يشهد مطلع العام 2007 مفارقة صارخة، تصل حد الفصام المرضي، بين نضج الفكر التنموي المتاح من ناحية، وبؤس الممارسة، من ناحية أخرى، يفضي إلى شقاء الشعب العربي، لا براء منه إلا عبر إصلاح سياسي واسع وعميق، ينعكس في استراتيجية لتصحيح المسار التنموي في البلدان العربية. أولا: ازدهار في الفكر التنموي لم يخصّب أرض الواقع العربي بعد أ-- عالميا: عودة الفكر التنموي العالمي، الصادر عن مؤسسات التمويل الدولية، إلى الصواب، بعد طول ضلال، من خلال الإقرار بالأهمية الحرجة للعدالة الاجتماعية والإنصاف كمحور للتنمية، غاية وآلية. يظهر ذلك التصحيح بأبرز ما يكون في تقرير البنك الدولي عن التنمية في العالم للعام 2006. وقد يدهش البعض أن ذلك التقرير لا يجد غضاضة في التوصية بزيادة التشغيل في القطاع الحكومي كآلية لتحقيق العدالة ولمكافحة البطالة. فرضت العودة إلى الصواب هذه الكوارث التي جلبتها حقبة الليبرالية المحدثة، أو ما سمي" توافق واشنطن"، على صعيد العالم عامة والبلدان العربية خاصة. فقد مثلت هذه الحقبة انحرافا خطيرا في فهم الحرية في المنظور الليبرالي خدمة لمصالح قوى مهيمنة في هيكل القوة العالمي، على وجه التحديد مراكز النظام الرأسمالي العالمي. إذ أعلت من حرية رأس المال، خاصة الكبير منه، بلا رقيب أو حسيب ولو على حساب الحرية الفردية بمعناها الشامل، في سياق العولمة الاقتصادية المنفلتة والأسواق الطليقة، منذ الربع الأخير من القرن الماضي. وكانت النتيجة الحتمية لهذه التوليفة الظلوم هي نشر الإفقار وترسيخ الظلم، بإضعاف الضعيف أكثر وتوحش القوي، على صعيد العالم وداخل البلدان التي تبنتها خدمة لمصالح قوى خارجية متحالفة مع المتنفذين فيها، من دون تبني الإصلاح المؤسسي اللازم لكفاءة النظم الرأسمالية الناضجة، أي حماية المنافسة ومناهضة الاحتكار، وضمان العدالة التوزيعية في عموم المجتمع. وجدير بالذكر أن الفكر التنموي العالمي كان قد اهتدى، للأسباب نفسها، ولتصحيح الأخطاء الجسيمة السابقة في سنوات سابقة قريبة، إلى أهمية الإصلاح المؤسسي وضبط الدولة للأسواق، وحتى الحكم الصالح، للمشروعات وللدولة، باعتبارها محاور للتنمية السليمة. إذن الفكرالعالمي عاد الى الصواب بعد فترة من الضلال، الذي توخى خدمة الرأسمالية المنفلتة. وهذا هو السقف الأدنى للفكر التنموي في العالم، في نظري. ب- عربيا: اكتمال المشروع الفكري لنهضة إنسانية في الوطن العربي عبر اربعة إصدارات متكاملة لتقرير التنمية الإنسانية العربية. ويمكن القول إن هذا المشروع يمثل السقف الأعلى للفكر التنموي علىصعيد العالم كله ولكن من منظور عربي. تكفي هنا الإشارة للأساس المفهومي للمشروع الذي يقوم على تعريف للتنمية الإنسانية يكافئ الحرية بالمعنى الشامل الذي يمتد من حرية الوطن على بعدي التحرر الوطني وتقرير المصير إلى حرية المواطن صيانة الحريات الفردية مع ضمان العدل والكرامة الإنسانية، وهي قيم عليا للثقافة العربية الإسلامية في موازاة كامل منظومة حقوق الإنسان. وتستلزم صيانة الحرية في هذا المنظور الشامل، قيام نسق من الحكم المؤسسي الصالح. في هذا المنظور يمثل الاحتلال الأجنبي نفيا مطلقا للتنمية الإنسانية حيث يؤدي اغتيال حرية الوطن إلى إهدار الكرامة الإنسانية للمواطنين جميعا، وفي العراق وفلسطين عبرة لمن يعتبر. ومن ثم يتطابق مشروع التنمية الإنسانية مع النضال من أجل التحرر الوطني، في الأراضي المحتلة كما في عموم الوطن. هناك إذن نضج في الفكر التنموي، يصحح أخطاء جسيمة سابقة، على صعيد العالم. وهناك مشروع فكري حتى أرقى من إبداع عربي، فأين الواقع العربي من هذا النضج الفكري؟ هنا يصح تذكر مقولة الإمام علي:"ما أكثر العبر وما أقل الاعتبار". ثانيا: الفكر السائد عربيا شديد التخلف بالمقارنة بالنضج الفكري المتاح، وانعكاسه في الممارسة الفعلية كارثي، نتيجة لفساد الحكم. ما زالت السياسات السائدة في البلدان العربية تطبق مفاهيم الليبرالية المحدثة، أي الأسواق الطليقة في سياق عولمة اقتصادية جائرة، التي راجت منذ بداية الربع الأخير من القرن العشرين، من دون الشروط المؤسسية اللازمة لنجاحها. ذلك على رغم ما ترتب على تطبيقها من سيئات مجتمعية صارخة استدعت التصويب على مستوى المؤسسات المالية الدولية التي روجت، وضغطت في أحيان، من أجل تبني هذه السياسات الليبرالية المحدثة. ولكن لما تأكدت مغبتها عادت عنها، وإن كان بعد فوات الأوان من وجهة نظر معينة. ولكن الساسة في البلدان العربية ما زالوا لا يسمعون إلا نفير السبعينات الذي أطلقته قوى الرأسمالية العالمية ثم خرس بعد أن تبين ضلاله، فلا وقت لديهم ولا جهد لمتابعة تطور الفكر التنموي. المهم ان التطبيق في الممارسة أنتج، في البلدان العربية، المساوئ الجسام المتوقعة، والتي اقتضت التصحيح من المنشئين. فعلى رغم أن الليبرالية المحدثة جاءت لحفز النمو الاقتصادي، وعلى رغم عائدات النفط، فقد كان معدل النمو الاقتصادي في مجمل البلدان العربية هو الأقل بين مناطق العالم في الربع الأخير من القرن العشرين حتى قدّر تقرير"التنمية الإنسانية العربية"الأول أن استمرار ذلك المعدل يعني أن تتطلب مضاعفة الناتج للفرد 140 عاما. ولعل السبب الأهم لهذا البطء في النمو هو تدني الإنتاجية، الذي يعود لتفاعل مركب بين عديد من العوامل ربما أهمها وهن المعرفة بسبب قصور التعليم، خاصة تدني جودة التعليم وقرب غياب التدريب الجيد، وقصور حكم قطاع الأعمال. وأخيراً، وعلى رغم تعافي معدل النمو الاقتصادي في المنطقة العربية منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، استجابة لارتفاع سعر النفط في السوق العالمي، إلا أنه لم يتجاوز مجرد التضخم المالي لدى بعض البلدان العربية فلم يقترن بتعاظم البنية الإنتاجية أو برقي الطاقات التقنية المحلية، ولم يخلق فرص عمل على نطاق يكفي لمكافحة فعالة لمشكلة البطالة - الفقر المزمن، أو رقي في الرفاه الإنساني، ما يذكرنا بالتفرقة البليغة بين الشحم والورم في الشعر العربي. كما ترتبت على تطبيق هذه السياسات مساوئ مجتمعية مدمرة من أهمها تفشي الفقر والبطالة، خاصة بين الشباب المتعلم والنساء، وتفاقم سوء توزيع الدخل والثروة، ومن ثم القوة. وطبيعي أن الفئات المجتمعية الأضعف عانت من هذه المساوئ أشد من غيرها. ويعني حل مشكل البطالة المستفحل في البلدان العربية خلق عشرات الملايين من فرص العمل الجيد خلال سنوات قليلة. والعمل الجيد يوظف قدرات الفرد ومهاراته، في ظل ظروف إنسانية، ويحقق كسبا يضمن الوفاء بالاحتياجات على مستوى إنساني كريم. والبلدان العربية تبدو جد بعيدة عن بداية جادة على هذا الدرب. كما استفحل عديد من الظواهر الكارثية الأخرى. فتفشت في بعض البلدان العربية حالة مرضية من اللهاث وراء ما سمي زورا وبهتانا بالاستثمار الأجنبي، الذي يأخذ في الغالب شكل بيع المشروعات العامة التي قامت الدولة على بنائها في الماضي، ويصل في أحيان حد بيع أرض الوطن ذاتها وبأثمان بخسة. ودار كل هذا في سياق من استشراء الفساد وغياب الإصلاح المؤسسي ومعايير الحكم الصالح الكفيلة بصيانة المال والصالح العام. وجدير بالتذكر هنا الحجم الهائل للفساد الذي ساهم في استشرائه توافر موارد مالية ضخمة للسلطات الحاكمة في البلدان العربية، نفطية وغير نفطية، لا تخضع لمراقبة أو محاسبة صارمة كما تقضي أنظمة الحكم الصالح. واضطرد هروب رؤوس الاموال من البلدان العربية إلى الخارج، فتعاظمت الأموال والكفاءات العربية الهاربة إلى بلدان الغرب بينما تعاني البلدان العربية عجزا مزريا في مجالي الاستثمار المحلي وفي البحث والتطوير التقاني كليهما. في النهاية يبقى وهن التعاون العربي من أشد مشاكل التنمية استفحالا في الوطن العربي، ومن أهم الأمثلة غياب سوق قومي للعمل، كفؤ وفعال يمكن أن يحقق مصلحة جميع المنتمين إليه، بلدانا وأفرادا. وسيبقى نجاح الاتحاد الأوروبي في الوصول لمرحلة التكامل، على قلة مقوماته بالمقارنة بالمنطقة العربية، وقد بلغ عدد أعضائه أخيرا 27 يضمون قرابة النصف مليار نسمة، تذكرة مؤلمة بتداعي الترتيبات المؤسسية للتعاون العربي القائمة. هذا على مستوى السقف الأدنى لمفهوم التنمية، حيث تجلب السياسات الراهنة ألوانا من الشقاء لغالبية الشعب العربي. أما إذا انتقلنا إلى السقف الأعلى، التنمية باعتبارها الحرية، ففشل الدول العربية في التنمية أوضح من أن يذكر، ألخصه في تسمية المسار الراهن بمسار هوان الأمة، شاملا هوان الوطن والمواطنين جميعا. فيضطرد حبس الحرية في البلدان العربية، وتتواصل استباحة الأمة من قوى الهيمنة العالمية المتحالفة معها. كما أضحى إدعاء الإصلاح مجرد ستار تجميلي يسدل على تفاقم القهر والاستباحة. يكفي أن زاد احتلال العراق في مطلع القرن الحادي والعشرين، على الاحتلال العنصري التوسعي الغاصب لفلسطين، وإن عادت القوات العسكرية الأجنبية تدنس الأرض العربية بعد عقود من الاستقلال الذي ناضلت من أجله الشعوب العربية. ومع ذلك تخترق ستر الهوان القاتمة ومضات الضوء الباهرة التي يطلقها صمود المقاومة الباسلة في لبنان وفلسطين والعراق. نهاية، السياسات الراهنة جرت ويلات مجتمعية أيا كان سقف المفهوم التنموي المتبنى. ثالثا: تصحيح واجب: بات مطلوبا بإلحاح أن ترقى الممارسة التنموية في البلدان العربية إلى مصاف نضج الفكر التنموي عالميا، وعلى الأخص عربيا. في سياق من الإصلاح السياسي الواسع والعميق، المفضي لقيام مجتمع الحرية الحكم الصالح، وبناء مجتمع المعرفة، مطلوب إعادة الاعتبار لفكرة التنمية المستقلة في المنظور الإنساني. وإعادة الاعتبار لفكرة الملكية العامة، فيما يتعدى ملكية الحكومة، وإلى نمط الملكية والإدارة التعاونية التي تناسب التطور في القدرة الإنتاجية تحت نمط حجم المشروعات السائد في البلدان العربية الذي تغلب فيه المشروعات الصغيرة. السؤال هو: هل هذا التحول الجذري ممكن؟ والإجابة هي نعم، ولكن فقط في ظل أنظمة حكم ممثلة بنزاهة لعموم الناس، وخاضعة للمساءلة الفعالة من قبلهم، وتمارس الحكم المؤسسي الصالح في ظل سيادة قانون حام للحرية وقضاء مستقل قطعا. هكذا في منظور التنمية الإنسانية، تتجلى الأهمية الحرجة للإصلاح السياسي الواسع والعميق المفضي لقيام مجتمع الحرية والحكم الصالح في الوطن العربي. عند ذلك يمكن أن تبدأ البلدان العربية حقبة جديدة من الازدهار التنموي تنافح الشقاء المخيم على الغالبية العظمى من العرب، وتطمح لنيل الحرية والحكم الصالح في عموم الوطن العربي من خلال الإصلاح السياسي الواسع والعميق، سبيلا لبدء مسيرة للنهضة الإنسانية تكفل للعرب كافة، الكرامة والعزة . * باحث وكاتب مصري