراً ان الفشل فيه ستكون تبعاته"فوق كل تصور"، مشيراً الى رفع طلب الى صندوق النقد الدولي لعقد اتفاق طارئ معه. وشدد على ان الحكومة ملتزمة إنشاء المحكمة الدولية، واصفاً إضراب المعارضة الثلثاء الماضي بأنه محاولة لتحقيق مكاسب بوسائل غير مشروعة. وهنا نص كلمة السنيورة: "اسمحوا لي ان أعبر عن امتناني العميق للرئيس جاك شيراك والحكومة والشعب في فرنسا لاستضافتهم هذا المؤتمر الدولي، الذي هو دليل صادق على دعمكم وإيمانكم الثابتين بلبنان. كما أود أن أشكركم جميعاً على استجابتكم لدعوة الرئيس شيراك وتخصيصكم وقتاً من برامج عملكم للمشاركة في هذا الاجتماع الشديد الأهمية بالنسبة إلينا نحن اللبنانيين. فدعمكم يشد من عزمنا على حماية حريتنا وتعزيز ديموقراطيتنا وتمتين استقلالنا وإصلاح اقتصادنا. نلتقي اليوم في وقت تسود الانقسامات والخوف والتهديد والحيرة، ولكنه أيضاً وقت التضامن في ما بيننا نحن الذين نواجه مشاكل وتحديات مشتركة في سعينا الى تحقيق الأهداف العالمية للسلام والازدهار والأمن والعدالة. فتضامن كهذا يقوي لبنان في سعيه لاستعادة دوره الفريد جسراً وليس ساحة حرب، ومكاناً للتلاقي وليس للاختلاف. إن دعمكم يؤشر على أن إعادة نهوض لبنان المستقر والحيوي هو ذو معنى ليس فقط بالنسبة الى بلدنا بل للمنطقة والعالم أجمع أيضاً. لذا، فإننا نسعى إلى تحقيق هدفي الاستقرار والديموقراطية الفاعلة، بحيث تكون حقوق الإنسان والحريات الفردية مؤمنة. فإن أخفقنا في تحقيق هذه الأهداف، فستتخطى التبعات السلبية حدود بلدنا الصغير. في الوقت الذي عانى الشرق الأوسط أكثر مما يستحقه من الاضطرابات في الماضي، يواجه اليوم مشكلات ضخمة، بما فيها الاحتلال والاضطرابات الطائفية والمذهبية والتطرف والعنف والعوائق أمام إحلال الديموقراطية والتنمية البشرية. وبسبب انفتاحه وتنوعه، لبنان ضعيف بشكل خاص تجاه هذه المخاطر والتحديات. إلا أننا، وبدل أن نسمح بتحويل لبنان ساحة حرب مفتوحة للتصادمات السياسية والإيديولوجية، أو أن يصبح مرتهناً للمواجهات الإقليمية والدولية، فإن في إمكانه ويجب أن يكون، مشعلاً يرفع مبادئ العيش المشترك والاعتدال والديموقراطية والحرية. لا أريد أن أتجاهل أو أقلل من الصعوبات السياسية التي يواجهها لبنان حالياً، ولا شك أنكم على اطلاع على التجربة القاسية التي تمر بها ديموقراطيتنا منذ شهرين. وبلغ ذلك ذروته الثلثاء الماضي خلال المحاولة الدراماتيكية لتحقيق أهداف سياسية عبر وسائل غير مشروعة من التخويف والإخلال بالنظام العام. في المقابل، وقفت حكومتنا بحزم في حماية المبادئ الديموقراطية وحكم القانون. وسنستمر في مد اليد لأخوتنا اللبنانيين في المعارضة للتوصل الى حل عبر مؤسساتنا الديموقراطية، بالطريق الأمثل لخدمة مصلحة بلدنا وتعزيز دستوره. لقد استخلص الشعب اللبناني في ظل هذه المصاعب أن الحوار السلمي هو الطريق الوحيد لحل الاختلافات السياسية. إنها أوقات صعبة لكنها أيضاً أوقات للتفكير. إنها لحظات الحقيقة حيث تكون الشجاعة والإصرار أمرين أساسيين. إنها أوقات لاتخاذ الخيارات الصحيحة والعمل على تحقيقها. لذا وقفنا بحزم خلال الشهرين المنصرمين، ولذا حققنا تقدماً في تطوير برنامجنا الإصلاحي الاقتصادي، ولذا نحن هنا بينكم اليوم. ان الشعب اللبناني، تماماً كما هي الحال في البلدان الأخرى، يتطلع للعيش بسلام وكرامة في بلد آمن وحر تماماً كما أعلن أمام العالم أجمع في ربيع العام 2005 بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري المريع والمأسوي. وأكد الشعب اللبناني تصميمه على الجلب إلى العدالة منفذي هذه الجريمة الشنعاء والاغتيالات السياسية الأخرى التي ذهب ضحيتها سمير قصير وجورج حاوي وجبران تويني والوزيران باسل فليحان وبيار الجميل،إضافة إلى محاولتي اغتيال الوزيرين الياس المر ومروان حمادة الموجود لحسن الحظ معنا اليوم اضافة الى الصحافية مي شدياق. وحكومتنا ملتزمة إنشاء المحكمة الدولية الخاصة كما تم الاتفاق عليها مع الأممالمتحدة بهدف خدمة العدالة، كما أتمنى أن يكون لها دور آخر رادع وتساهم في وضع حد لانعدام المحاسبة. لم نشهد حدثاً أكثر مأسوية وإخلالاً بالاستقرار خلال السنتين المنصرمتين اكثر من حرب إسرائيل الهمجية وغير المبررة بتاتاً على لبنان والتي أدت إلى نزوح مئات الآلاف وتدمير البنية التحتية والاقتصاد، والأهم من ذلك زهق أرواح آلاف المدنيين اللبنانيين وهو أمر يستمر اليوم للأسف نتيجة مليون قنبلة عنقودية منتشرة في الجنوب. وكانت تبعات هذه الحرب على الصعيد السياسي الداخلي خطيرة بالفعل وما زالت تظهر حتى اليوم بطرق عدة. فيما قد تبدو ظاهرياً التحديات السياسية التي نواجهها أكثر دراماتيكية مما هي عليه التحديات الاقتصادية فإنها تتسم بالجدية نفسها وهي متشابكة في ما بينها. كان لبنان قبل شهر تموز يوليو من السنة الفائتة يتقدم على مسار النهوض الاقتصادي مع معدل نمو متوقع يصل إلى 6 في المئة في العام 2006. إلا أننا الآن وبفعل الهجوم الإسرائيلي على بلدنا نقف عند حافة ركود اقتصادي عميق. ونبذل قصارى جهدنا لمعالجة المسائل الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية التي نتجت عن الحرب. كما أننا لا نألو جهداً لإعادة تأهيل البنية التحتية بشكل سريع وفاعل وللنهوض باقتصادنا المنهك. وعلى رغم شجاعة شعبه، فإن لبنان لا يستطيع وحده أن يتخطى التحديات الاقتصادية، القديمة منها والجديدة التي تنتظره. كما أن دعم أشقائنا العرب وأصدقائنا في المجتمع الدولي أساسي ايضاً. إن برنامجنا الإصلاحي يسعى إلى نمو اقتصادي يهدف إلى تحسين مستوى المعيشة ونوعية الحياة إضافة إلى تعزيز الشفافية ومعايير الحكم. إلا أن الإصلاحات المقترحة لا تكفي وحدها لتحقيق النمو المستدام والعادل وتأمين خدمة الدين. فإن ما نحتاج إليه هو دعمكم لبرنامجنا المتوسط المدى على شكل مساهمات وقروض ذات امتيازات خاصة مع مبالغ كبيرة مقدمة للفترة الأولى تتعدى مدة البرنامج. وإن الفشل في تحقيق أهداف البرنامج ستعرض أهداف الاستقرار السياسي والاجتماعي، وبشكل أعم، النظام الديموقراطي القوي للخطر. إن كلفة الفشل باهظة جداً وتفوق أي تصور. إنها بالتأكيد تفوق كلفة النجاح بأشواط، لذلك آمل أن تكونوا مقدامين في دعمكم. الاصلاحات الهيكلية يركز برنامجنا على إصلاحات هيكلية تعزز النمو. وتم تطوير استراتيجية إصلاح حكومي إداري جيد ومفصل تشمل كل القطاعات الحكومية بهدف خلق إدارة عامة شفافة فاعلة ومسؤولة. كما تم وضع تدابير إصلاحية للقطاع المالي ستكون مهمة للنهوض المالي وتسهيل عملية الخصخصة وتعزيز الثقة بالسوق. كما أن الحكومة ملتزمة تطبيق سلسلة كبيرة من الإصلاحات القانونية والتنظيمية بهدف تعزيز القدرة التنافسية وتخفيض كلفة ممارسة الأعمال في لبنان. كما يركز البرنامج على القطاع الاجتماعي مستهدفاً تعزيز التطور المستدام والعادل ومحاربة الفقر ووضع شبكات الأمان الاجتماعي. كما تهدف هذه الخطة إلى تحسين مستويات العلم والصحة وتعزيز فاعلية الإنفاق الاجتماعي وخفض الفروقات المناطقية داخل البلاد. وسيتم تحقيق أهداف الحكومة الاجتماعية عبر التنسيق بين الأطراف المعنية كافة بما فيها المؤسسات الحكومية والدولية والمنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص والدول المانحة. وهناك بند أساسي في الخطة الإصلاحية يتمحور حول الإدارة المالية الجيدة، ويتضمن تطبيق سلسلة من التدابير ستؤدي إلى زيادة الفائض الأولي عبر ترشيد الإنفاق وزيادة المداخيل وتقليص التأثيرات السلبية على الفقراء. لذا يعتبر إصلاح قطاع الكهرباء مهماً في شكل أساسي، خصوصاً وقد بلغ دعم الموازنة لهذا القطاع ما يقارب بليون دولار في العام 2006 أي ما يعادل قرابة 20 في المئة من العائدات الضرائبية و3.5 في المئة من الناتج المحلي العام. وقد تم في برنامج الحكومة تفصيل عدد كبير من التدابير القصيرة والمتوسطة الأمد الآيلة لإصلاح هذا القطاع الذي يعاني من وضع حرج. إن بند التخصيص في برنامج الإصلاح أساسي لتعزيز النمو وخفض الدين العام وخدمته وتأمين توسيع السوق المالية الداخلية. ويتوقع أن تعزز الخصخصة الثقة ونوعية الخدمات العامة والقدرة التنافسية وأن تزيد من الفاعلية مما يؤدي إلى خفض كلفة الخدمات الخاصة بممارسة الأعمال. إن عملية الخصخصة الشفافة لقطاع الاتصالات والتي ستؤمن أكبر قاعدة ممكنة من المساهمين هي واحدة من أهداف الحكومة الأساسية، وقد أنشأنا في هذا الصدد هيئة ناظمة للاتصالات وعينّا اخيراً أعضاء مجلس إدارتها. كما تجدر الإشارة الى أن عائدات الخصخصة ستخصص لتقليص الدين. كما يتضمن البرنامج الإصلاحي سياسة مالية حذرة وسياسة لصرف العملات تهدف إلى المحافظة على استقرار السعر وعلى نظام مصرفي معافى وتأمين تسهيلات مصرفية للقطاع الخاص. إن سياسة لبنان الخاصة باعتماد سعر صرف مستقر خدمت البلد في شكل جيد وما زالت أساسية للمحافظة على استقرار السعر وثقة المستثمرين. إن الحكومة اللبنانية لا يمكنها أن تأمل بتحقيق هذه الأهداف من دون مساعدة مالية دولية تساهم في خفض عبء الدين العام وخدمته، مما سيساهم في بناء الثقة الضرورية لتشجيع استثمار القطاع الخاص اللازم لتأمين النمو والإنتاجية وخلق فرص العمل. ففي الوقت الذي تعتبر فيه إعادة بناء اقتصاد لبنان أساسية لمستقبله، لا يمكن للنهوض الاقتصادي وحده أن يؤمن الاستقرار. فللمجتمع الدولي دور كبير في إعادة إرساء السلام والأمن في بلدنا. وفي الوقت الذي نجتمع فيه اليوم، تستمر إسرائيل في خرق القانون الدولي واتفاق وقف إطلاق النار من خلال طلعاتها الجوية المنتظمة في الأجواء اللبنانية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن استمرار الاحتلال الإسرائيلي لمزارع شبعا يوفر عذراً للتدخل المستمر في الشؤون الداخلية اللبنانية. كما أن آثار عدم الاستقرار على لبنان لا يمكن نكرانها وتشير إلى الحاجة إلى احترام إسرائيل الكامل والفوري لقرار مجلس الأمن رقم 1701. كما أن من المهم جداً أن تتم إزالة العائق السياسي الأساسي النازف من أمام الاستقرار في الشرق الأوسط في شكل نهائي. على إسرائيل أن تدرك أن الحرب لم تؤمن لها لا الاستقرار ولا السلام. فشعوب الشرق الأوسط تتطلع للعيش بحرية وكرامة من دون تهديد دائم بالعنف والاحتلال وعدم احترام وحدة أراضيها، والسبيل لتحقيق تقدم يكمن في سلام عادل وشامل ودائم يرتكز على أساس مبدأ الأرض مقابل السلام الذي نادت به القمة العربية في بيروت في العام 2002. لا يمكن تطبيق حل سياسي مماثل الا عندما تعترف إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني بدولة مستقلة قابلة للحياة وبحق العودة للاجئين الفلسطينيين تنفيذاً لقرارات الأممالمتحدة. كما ان على إسرائيل الانسحاب من كل الأراضي العربية التي تحتلها في لبنان وغزة والقدس والضفة الغربية وسورية، فعندها فقط ستنعم إسرائيل بالأمن الذي تسعى اليه ويسود السلام الذي نصبو اليه جميعاً. اذا ما راجعنا تاريخنا، يمكننا استخلاص عبر من صعوبات الماضي ونحن فخورون بأن حتى في ظل فترات من اليأس العميق لم يخب تصميمنا أبداً، فنحن مؤمنون بلبنان وبشعبه وهو إيمان نحن على ثقة بأنكم تشاركوننا إياه. ونحن إذ نعمل من أجل مستقبل لبنان، نواجه حالة طوارئ لا تحتمل التأجيل، ونعمل بشغف وليس بأسى، بحماس وليس بانكسار. سنرى بلدنا يشرق من الظلمة الاقتصادية والسياسية من أجل أيام أكثر إشعاعاً ستأتي. وكما تعلمون، فإن هذا المؤتمر هو الثالث من نوعه بعد باريس -1 و2، فكلاهما هما صنيعة رئيس وزرائنا الراحل رفيق الحريري، رجل الرؤية الذي آمن بلبنان ومستقبله الواعد والذي عمل من دون كلل، وأحياناً في مواجهة كل المصاعب، لمساعدة لبنان على استعادة مكانته الحقيقية بين الدول. فالرئيس الحريري نفسه جسد بطرق عدة حيوية البلد وإمكاناته وآماله. وإن تسمحون لي أود أن أهدي اجتماع اليوم لذكراه، بما أنه هو الذي حلم بلبنان الذي نعمل لأجله واتخذ الخطوات الأولى الشجاعة على هذا المسار. ففي الوقت الذي يشكل غيابه خسارة فادحة لبلدنا، فان ذكراه هي التي تقودنا اليوم على هذا المسار مجدداً. إن دعمكم سيكون أساسياً لتقدم لبنان. سبق أن وقفتم بجانب لبنان في الأوقات الصعبة وستستمرون اليوم من دون شك في ذلك، بما أن ذلك أساسي اليوم بالنسبة للبنان والمنطقة والعالم أكثر من أي وقت مضى. لذا يجب أن يكون دعمكم أكيداً وغير متردد، شاملاً وغير جزئي. شكراً لكم جميعاً".