مُني لبنان وطناً وشعباً ومؤسسات بخسارة فادحة جرّاء استشهاد الرئيس رفيق الحريري ظهر الرابع عشر من شباط فبراير 2004. ولكي ندرك ونقدّر معنى وحجم هذه الخسارة لا بدّ من أن نستعرض مسيرة الرئيس الشهيد فكراً واستشرافاً وعملاً وإنتاجاً كاد اللبنانيون يبدأون بقطف ثماره لولا أن يد الخبث والغدر المتربّصة بلبنان قضت على أمل النهوض وأطفأت وهج الشمس فصُعق اللبنانيون كما صُعق العرب والعالم بدناءة الجريمة وخسّة الفاعلين والمخطّطين. بداية الطريق وُلد رفيق الحريري في صيدا عاصمة الجنوب وكبر وترعرع في كنف أبوين كريمين مسلّحين بالتقوى والإيمان. وما إن شبّ الشهيد حتى أخذت أفكاره وطموحاته تُيمّم شطر المملكة العربية السعودية التي قصدها والتي كانت في ذلك الوقت متطلّعاً للشباب الطامح لكثرة فرص العمل فيها. وهكذا بدأت رحلة الرئيس الشهيد وأخذت نشاطاته تنمو وتتزايد، فتنقّل بين قطاعات عدة من موظّف إلى شريك إلى صاحب شركة وشركات وأخذت علاقاته تتوطّد أكثر وأكثر مع الشعب السعودي وأمرائه الكرام الذين كسب منهم المزيد من الأخلاق والدماثة وحسن المراس والأصالة العربية. وخلّفت سنوات الحرب التي عاشها لبنان بين 1975 و1990 آثاراً مدمِّرة على المجتمع اللبناني بكل نواحيه، وشهد لبنان تآكلاً لقاعدته الاقتصادية أدّى إلى خسارة معظم ميزاته التفاضلية مع غيره من البلدان عموماً والعالم العربي خصوصاً. وعند تسلّم الرئيس الحريري زمام الحكم أواخر 1992 واجه التحدي المتمثِّل في كيفية تحويل اقتصاد مدمّر وغير مواكب للتطورات الاقتصادية إلى اقتصاد مستقرّ ونامٍ مع برمجة شاملة لتنمية موارده البشرية ولإعادة بنيته التحتية. أسس السياسة الاقتصادية الحريرية ركّزت السياسة الاقتصادية الحريرية على استقرار الليرة اللبنانية عبر تحويلها إلى عملة موثوق بها، وتقليص مستوى التضخّم من 120 في المئة في 1992 إلى أربعة في المئة في 1998 فواحد في المئة في 2004. فبدأ سعر صرف الليرة بالتحسّن من 2800 ليرة للدولار في أيلول سبتمبر1992 إلى 1800 ليرة في نهاية 1992 ف1507.5 ليرة في 2004، وانخفضت أسعار الفائدة معدّل الفائدة على القروض المصرفية من 51 في المئة في 1992 إلى 14 في المئة في 1998 ف11 في المئة عام 2004. كما أن السياسة الاقتصادية الحريرية ركّزت أيضاً على إطلاق برنامج إعادة الإعمار والإنماء لتوفير بنية تحتية حديثة تشكِّل شرطاً مسبقاً وقاعدة لا بدّ منها لتفعيل الدورة الاقتصادية. فأتت المشاريع الاستثمارية لتشمل القطاعات الخدماتية كافة. أماّ أهمّ ما ركّزت عليه السياسة الاقتصادية الحريرية فهو إعادة تشييد أو تدعيم الركن الأساسي للاقتصاد اللبناني المتمثِّل بالقطاع الخاص المتحصِّن بالنظام الديموقراطي الليبرالي الحرّ والمنفتح، مماّ أدّى إلى تطوّرٍ سريعٍ لقطاعاته المنتجة من مصرفية وسياحية وصناعية وتجارية وخدمية. لم تَسلَم السياسة الاقتصادية الحريرية بين الأعوام 1992 - 1998 من الكثير من العقبات الناجمة عن تجاذبات سياسية داخلية من جانب ذوي المصالح المتضاربة ومن استحقاقات دستورية كالتمديد لرئيس الجمهورية في 1995 ومن الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة، وصولاً إلى التشنّج السياسي البارز إبّان انتخاب الرئيس لحود عام 1998 والذي أدّى إلى إخراج الرئيس الحريري من الحكم. وحاول العهد الجديد رسم سياسة اقتصادية واجتماعية تهدف إلى نقد السياسة الاقتصادية الحريرية. ومن آثار السنوات العجاف ما بين 1998 و2000 تراجُع النمو وزيادة نسبة البطالة وانخفاض الاستثمار وتراجُع الثقة بمستقبل الاقتصاد، إضافةً إلى زيادة عجز الخزينة وتراكُم الدين العام. برنامج النمو المستدام عاد الرئيس الشهيد إلى الحكم على اثر نجاح ساحق في الانتخابات النيابية في صيف 2000 وترأّس الحكومة الرابعة في الخريف ذاته. واستكمالاً لمسيرته الاقتصادية وبعد تشخيص دقيق للمشكلات التي كانت تراكمت بين الأعوام 1998 و2000، وضع برنامجاً من السياسات الاقتصادية الكفيلة بالوصول الى نمو مستدام، برنامجاً يحقّق معالجةً حقيقية وتدريجية لمشكلتي العجز والدين العام، ويفتح الآفاق لمستقبل مالي واقتصادي زاهر للوطن. انسجاماً مع هذه الرؤية وُضعت رزم من الإجراءات للتصدي للتحديات ولتطوير الاقتصاد اللبناني مرتكزةً في ذلك على أسس ثلاثة: أوّلاً: إعادة إنعاش الاقتصاد اللبناني وتطويره عبر حفز القطاع الخاص وتحضير لبنان للانخراط في نظام العولمة. ثانياً: وضع سياسة مالية ضريبية متكاملة غير كابحة للنمو الاقتصادي وتسهم في تحقيق عدالة اجتماعية، والعمل على إعادة هيكلة القطاع وتشذيبه من أجل تحسين إنتاجيته وكفايته، وخصخصة عدد من المرافق العامة بما يسهم في خفض الدين وعجز الموازنة. ثالثاً: المحافظة على الاستقرار النقدي والمالي من اجل الإبقاء على النسب المنخفضة للتضخم والحفاظ على استقرار سعر صرف الليرة اللبنانية. التمهيد لمؤتمر باريس -2 قامت حكومة الرئيس الشهيد بتنفيذ الكثير من الإجراءات الاقتصادية بين كانون الأول ديسمبر 2000 وكانون الأول 2002 تمهيداً لمؤتمر باريس 2، والتي أدّت إلى ارتفاع نسبة النمو من صفر في 2000 إلى اثنين في المئة في 2001 و2002 إلى أربعة في المئة في العامين 2003 و2004. من هذه الإجراءات: - تحرير قطاع الاستيراد حيث تمّ خفض معدل الرسم الجمركي من 12 في المئة إلى ستة في المئة. - إقرار قانون تشجيع الاستثمار. - اتباع سياسة الأجواء المفتوحة. - إقرار قانون تملك الأجانب. - إقرار قانون مكافحة تبييض الأموال. - تخفيض نسب الاشتراكات في الضمان الاجتماعي من 38.5 في المئة إلى 23.5 في المئة. - اتفاق الشراكة الأوروبية - المتوسطية اليوروميد. - تطوير المناخ القانوني تسهيلاً للدخول في منظمة التجارة العالمية. - اعتماد برنامج إكسبورت بلاس لدعم القطاع الزراعي. - إقرار قانون تداول أسهم المصارف. - إقرار قانون خصخصة قطاع الاتصالات والعمل على خصخصة قطاع الهاتف الخلوي. - إقرار قانون خصخصة قطاع الكهرباء والتحضير لخصخصة مؤسسة كهرباء لبنان. - المساهمة في إعادة هيكلة شركة طيران الشرق الأوسط تمهيداً لإعادة ملكيتها إلى القطاع الخاص. - إصلاح المؤسسات العامّة. - إعادة تنظيم تعويضات التقاعد وتسوية التعويضات المتراكمة ذات المفعول الرجعي في الأسلاك العسكرية التدبير الرقم 4 - اعتماد الضريبة على القيمة المضافة. - إقرار قانون المحاسبة العمومية تحقيقاً للتلازم بين الصلاحية والمسؤولية وتعزيزاً للرقابة المؤخّرة على عملية إنفاق إدارات الدولة. - إعادة هيكلة إدارة الضرائب. - إقرار قانون إنشاء صندوق خاص لإطفاء الدين تتكوّن موارده من إيرادات الخصخصة والتسنيد. الصراعات السياسية وعلى رغم تنفيذ هذه الإجراءات تعرّضت مسيرة الإصلاح الاقتصادي الحريرية إلى هجوم سياسي كيدي مبرمج، من آثاره ما حدّ من تأثير الإجراءات المعتمدة، وما عدّل مسارها، وما أتى لتفريغها من مضمونها الإصلاحي، إضافةً إلى شنّ حرب سياسية لا دستورية على المسيرة الحريرية والحدّ من صلاحيات رئاسة مجلس الوزراء التقريرية ترسيخاً للعراقيل تجاه المشاريع الإنمائية الاجتماعية والاقتصادية. ونذكر على سبيل المثال لا الحصر، رد قانون أصول المحاكمات الجزائية، وتجيير قانون تشجيع الاستثمار لمصلحة المحسوبية السياسية، والكيدية المتعمّدة تجاه شركة سوليدير لما يحظى به وسط بيروت التجاري من مكانة لدى الرئيس الشهيد، وعرقلة مشروع إنشاء مدارس بيروت الحكومية. أما مستشفى بيروت الحكومي المجهّز بأحدث التقنيات وبعد تعيين مجلس إدارة للبدء بتشغيله لما سيقدّمه من خدمات طبية لا يزال المجتمع في أمسّ الحاجة إليها، تدخلت السياسة وأوقفت التعيينات في ملاك إدارته على رغم اتباع سياسة تعيينات للموظفين على أُسس علمية لا غبار عليها باعتراف أعلى السلطات الإدارية اللبنانية. وبالنسبة الى مشروع إنشاء مركز المؤتمرات على الأرض المملوكة من الدولة اللبنانية، فقد انتهى بعد الكثير من الأخذ والرد في أدراج رئيس الحكومة السابق عمر كرامي. أمّا برنامج الخصخصة الذي تمّ اعتماده عملياً في 2001 مع صدور المراسيم التطبيقية لإنشاء المجلس الأعلى للخصخصة في أيّار مايو من ذلك العام، وبعد صدور قانونين يراعيان خصخصة قطاعي الاتصالات والكهرباء، وعلى اثر الشروع في خصخصة قطاع الهاتف الخلوي، بدأت الحملات السياسية لإفشال المزايدة العالمية لاستدراج عروض لبيع رخصتي تشغيل شبكتي الخلوي التي أطلقها المجلس الأعلى للخصخصة وتمكّنت السياسة الكيدية من استصدار قانون يجيز للدولة اللبنانية استرداد القطاع ومنح رخصتي إدارته، الأمر الذي تمّ بطريقة مثيرة للتساؤل بعد إفشال محاولة بيع الرخصتين واستبعاد المشغّل اللبناني. وكلّنا على يقين بتردّي مستوى خدمات الخلوي منذ استرداد الدولة لهذا القطاع الذي أدّى لتاريخه إلى تغريم الدولة اللبنانية مبلغ 266 مليون دولار بقرار غير خاضع للاستئناف لمصلحة المشغّل السابق"إف تي إم إل"وأدّى إلى تغريم وزارة الاتصالات مبلغ 420 مليون دولار بدعوى أخرى أقيمت بحقّها من جانب شركة أميركية للاتصالات كانت الوزارة استبعدتها من المشاركة في استدراج عروض التشغيل، كما سيؤدي إلى تغريمها أيضاً مبلغاً لن يقل عن 300 مليون دولار لمصلحة المشغّل السابق ليبانسيل. إفشال الإصلاحات الاقتصادية أمّا أهمّ ما توصّلت إليه السياسة الكيدية ضد مسيرة الرئيس الحريري الاقتصادية فتجلّى بإفشال الإصلاحات الاقتصادية التي تعهّد لبنان تنفيذها في مؤتمر باريس - 2 في 23 تشرين الثاني نوفمبر 2002. ولكن، لكي تقوم هذه المساهمات المالية المخفِّضة للفوائد بدعم الاقتصاد اللبناني ولاستكمال الحصول على بعض المساهمات المشروطة إضافةً إلى استدراج المزيد من المساعدات الموعودة بها، كان على لبنان تنفيذ برنامج إصلاح اقتصادي تعهَّد به في مؤتمر باريس - 2 ومبني على إصلاحات المالية العامة التي تهدف إلى خفض الإنفاق وزيادة الإيرادات، وذلك عبر إصلاح إداري كامل للمؤسسات والإدارات العامة، وبرنامج خصخصة بعض القطاعات الإنتاجية المملوكة من الدولة وتسنيد عائدات هذا البرنامج، إضافةً إلى إحداث تغييرات في المناخ القانوني الحافز للقطاع الخاص. وقامت السياسة الكيدية ومنذ عودة الرئيس الشهيد من باريس إلى التصدّي بأساليب متعددة من خلال مجلس الوزراء للمشاريع المُدرجة في الوثيقة الإصلاحية المُتعهَّد بها في مؤتمر باريس - 2. نتيجةً لذلك، تمّ وقف التعيينات الإدارية وقام الحكم بتمرير المحسوبية بدلاً من الكفاية، كما تمّ إيقاف برنامج الخصخصة ووَضع اليد على ملف خصخصة قطاع الخلوي من جانب وزارة الاتصالات. واستُبيحت المشاريع الإصلاحية في قطاعات أساسية كالطاقة والمياه والضمان الاجتماعي، وصولاً إلى المسّ بالقطاع المصرفي من خلال الفضائح المالية والقانونية المدمِّرة التي ظهرت في ملف بنك المدينة. وماذا بعد؟ ماذا بعد استشهاد الرئيس الحريري؟ إن الظاهرة الشعبية المتجلّية بالتكاتف والتضامن الوطني لكل اللبنانيين باختلاف طوائفهم ومذاهبهم ومناطقهم باستنكارهم لهذه الجريمة الشنعاء، ومطالبتهم بمعرفة الحقيقة كما مطالبتهم بالحرّية والسيادة والاستقلال، هذه الظاهرة الديموقراطية المطالبة بانتخابات نيابية نزيهة، ستفرز مجلس نواب جديداً يعكس توجُّه المجتمع اللبناني نحو الإصلاح المرجو. فأي حكومة تُشكَّل بعد الانتخابات عليها التعهُّد بتطبيق الإصلاحات الاقتصادية التي وعد لبنان بتنفيذها في مؤتمر باريس - 2. كما عليها تثبيت المسيرة الحريرية الإصلاحية المرسِّخة لقوّة لبنان وسبب وجوده المتمثِّل بالعيش المشترك في ظل نظام ديموقراطي ليبرالي حُرّ ومنفتح، يرتكز على حماية الحرّيات العامة والفردية بكل وجوهها السياسية والاجتماعية والإعلامية وحقوق الملكية الخاصة والسرّية المصرفية وحرّية التحويل واقتصادات السوق واستقلال النظام القضائي. ملخص عن محاضرة أُلقيت في جمعية متخرجي الجامعة الأميركية في بيروت - فرع ابو ظبي، 14 نيسان ابريل. مستشار اقتصادي لرئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري.