صدر أمس التقرير الثالث للتنمية الانسانية العربية تحت اشراف الأممالمتحدة، وهو يطرح معالجة متعمقة لنقص الحرية والحكم الصالح في العالم العربي، ولعل هذه القضية هي الأشد حضوراً في النقاش الدائر داخل المنطقة وخارجها في الوقت الراهن. وهذا التقرير هو الإصدار الثالث من سلسلة "تقرير التنمية الإنسانية العربية" التي تستهدف طرح نواة فكرية تعين في صوغ مشروع النهضة عبر حفز نقاش جاد حوله في البلدان العربية. لقد اضحت ازمة التنمية في الوطن العربي من الجسامة والتعقيد وتشابك الجوانب، بحيث اصبح أي اصلاح حق لإحدى النواحي المطلوبة لبناء نهضة انسانية في المنطقة يستلزم ان يمتد الى جنبات المجتمعات العربية كافة، فلم يعد الإصلاح الجزئي كافياً مهما تعددت مجالاته، بل ربما لم يعد ممكناً من الاساس بسبب احتياج الإصلاح الجزئي الفعال لبيئة مجتمعية حاضنة. ومن ثم، فإن الإصلاح المجتمعي الشامل في البلدان العربية لم يعد يحتمل الإبطاء والتباطؤ حرصاً على مصالح راهنة مهما كان نوعها، ذلك ان القيد السياسي على التنمية الإنسانية في البلدان العربية هو الأكثر وطأة والأبعد إعاقة لفرص النهضة فيها. هنا مقتطفات من التقرير. لماذا بقي العرب الأقل تمتعاً بالحرية بين مختلف مناطق العالم؟ وما الذي يفرغ المؤسسات "الديموقراطية"، حين تنشأ في العالم العربي، من مضمونها الأصلي الحامي للحرية؟ لقد حاول البعض تفسير هذا التفارق في سياق إشكالية العلاقة بين الشرق والغرب وثنائيتها، والتي عادة ما تربط القطب الأول ب"الاستبداد" باعتباره سمة للشرق والحضارة الشرقية. على حين تربط القطب الثاني بالحرية باعتبارها ميزة للحضارة الغربية. كما ادعى البعض احياناً ان العرب والمسلمين لا يمكن ان يكونوا ديموقراطيين، وبسبب العروبة "العقلية العربية" او الإسلام. إلا ان الدراسات تشير الى ان هناك تعطشاً, منطقياً ومفهوماً, لدى العرب لنبذ الحكم التسلطي والتمتع بالحكم الديموقراطي. ففي مسح القيم العالمي، الذي شمل تسع مناطق من العالم بما فيها البلدان الغربية المتقدمة، جاء العرب على رأس قائمة الموافقة على ان "الديموقراطية افضل من أي شكل آخر للحكم". كما جاؤوا بأعلى نسبة رفض للحكم التسلطي. ولا ريب ان السبب الرئيس لإخفاق عملية التحول الديموقراطي في العديد من الأقطار العربية لا يرجع الى مسائل ثقافية بقدر ما هو تعبير عن تضافر بنى اجتماعية وسياسية واقتصادية عملت على غياب او تغييب القوى الاجتماعية والسياسية المنظمة القادرة على استغلال ازمة النظم التسلطية والشمولية، وبالتالي الى افتقار الحركة الديموقراطية الى قوة دفع حقيقية. اضافة الى ذلك، فإن ثمة بعض الإشكاليات التي خصت هذا الجزء من العالم من دون سواه وساهمت في تعميق ازمة الحرية. التناقض بين الحرية في البلدان العربية ومصالح القوى المهيمنة عالمياً لقد برز في النصف الأول من القرن الماضي عاملان قدّر ان يصبح لهما أبلغ الأثر في مواقف الدول الكبرى تجاه الحرية في المنطقة العربية، هما اكتشاف النفط وإنشاء دولة اسرائيل. فقد ادى اكتشاف النفط بوفرة في المنطقة، وتعاظم دوره في الاقتصادات المتقدمة الى ان يصبح تأمين تدفق النفط بأسعار مناسبة على رأس مصالحها في المنطقة العربية. ونظراً لارتباط مصالح بعض الدول الغربية بإسرائيل، اصبح من اهم معايير رضى هذه القوى, خصوصاً الولاياتالمتحدة الأميركية، عن دولة عربية ما هو موقفها من دولة الاحتلال الإسرائيلي وممارساتها. وكانت النتيجة ان تعامت القوى الدولية، حتى وقت قريب، عن انتهاكات حقوق الإنسان في البلدان العربية ما دامت الدول المعنية لا تهدد هذه المصالح. وترتب على ذلك استفحال القمع والقضاء على فرص التحول الديموقراطي في البلدان العربية. وزادت احداث الحادي عشر من ايلول سبتمبر بعداً اضافياً لهذا التوتر حين اختارت الإدارة الأميركية الحالية التضييق على الحريات المدنية والسياسية, خصوصاً للعرب والمسلمين، سبيلاً لمكافحة "الإرهاب" كما تعرّفه، وقد ادى لجوء بعض البلدان الغربية الى ممارسات تعد قمعية وتمييزية، خصوصاً بالنسبة الى العرب والمسلمين، الى اضعاف موقف القوى المطالبة بالحرية والحكم الصالح في البلدان العربية في مواجهة سلطات لم تعد ممارساتها تختلف جذرياً عن النموذج الذي كان يعد المثال للحرية والديموقراطية في العالم. وعانت قضية الحرية من قلة حضور حركات سياسية عربية ذات عمق جماهيري واسع تناضل من اجلها. اذ لم تضع الحركات السياسية التي لاقت رواجاً شعبياً واسعاً، خصوصاً التيار القومي العربي والتيار الإسلامي لاحقاً، الحرية على رأس اولوياتها الفعلية، وحين اولت هذه الحركات اهتماماً لقضية الحرية، طغى عليها بعد التحرر الوطني الذي ساهم في اعلاء اولويته، ولا شك، اتقاد الصراع مع القوى الاستعمارية في النطاقين الإقليمي والعالمي. التيار الرئيس في الفقه الإسلامي مع الحرية دون حيف. وترى التأويلات الإسلامية المستنيرة في آليات الديموقراطية، عندما تستقيم، واحداً من الترتيبات العملية التي يمكن ان تستخدم لتطبيق مبدأ الشورى. ومن المبادئ الجوهرية في الإسلام التي توجب إقامة الحكم الصالح، تحقيق العدل والمساواة، وكفالة الحريات العامة، وحق الأمة في تولية الحكام وعزلهم، وضمان جميع الحقوق العامة والخاصة لغير المسلمين. غير ان هذه المبادئ السامية، والتفسيرات المستنيرة النابعة منها، لا تنفي ان تفسيرات للإسلام ما فتئت توظف من قبل قوى سياسية، سواء في السلطة او المعارضة، لدعم التسلط او ترسيخه في المستقبل - وذلك هو الاحتمال الأكثر خطراً. دساتير تمنح الحقوق وقوانين تصادرها حريات الرأي والفكر والتنظيم: تتضمن العديد من الدساتير العربية احكاماً خاصة بحرية الفكر والرأي والمعتقد، وبحرية الاجتماع السلمي وتكوين الجمعيات والانضمام إليها. إلا ان الدستور قد ينص في صلب مواده على عدد من القيود على حق تكوين الجمعيات حفاظاً على متطلبات الأمن القومي او الوحدة الوطنية، ويسمح بالظاهرة الحزبية في 14 بلداً عربياً، في حين تحظر الجماهيرية الليبية والبلدان العربية الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي تشكيل الأحزاب السياسية فيها. وتحيل الدساتير الى التشريع العادي لتنظيم الحريات والحقوق، وغالباً ما يجنح التشريع العادي، الى تقييد الحق، بل مصادرته احياناً، تحت ستار تنظيمه. وبهذا يفقد النص الدستوري على الحقوق والحريات - على رغم ما قد يوجد فيه احياناً من قصور - كثيراً من جدواه، ليتحول الى مجرد واجهة دستورية تتفاخر بها الدولة امام المجتمع الدولي، على رغم كونها لافتة فارغة من أي مضمون حقيقي. وفي الدول التي تقوم على الاقرار الدستوري بالتعددية الحزبية، اشترط المشرع ضرورة الترخيص المسبق لانشاء اي حزب من قبل هياكل يغلب على تشكيلها الطابع الحكومي. وتضع تشريعات اخرى شروطاً غير منضبطة لنشاط الاحزاب تفتح الباب امام ممارسة الدولة سلطة الحل بزعم مخالفة هذه الشروط. ومن قبيل الانتهاكات التشريعية لحقوق الانسان في البلدان العربية القوانين التي تقيد حرية الصحافة او تصادرها بدعوى التنظيم. يتحقق ذلك من طريق نص التشريع على جواز الرقابة المسبقة في احدى عشرة دولة او اللاحقة على الصحف، او تلك النصوص التي تفرض القيود على حق اصدار الصحف بحيث تجعل من الترخيص باصدار الصحيفة وسحب هذا الترخيص سلاحاً في يد السلطة التنفيذية. ولم يرد نص على حق الصحافي في الحصول على المعلومات والاخبار، الا في تشريعات خمس دول عربية هي مصر والسودان واليمن والأردن والجزائر. ان المشرع العربي في تنظيمه لحرية الرأي والتمييز، بما في ذلك التنظيم القانوني للصحافة ووسائل الاتصال الجماهيري، يغلب ما يتصوره هو من اعتبارات للأمن والمصلحة العامة على قيم الحرية والتعددية واحترام حقوق الانسان. وبهذا تمتلئ التشريعات العربية العقابية منها وغير العقابية بعديد من النصوص التي تنظر الى النشر الصحافي والبث المسموع والمرئي وممارسة حرية التعبير عموماً على انها أنشطة خطرة تجدر احاطتها بسياجات قوية من المحظورات والقيود التي تفرض على هذه الانشطة جزاءات رادعة. لقد اجمعت الدساتير العربية على استقلال القضاء وحرمته. الا ان الدساتير العربية حافظت على حضور السلطة التنفيذية داخل جسم القضاء ومؤسساته، فعلاوة على ان الاحكام تصدر وتنفذ باسم رؤساء الدول، فقد أوكلت لهم حق ترؤس الهيئات الدستورية المشرفة على القضاء. ويسجل للكثير من الدساتير العربية نصها على العديد من ضمانات المحاكمة العادلة كمبادئ للشرعية الجنائية خصوصاً وعدالة المحاكمة عموماً. وعلى رغم هذه النصوص الدستورية، فإن ما يرصده الباحثون ونشطاء حقوق الانسان هو التباعد بين النصوص والواقع، لأسباب سياسية في معظمها. ذلك ان القضاء، كمؤسسة، شأنه شان القضاة كأفراد، يتعرضون لمخاطر تنال من استقلالهم. ففي النظم الشمولية ذات الزخم العقائدي المتحكم في امرها، لا يستطيع القضاء او القضاة ان ينأوا عن تأثير تدخل السلطة التنفيذية، بدعوى حماية الأسس العقائدية للمجتمع الشمولي. كما ان وجود المخصصات المالية للقضاء في يد السلطة التنفيذية، وتدخل هذه السلطة في تعيين القضاة ونقلهم وعزلهم، اضافة الى الاغراءات المادية والمعنوية التي تقدمها للقضاة، يجعلهم في كثير من البلدان العربية غير مستقلين من الناحية الفعلية. ويحمل بعض الدساتير العربية في صميم نصوصها تعارضاً مع المبادئ الدولية لحقوق الانسان من طريق تبني صياغات ذات طبيعة ايديولوجية او دينية تصادر الحقوق والحريات العامة او تسمح بمصادرتها. ومن أخطر صور الانتهاكات التشريعية لحقوق الانسان في العالم العربي سماح المشرع العربي للسلطة التنفيذية باللجوء الى اعلان حالة طوارئ بافراط. فأصبحت حالة الطوارئ حالة دائمة مستمرة من دون وجود ما يستدعيها من اخطار، وتجرد حالة الطوارئ المواطن من كثير من حقوقه الدستورية مثل حرمة المسكن، والحرية الشخصية، وحرية الرأي والتعبير والصحافة، وسرية المراسلات، والحق في التنقل، والحق في الاجتماع، وهي تنزع قدراً من سلطة التشريع من يد البرلمان المنتخب وتضعها في يد السلطة التنفيذية او الحاكم العسكري سلطة الطوارئ. أزمة الشرعية في غياب شرعية تستمد من ارادة الغالبية، لجأت معظم الانظمة العربية الى الاستناد الى شرعيات تقليدية دينية / قبلية او ثورية قومية / تحريرية أو أبوية تدعي الوصاية على المجتمع بحكمة "رب العائلة". بيد ان الفشل في التصدي للقضايا الكبرى مثل قضية فلسطين والتعاون العربي، ووقف التدخل الاجنبي، والتنمية الانسانية، اضافة الى ضعف تمثيل الدولة العربية للقوى الفاعلة في المجتمع وقيام مواجهة بينها وبين هذه القوى، جعلها تواجه ازمة شرعية مزمنة. قباتت بعض هذه الانظمة تركز في خطابها للجماهير على شرعية الانجاز او الوعد به في مجالات محددة، مثل الاقتصاد، او السلام، او الرخاء والاستقرار، او المحافظة على القيم والتقاليد. وكان مجرد الحفاظ على كيان الدولة في مواجهة تهديدات خارجية في بعض الاحيان انجاز يكرس الشرعية. وتعضد بعض الانظمة الآن شرعيتها باعتماد صيغة مبسطة وفاعلة لتبرير استمرارها، وهي كون هذا النظام بعينه أهون الشرين، وخط الدفاع الاخير ضد الاستبداد الاصولي او ما هو أسوأ، أي الفوضى وانهيار الدولة، وهو ما سماه البعض "شرعية الابتزاز". ومع تآكل شرعية الابتزاز، بسبب الادراك المتزايد بأن عدم وجود البديل الصالح هو في حد ذاته ثمرة من ثمرات سياسات الانظمة التي أغلقت منافذ العمل السياسي والمدني بما يمنع تبلور البدائل، فان استمرارية "دولة الثقب الأسود" اعتمدت الى حد كبير على اجهزة التحكم والدعاية، اضافة الى تحييد النخب بالترغيب والترهيب، والمسارعة الى عقد الصفقات مع قوى الهيمنة الاجنبية او الاقليمية، او الى التكتل في ما بين الدول، لتعزيز وضع النخب الحاكمة ضد القوى الصاعدة. ويتأرجح وضع المجال السياسي العربي اليوم بين دول تنهج منهج المنع القاطع لأي تنظيم حزبي، وبين دول تسمح بتعدد حزبي مشروط، غالباً ما يشمل بالتحديد حظر أهم وأقوى حزب معارض، مع انحياز الدولة الى حزب تنشئه السلطة، ويسمى "الحزب الحاكم". وتضع الدول التي تسمح بالعمل الحزبي عراقيل في وجه أحزاب المعارضة، تتمثل في حرمانها من الموارد والتغطية الإعلامية، والتحكم في اجراءات الترشيح والانتخاب، واستخدام القضاء والجيش والأجهزة الأمنية لتحجيم نشاطها، وملاحقة قادتها وناشطيها والتأثير في نتائج الانتخابات. وتعاني أحزاب المعارضة، اضافة الى ما تواجهه من قمع رسمي، من مشكلات داخلية لا تقل خطورة، فعلى رغم احتكام هذه الأحزاب نظرياً في نظمها الى الديموقراطية، فإن الممارسة تكشف عن تسلط النخبة السياسية النافذة في غالبية هذه الأحزاب، فترتب عن ذلك ان أصبحت القيادات أبدية لا تنتهي في الغالب الأعم إلا بالوفاة، مع استثناءات نادرة، مما شكك في شعاراتها الحداثية والديموقراطية. وهناك الانشقاق "الطائفي" الحاد في المجتمع السياسي بين الأحزاب الاسلامية من جهة، والأحزاب العلمانية من ليبرالية وقومية من جهة أخرى هذا مع وجود انقسامات طائفية أخرى مذهبية وعرقية وقبلية واقليمية. وقد دفع هذا التشرذم الطائفي بين الأحزاب والقوى السياسية الى تفضيل التعاون مع الحكومات غير الديموقراطية على التعاون مع منافسيها الحزبيين لارساء أسس حكم ديموقراطي يكون مفتوحاً للجميع. وأدى وضع العراقيل أمام مشاركة أحزاب المعارضة في السلطة، الى تهميش بعض الأحزاب وضمورها. كما ولد قدراً كبيراً من عدم الثقة في العملية السياسية برمتها، ودفع بالبعض الى اختيار العمل السياسي السري، وانتهاج أساليب العنف والارهاب، او الى السلبية السياسية، من جهة أخرى، ولد اغلاق الفضاء السياسي اقتناعاً لدى بعض الناشطين والباحثين بضرورة التعويل على منظمات المجتمع المدني، وخصوصاً النقابات والمنظمات المهنية باعتبارها المؤهلة أكثر من الأحزاب السياسية العربية لقيادة المجتمع العربي نحو التنمية والديموقراطية. وكان الفساد الاقتصادي نتيجة طبيعية للفساد السياسي، ويأخذ الفساد في بعض البلدان شكل "الفساد البنيوي"، حيث يعتبر الاستغلال الشخصي للمنصب والتصرف في المال العام أمراً طبيعياً في العرف السائد. ويأخذ شكل "الفساد الصغير" في بلدان أخرى ويقصد به اضطرار المواطنين في البلدان العربية للجوء الى توظيف الوساطة والمحسوبية، أو لدفع رشوة، للحصول على خدمات كثيراً ما تكون مشروعة، أو لتفادي عقاب ما من جهات الادارة. واذا كانت معالجة الفساد تحتاج الى اجراءات تشمل، في ما تشمل، اصلاح الأوضاع الاقتصادية وتفعيل القانون وآليات المحاسبة، وضمان الشفافية في الحكم، فإن الفساد البنيوي لا علاج له إلا بإصلاح جذري للبنية السياسية. بيئة عالمية واقليمية تقتص مزيداً من الحريات يتعذر فهم اشكالية الحرية في البلدان العربية من دون إعمال النظر في دور العوامل الاقليمية، وتلك الوافدة الى خارج المنطقة، خصوصاً العولمة ونسق الحكم على الصعيد العالمي. يمكن للعولمة، من ناحية، أن تدعم حرية الفرد نتيجة للتقليل من قدرات الدول على قهر الناس، خصوصاً في مجال الأفكار والتصورات، كما انها يمكن أن توسع فرص الناس في التوصل للمعرفة وتفسح آفاق الوجود الانساني المتحضر من خلال سهولة الاتصال وانتقال الأفكار. وعلى وجه الخصوص، تتيح فرص العولمة امكان دعم الحرية من خلال تقوية المجتمع المدني عبر التشابك بين منظماته، خصوصاً باستعمال تقانات الاتصال والمعلومات الحديثة. غير ان في العولمة حبساً انتقائياً للحرية على صعيد العالم، من خلال التقييد الانتقائي لتدفق المعرفة في مجالات حيوية، وأيضاً في مجال انتقال البشر. ومع العولمة، فقدت الدولة جزءاً من سيادتها لمجموعة من الفاعلين الدوليين، كالشركات متعدية الجنسيات والمنظمات الدولية، خصوصاً في مجالات الاقتصاد، مما أصبح يستلزم تطوير بنية الحكم، المتمثلة في منظومة الأممالمتحدة، على الصعيد العالمي. الا ان هذا لم يتحقق. فقد ادى انتهاء التوازن بين قوتين عظميين، والانتقال الى عالم أحادي القطب، الى اضعاف المنظمة العالمية أو تهميشها، مما انعكس سلباً على الحرية في العالم العربي. فقد أدى الاستخدام المتكرر لحق النقض أو التلويح به من جانب الولاياتالمتحدة، الى الحد من فاعلية مجلس الأمن في احلال السلام في المنطقة، كما ساهم في زيادة المعاناة الانسانية، وفي خلق حقائق جديدة على الأرض كقيام اسرائيل ببناء المستوطنات وجدار الفصل التوسعي الذي يبتلع المزيد من الأراضي الفلسطينية. وفي ظل هذا الوضع، أصبح التوصل الى حل عادل ودائم في فلسطين حلماً بعيد المنال، ودفع هذا بالكثير من أبناء المنطقة الى ان يفقدوا الأمل في عدالة الحكم على الصعيد العالمي وفي قدرته على انصافهم. وقد يؤدي ذلك كله الى تغذية دوامة العنف والعنف المضاد. من ناحية أخرى، اقتضت "الحرب على الارهاب" مزيداً من حريات العرب. فعلى رغم أن تصريحات المسؤولين في الغرب تؤكد ان نشر الحرية والديموقراطية يشكل الحل الأمثل للتصدي لظاهرة الارهاب في الأجل الطويل، الا ان الممارسة الفعلية تدل على تشدد مبالغ فيه من جانب كثير من البلدان الغربية في تشريعاتها الأمنية. وكان من الآثار الجانبية المؤسفة لذلك التشدد أن أصبح العرب بصورة متزايدة ضحايا للتنميط، والمضايقة غير المبررة، أو الاحتجاز دونما سبب، وفي الوقت نفسه، فإن عدداً من الحكومات في العالم العربي قد تذرعت بالخوف من الارهاب لاتخاذ اجراءات فرضت بموجبها قيوداً أكثر تشدداً على مواطنيها. رؤية استراتيجية: بدائل مستقبل الحرية والحكم لا شك في أن مسيرة التحديث في البلدان العربية أسفرت عن انجازات ملحوظة، خصوصاً في مجالات مكافحة المرض. وفي اقامة البنى الأساسية، والنشر الكمي للتعليم، وزيادة ادماج المرأة في المجتمع. على ان الدول العربية لم تف بعد بطموحات الشعب العربي في النماء والأمن والتحرر بمعايير القرن الحادي والعشرين، وان قامت فروق بين بلد عربي وآخر في هذا المضمار. بل هناك ما يشبه الاجماع على وجود خلل كبير في الأوضاع العربية، وعلى أن المجال السياسي، تحديداً، هو موطن هذا الخلل ومحوره. وحيث أن السلطة القائمة لم تنجز إصلاحاً جوهرياً من داخلها بما يصوب المسيرة ويعزز الأمل في مستقبل أفضل، ينفتح المستقبل للعرب على بدائل شتى، بعضها كارثي وبعضها الآخر واعد. إن استمرار الأوضاع الراهنة، من عجز تنموي يلازمه قهر في الداخل واستباحة من الخارج، يمكن أن يفضي الى تعميق الصراع المجتمعي في البلدان العربية. وفي غياب آليات سلمية، ولكن أيضاً فاعلة، لمكافحة المظالم التي يتمخض عنها الواقع العربي الراهن، قد يلجأ بعضهم لأشكال من الاحتجاج العنيف تتزايد معه فرص الاقتتال الداخلي. وقد يفضي ذلك الى تداول قادم لسلطة يتأتى عن العنف المسلح، بما ينطوي عليه من خسارة انسانية لا تقبل مهما صغرت، ولا تحمد عقباها بالضرورة، بخاصة في ما يتصل بطبيعة التنظيم السياسي الذي قد يتولد عنه. في المنظور الواقعي، قد يتبلور المستقبل العربي على مسار ما بين هذين البديلين، ونقصد ما يمكن ان يتمخض عنه الضغط الخارجي، الذي يمكن أن يدفع موجة من الاصلاح الداخلي في البلدان العربية. هذا البديل "الملتبس" قد لا يرقى لبديل "الازدهار الإنساني". ذلك انه قد ينطوي على التخضع للضغط من الخارج وفق رؤى قوى أجنبية لا تتقاطع بالضرورة مع الحرية والحكم الصالح، بخاصة في ما يتصل بالتحرر والاستقلال الوطني وطبيعة النظام المنشود. والتحدي الذي يواجه قوى النهضة في الوطن العربي هو كيفية التعامل مع هذا البديل بما يعزز مسار الإصلاح من الداخل، ويقلل ما أمكن من مساوئ هذا البديل الجوهرية. وفي جميع الأحوال، فإن أي تعاون مع منظمات أهلية أو رسمية غير عربية سيكون مجدياً إذا ما احترمت جميع الأطراف مبادئ أساسية نجملها في: * الاحترام البات لكامل منظومة حقوق الانسان على صعيد العالم أجمع وتجريم الانتقاص من حقوق الانسان أياً كان مصدر الانتهاك، * احترام حق العرب في إيجاد طريقهم الخاص الى الحرية والحكم الصالح عبر إبداع القوى المجتمعية العربية، من دون فرض نماذج مسبقة، * القبول بإدماج القوى المجتمعية الفاعلة كافة في نسق للحكم الصالح يضمن شمول التمثيل الشعبي ومقاومة التوجهات الاقصائية، * الالتزام بنتائج تعبير الإرادة الشعبية عن نفسها، * التعامل مع الشعوب العربية من منطق شراكة الأنداد لا منطق الوصاية. ويتطلب قيام مجتمع الحرية والحكم الصالح اصلاحاً متكاملاً لنسق الحكم في ثلاثة نطاقات مترابطة: داخلياً وإقليمياً ودولياً. فالاصلاح الداخلي يتطلب إصلاحاً مؤسسياً للدولة وللمجتمع المدني والقطاع الخاص لتعزيز مبادئ الادارة الرشيدة. كما يتطلب تصحيحاً لمسار التنمية، وإصلاحاً سياسياً يشتمل على ما يأتي: الإصلاح في الممارسات: لا بد لأي إصلاح من أن يعطي أولوية قصوى لإصلاحات ثلاثة لا تحتمل التأجيل: * إلغاء حالة الطوارئ. * القضاء على التمييز ضد الجماعات الفرعية. * ضمان استقلال القضاء. الاصلاح القانوني: يتطلب اصلاح النظام القانوني في بعض الحالات إصلاحات دستورية، وفي أخرى اصلاحات في التشريعات، ليصبح النظام متوافقاً مع القانون الدولي لحقوق الانسان، وليصبح فاعلاً في حماية حقوق الانسان والحريات في الواقع الفعلي. وفي ما يتعلق بالدساتير، بات من الضروري إصلاحها لتحقيق عدم تأبيد السلطة السياسية وجعلها سلطة مسؤولة عن تصرفاتها أمام الأجهزة القضائية والهيئات التمثيلية المنتخبة، وضمان التعددية الفعلية في نظام سياسي يقوم على مبدأ المساواة. كما بات مطلوباً أن تضمن الدساتير العربية جميع الحقوق والحريات الأساسية، وأن يرد نص صريح فيها على عدم مشروعية قيام التشريع بتقييد الحقوق والحريات الأساسية في معرض تنظيمه لها. ولا بد من إصلاح التشريعات الخاصة بمباشرة الحقوق السياسية باتجاه تكريس مبدأ المساواة بين جميع العناصر المكونة لنسيج الوطن على أساس مبدأ المواطنة. ولا بد من أن تضمن القوانين حرية المواطنين في تشكيل منظمات المجتمع المدني، وفي إقامة أحزابهم، وحق الأحزاب في مباشرة نشاطها السياسي السلمي. كما بات ملحاً تعديل التشريعات العربية، بما يضمن الحماية من التعرض للحرية الشخصية، بالاعتقال غير القانوني والتعذيب والاعتقال الإداري والاختفاء القسري. إصلاح البنية السياسية: يكمن الإصلاح الرئيسي في هذا المجال في إخضاع قيادات الحكم للاختيار الشعبي المباشر، ويمر الطريق اليه بإنهاء احتكار الجهاز التنفيذي للسلطة وتهميشه لأجهزة الدولة الأخرى وعرقلته للتطور الحر والصحي لقوى المجتمع وطاقاته. وفي بعض البلدان، يتطلب ذلك الفصل بين جهاز الدولة وبين الحزب الحاكم، بحيث لا يحظى هذا الحزب بميزة استخدام الخدمات التي تقدمها الدولة لدعم وترسيخ وجوده اخلالاً بقاعدة المساواة أمام القانون. ولكي يحقق الاصلاح مبتغاه، فإن هناك واجبات ومسؤوليات تقع على عاتق الدولة وقوى المجتمع كافة. يترتب على الدولة اطلاق حريات التعبير والتنظيم، وفتح حوار مباشر وفوري مع كل القوى الفاعلة في المجتمع، والمحافظة على استقلالية وسلامة مؤسسات الحكم، اضافة الى اجراء اصلاح شامل في بنية الاجهزة الأمنية ووظيفتها. ويشمل ذلك أن تحترم كل هذه الأجهزة القانون، وأن تكون في خدمة الشعب والوطن لا شخص الحاكم أو الحزب أو الطائفة أو القبيلة. ويترتب على نخب المجتمع السياسي أن تسعى لتطوير خطاب بنّاء غير إقصائي، والاجتهاد في ايجاد القواسم المشتركة بين جميع القوى السياسية للخروج من حالة الاستقطاب والتشرذم التي طفقت تسد الطريق على أي تحول ديموقراطي حقيقي في الوطن العربي. وعليها أيضاً أن تحدد بوضوح التزامها بالحلول الديموقراطية لكل خلافاتها. أما مؤسسات المجتمع المدني، فلا بد لها من تطوير صيغ عمل وإطارات نظرية ملائمة لتوطين النشاط المدني والحقوقي بصورة تضمن مشاركة واسعة وفاعلة من قطاعات المجتمع كافة، إضافة الى العمل على تعزيز استقلاليتها، وإنشاء شبكات من المنظمات والجمعيات التي تلتقي حول الأهداف نفسها. وفي مجال التمثيل النيابي، لا بد من البدء بإقرار مبدأ المساواة التامة في المواطنة، وعدم الاستبعاد من التمثيل النيابي على أي معيار. كما يستحسن اتباع سياسات تقوم على مبدأ التمييز الايجابي لمصلحة الفئات المهمشة، منها تخصيص حصة لأبناء وبنات الجماعات الفرعية والنساء في المناصب الحكومية وفي المجالس النيابية، مع إقرار مبدأ التنافس داخل الحصص. كما بات لزاماً إنشاء لجان خاصة للنزاهة في المجالس النيابية لمنع النواب من استغلال نفوذهم السياسي. ان سلسلة الأحداث الناظمة للتحول التاريخي المطلوب لبناء مجتمع الحرية والحكم الصالح تمر بمحطات عدة. وحيث أن مدى الرؤية يتناقص كلما ابتعد الأفق الزمني في المستقبل، وتزداد من ثم فرص قيام تنويعات عدة على بدائل الفعل المستقبلي، سنقتصر هنا على المشهد الأول، الذي يعد في تقديرنا المعيار الجوهري للحكم على جدية عملية الاصلاح في البلدان العربية. يشتمل هذا المشهد المفتتح على اطلاق الحريات المفتاح للرأي والتعبير والتنظيم في البلدان العربية، والقضاء على جميع أشكال الإقصاء خارج المواطنة والتمييز ضد الجماعات الفرعية، وإلغاء جميع أشكال القانون الاستثنائي مثل حالة الطوارئ والمحاكم الاستثنائية، وتكريس مبادئ الشفافية والافصاح في نشاط مؤسسات المجتمعات العربية كافة. وعلى هذا الأساس، يتطلب هذا المشهد، بداية، إصلاحاً تشريعياً وتنظيمياً يحقق الحريات المفتاح واستقلال القضاء، ويحدد مهمات أجهزة الأمن في دورها الأصيل لحماية أمن الوطن والمواطن. والمنتظر ان مناخ الحرية الذي يتبلور بإطلاق الحريات المفتاح، وبتحقق بقية الشروط الضرورية، سيؤدي الى قيام مؤسسات صالحة في المجتمعين المدني والسياسي، على الصعيدين القطري والقومي، بما يمهد السبيل لنشأة المشاهد اللاحقة من مسيرة "الازدهار الانساني" في الوطن العربي. قد يبدو من التحليلات السابقة أن ديار مجتمع الحرية والحكم الصالح في البلدان العربية دونها أهوال وهذا صحيح لا مراء فيه. ولكن علينا أن نتذكر أن منتهى هذه المسيرة العسيرة مقصد هو من النبل بحيث يستحق العناء. وقد آن الأوان لتعويض ما فات. والمؤمل ألا تتأخر الأمة العربية مرة ثانية عن الإمساك بالمسار التاريخي المؤدي الى الموقع الذي يليق بها في عالم جديد شجاع ونبيل، تسهم في إقامته وتنعم بالانتماء اليه.