لماذا تعير الدول الكبرى، في خضم سياساتها ومنازعاتها الكونية، دولة صغيرة، هي قطاع أو اقليم على حدة، وليس في أرضها نقطة نفط، اهتماماً؟ ويجيب ضابط اميركي عن السؤال بالقول إن موقع جورجيا الاستراتيجي هو مثار عناية السياسة الاميركية وشاغلها. فالقوقاز هو ممر خروج الطاقة من حوض قزوين من غير التعريج على روسيا، ومن يسيطر على جورجيا يطل على القوقاز كله ويشرف عليه، وعلى موارد حوض قزوين العظيمة. ومنذ الصيف الماضي، فتحت طريق الالتفاف هذه. ومذ ذاك يصل خط أنابيب ضخم، هو الثاني طولاً في العالم 1760 كلم، باكو، في اذربيجان، بميناء جيحان التركي، من طريق تبليسي، العاصمة الجورجية، وقريباً، يمتد بموازاته خط أنابيب يتولى نقل الغاز. ومنذ ابتداء تشغيل خط الأنابيب الاول، في 13 تموز يوليو المنصرم، عمدت موسكو الى احراج جمهورية القوقاز الجورجية. فخط باكو - تبليسي - جيحان ب ت ج يؤرق الكرملين ويقلقه. وفي أول الأمر، حاول بوتين نسف المشروع. فلما أخفقت خطته، وأنشأت الخط شركات شل وشيفرون ويونوكال، يحاول بوتين السيطرة عليه. وهو يغامر بعشرات بلايين الدولارات، وبمكانة روسيا، في هذا السبيل. ويعد اصحاب خط الأنابيب السياسي العدة لاستخراج موارد اذربيجان من الطاقة، أولاً، ثم لموارد حوض قزوين، الى تركمانستان، ثانياً. وفي الاحوال كلها، يلتف رسم الخط، والخطوط الآتية، على روسيا. وعلى هذا تخسر موسكو عائداً هائلاً من حقوق المرور، وتضعف مكانتها في آسيا الوسطى. وثمة سبب آخر يحمل بوتين على الطمع في جورجيا. فالولاياتالمتحدة لا تفتأ تعلن على الملأ أن تبليسي هي رأس حربة الغرب السياسية والعسكرية في الامبراطورية السوفياتية سابقاً. بل هي مثال"ديموقراطي"يحسن بالجمهوريات السوفياتية الاحتذاء عليه. وتتولى جورجيا، في عبارة أخرى، قضم نفوذ روسيا المتسلطة في المنطقة. وكان ابتداء كابوس الكرملين في كانون الأول ديسمبر 2003، تاريخ اندلاع ثورة الورود التي حملت قادة من الشباب، ومعظمهم درس في الولاياتالمتحدة، الى السلطة. وعول البيت الأبيض عليهم، وأحاطهم بالمستشارين. وسددت واشنطن مرتبات الموظفين الجورجيين، واستثمرت من غير حساب في إعداد جيش متهافت. وتبنت دخول جورجيا حلف شمال الاطلسي. ولقاء هذا، ساند الحكام الجدد حرب العراق، وأرسلو 900 جندي، وبلدهم يعد 4 ملايين نسمة، الى بغداد. وبدا أن الرياح تجري بما تشتهي السفن الأميركية والجورجية. فدشنت الحكومة الجورجية في أيار مايو 2006 أول قاعدة أ، في قاعدة ثانية تمولها الولاياتالمتحدة. وتوجت مفاوضات حثيثة مع الاطلسي هذه الخطوات. فلا عجب اذا ثارت ثائرة بوتين. والحق أن دخول جورجيا الاطلسي يترتب عليه طلب أرمينيا الانضمام الى الحلف الغربي. ولن تتأخر اذربيجان عن الحذو حذو أرمينيا. فلا يبقى في القوقاز كله بلد واحد خارج الحلف الغربي. ووراء القوقاز، حزام آسيا الوسطى. ويبعث بوتين على الغضب والثورة حسبانه أنه تعاهد مع جورج بوش، منذ اوائل العام 2000، على سياسة معتدلة ومرنة. فهو رضي إلغاء محطة رصد روسية كانت في كوبا. وألغى محطة أخرى في فيتنام. وعندما احتاجت القوات الأميركية، في طريقها الى افغانستان، الى قواعد تشن منها الحرب على طالبان و"القاعدة"، لم يعترض على انشاء قواعد في أوزبكستان وكازاخستان. ولقاء هذه الهدايا، توقع أن يمتنع البيت الأبيض من التدخل في شؤون الاتحاد السوفياتي السابق، على خلاف سياسة البيت الأبيض. وفي ضوء هذه السياسة عزم الكرملين على استعادة"بلدانه"و"أقاليمه". ففي آسيا الوسطى، قمع حاكم اوزبكستان، في أيار 2005، انتفاضة أهلية. وانفردت روسيا، من بين الدول الأخرى كلها تقريباً، بتهنئة إسلام كريموف على فعلته، وانتصرت له. ولقاء الانفراد هذا طلب بوتين الغاء القواعد الأميركية بأوزبكستان. وفي أوكرانيا، انتظر سيد الكرملين شتاء 2006 القاسي، وألح على الحكومة الأوكرانية المتحدرة من الثورة البرتقالية في استيفاء"غازبروم"الروسية سعر غاز التدفئة بسعر أعلى اضعافاً من السعر السابق. ولم تستأنف امدادات الغاز إلا بعد تولي رئاسة الحكومة الاوكرانية رئيس يوالي روسيا. وبقيت جورجيا عصية على النفوذ الروسي. فأطلق الكرملين العنان لأجهزة استخباراته في أعمال التخريب، من وجه، وفي تأليب بلدين"مستقلين"ضمتهما روسيا عملياً اليها، يقعان بجوار جورجيا، هما اوسيتيا وابخازيا، على تبليسي ورئيسها الشاب والمتهور، ميخائيل ساكاشفيلي، الذي جاءت به ثورة الورود. وفي 12 تشرين الثاني نوفمبر الجاري، دعت موسكو الى استفتاء أهالي اوسيتيا الجنوبية في الاستقلال الناجز والانضمام الرسمي الى روسيا. فاقترعوا بالإجماع. وقريباً يدعو أهالي ابخازيا الى استفتاء آخر يشبه الأول. ولم تفلح، الى اليوم، محاولات الانقلاب على ساكاشفيلي. ويخشى أصدقاؤه أن تحمل المبادلات الاستراتيجية، في شأن قضايا كبيرة مثل ايران وكوريا الشمالية، السياسة الأميركية المتعثرة على المقايضة، والنزول عن ساكاشفيلي إن لم يكن على جورجيا. عن فانسان جوفير ، "لونوفيل أوبسرفاتور" الفرنسية، 23 - 29 /11/ 2006