نجحت سياسة بوتين النفطية والغازية، في وقت قياسي، في تأليب عدد متعاظم من الأعداء على روسيا. ويتوقع أن يترتب على انهيار ما بدا، لوهلة أولى، "سلطة ناعمة" يزاولها بوتين من طريق الإقناع من غير إكراه ولا تهديد، إضعاف مكانة روسيا الاقليمية وشيكاً. ولعل ما يتهدد مكانة موسكو بالضعف هو حسبانها أنها يأخذ بخناق أوروبا بواسطة أنابيب الغاز والنفط، واضطلاعها بدوري منتج طاقة ووسيط توزيع. ولكن أوروبا، غداة أزمتي أوكرانياوروسيا البيضاء بيلو روسيا، لم ترضخ، بل سعت في سياسة تقلل تبعيتها. والحق أن السبل التي تتيح لأوروبا الاقتصاص من روسيا، وتقييدها، كثيرة. وبعضها قد يكون عاجلاً وليس آجلاً. فالبحث الأوروبي عن مصادر بديلة لم يتأخر أسبوعاً واحداً. وتقضي الخطة الأوروبية بالحصول على 20 في المئة من الطاقة من مصادر متجددة قبل نهاية العقد القادم، الى تحسين استعمال الطاقة والحد من التبديد والتبذير. ويقضي البند الثاني بدمج شبكات توليد الكهرباء وتوزيعها بألمانيا وبولندا وليتوانيا، من ناحية، وبفرنسا واسبانيا، من ناحية أخرى. ويؤدي انجاز الدمج في الكتلتين، الشمالية والجنوبية، الى تحسين التكيف مع أزمات النفط والغاز، وغداة الأزمة البيلوروسية دعت مستشارة المانيا، أنجيلا ميركل، الألمان الى النظر في التخلي عن الطاقة النووية المدنية، على خلاف سياسة أقرت من قبل. ويرسي البند الثالث من الخطة الأوروبية اللبنات الأولى لبناء منشآت كبيرة تخزن الغاز السائل بعد أن تجمعه من مصادر متفرقة من العالم. وتكلفة المشروع الكبيرة يعوضها الاستقلال عن الابتزاز الروسي، ويروج البند الرابع لمد أنابيب تنقل الغاز من آسيا الوسطى وحوض قزوين من طريق البلقان، أي من غير اجتياز روسيا. وترقى هذه السياسة الى مرتبة هزيمة تصيب نهج بوتين. فالرئيس الروسي أرسى"عقيدة"امبراطورية على ركنين: بعث نفوذ روسيا في جوارها السوفياتي السابق، والاضطلاع بدور فاعل في مجالس أوروبا الغربية وهيئاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية، وبدا أن ارتفاع أسعار النفط يؤاتي"العقيدة"البوتينية، فعوائد الطاقة بلغت البلايين، ونصبت موسكو حكماً لا غنى عنه في الإنتاج والتوزيع. ووسع سيرغي كاراغانوف، أحد المحللين الروس، القول:"جرت الرياح الجغرافية - السياسية بما تشتهي سفننا"... وها أن الرياح تهب على غير ما اشتهى"القيصر فلاديمير"بوتين ويشتهي. فخلفت ميركل المستشار السابق، شرودر. وكان هذا حليفاً قريباً بل موالياً، وانتهى موظفاً في"غازبروم". وأخفقت محاولات السياسة الروسية التقرب من خليفة شرودر وكسب ودها، فأعلنت أن الأزمة البيلوروسية"دمرت الثقة"بين البلدين. وأعقبت الأزمة هذه، والأزمة الأوكرانية قبلها، مشادة حادة بين روسيا وبولندا كانت تجارة المنتجات الزراعية السبب فيها. وكانت موسكو أمرت بقطع امدادات النفط عن مصفاة"مازيكيو"الليتوانية البلطيقية بذريعة تقنية تسترت، على جاري العادة، على أزمة سياسية من ذيول انضمام ليتوانيا الى حلف شمال الأطلسي. وفي الأثناء، شنت موسكو حرباً قاسية على جورجيا، الجمهورية القوقازية، المخالفة. فاستبقت أذربيجان ربما الانفراد بها، بعد محاصرة جورجيا، واستغنت عن غاز الشركة الروسية الكبيرة "غازبروم" من طريق ايران. وابتاعت حاجتها منها، بأسعار أقل من الأسعار الجديدة الباهظة. وخططت الجمهورية القوقازية، وهي جزء بارز من"الجوار"الروسي السابق عضو في"مجموعة الدول المستقلة"ويصف الرئيس الأذربيجاني"المجموعة"، اليوم، بأنها"لا طائل منها" - خططت منذ بعض الوقت الى نقل مصبات نفطها من المرافئ الروسية الى تركيا. وعلى هذا، يخسر الكرملين حلفاء الجوارين القوقازي والأوروبي، ولعل ما أودى به الى هذه الخسارة اغتراره بموارد روسيا من الخامات، وحمله السياسة على القوة وإلحاق الاهانة بخصومه الضعفاء. ويقول كاغانوف:"لم نتجنب التجربة والابتلاء بالقوة، فانتشينا وركبت العنجهية رؤوسنا". ولا شك في أن بيلوروسيا، ورئيسها الديكتاتور الصلف، طريدة سهلة، ومن غير موارد. وهذه الحال ليست حال تركمانستان. فنصف الپ150 بليون م3 من صادرات روسيا السنوية مصدرها الجمهورية الآسيوية الوسطى. وهي تبيع الألف متر مكعب من روسيا بمئة دولار، وتبيع روسيا الكمية هذه من أوروبا بپ230 دولاراً. والربح الكبير هذا يتهدده بالضياع أنبوب أول يعبر الأراضي الإيرانية، وآخر تنوي الصين انشاءه، ووقع عقد الانشاء في 2005، وثالث يمر بقزوين ويمد أوروبا بالغاز التركماني من غير وساطة روسيا. فإذا خسرت روسيا غاز تركمانستان الرخيص انهار امتياز"غازبروم". والى هذا، فحقول الغاز الروسية لم تجدد الاستثمارات استغلالها، وهي الى أفول، فعلامَ تعول"القوة العظمى"المفترضة؟ عن أوين ماثيوز وستيفن غلين ، "نيوزويك" الأميركية، 17-23/1/2007