ضمن مشروع وزارة الثقافة السورية لتقديم الأعمال الكاملة لكتاب عالميين، أصدرت الوزارة الجزء الأول من أعمال الأديب الإيطالي إيتالو كالفينو الأغاني الصعبة وهو مكون من مجلدين، وستصدر الوزارة لاحقاً الجزء الثاني بعنوان"الذاكرة الصعبة"، ثم"الحب الصعب"وسيكون الجزء الرابع بعنوان"الحياة الصعبة". اختار كالفينو أن ينعت أعماله بالصعوبة، نكاية ساخرة بالنقاد الذين وسموا أعماله بالسهولة والبساطة، وهو يرى أن أدبه يتموج بين السهولة والصعوبة، متبوئاً شكلاً من التركيب العميق بينهما، يلامس الجوهري لمساً خفياً. في مقابلة أجريت معه في فلورنسا سنة 1959 يقول: الحقيقة التي تبدو بسيطة ومباشرة في الفترة التي كتبت فيها قصصي الأولى، لا تلبث أن تتحول إلى حوت ابيض غامض". ولد كالفينو في 1923 في سانتياغو دي لاس فيغاس في كوبا، لأب يعمل في تدريس علم النباتات وأم تختص في العلوم الطبيعية. وستكون الطبيعة بنباتها وحيواناتها وعناصرها خلف المشاهد الإنسانية في معظم روايته وقصصه، بل سيكون طموح أبطاله الاندغام فيها إلى درجة اعتزال المجتمعات المعاصرة بكل آثامها ومغرياتها. وربما تلخص رواية"البارون المعلق"هذه الفلسفة الطبيعية، وهي الرواية الثانية من ثلاثية روائية بعنوان"أسلافنا"، وهي روايات تحاول استعادة الفردوس المفقود والحنين إلى البدايات البشرية الأولى، بحثاً عن جذع الشجرة الإنسانية التي تفرعت أغصانها وتشوهت. كل رواية من الروايات الثلاث تحمل عنواناً مستقلاً، تسرد حكاية البارون المعلق حكاية بارون صبي يطلق حياة الترف والتقاليد الأرستقراطية الصارمة، إلى الأبد ليعيش فوق الأغصان والأشجار كما لو انه طائر، أو قرد، لا تمس قدمه الأرض أبداً سيعيش على الثمار والصيد، وسيستحم تحت الشلالات المحاذية للشجر، أصحابه وخلانه كائنات الغابة، وموسيقاه وأغانيه المفضلة أغاريد الطير وخرير السواقي وعزف الرياح على أوتار الشجر، كما لو انه يريد أن يتحول إلى كائن سماوي، وفي نهاية الرواية يتعلق بمنطاد طائر عابر بالصدفة، ليمضي به إلى الملكوت، إلى المطلق، بعيداً، فهو يريد لجثته أن يأكلها النور بدلاً من الدود. عنوان الجزء الأول من الثلاثية هو"الفيسكونت المشطور"وعنوان الرواية الثالثة"الفارس الغائب". بدأ كالفينو المتوفى سنة 1985 الكتابة الروائية برواية"درب أعشاش العنكبوت"1946. وفي نهاية 1952 كتب"ماركو فالدو"ثم قصة"المقعد الصغير". وصدرت لاحقاً رواية"الفارس الغائب"ورواية"النملة الأرجنتينية". ومن أعماله أيضاً:"خرافات إيطالية"، وپ"مدن غير مرئية"التي ترجمت إلى العربية من قبل عبر لغة وسيطة وتظهر الآن عن اللغة الأم في ترجمة معن مصطفىالحسون. قصص كالفينو القصيرة متوسطة الطول عموماً، تتميز بالسرد الهين السلس، المسترخي والفضفاض، تعمل القصة على المشهد الذي لا يبالغ في انتقاء الحدث وتأجيجه درامياً، ولا تعنى قصته بالنهاية، النهاية"طبيعية"، وكأنها ليست خاتمة، نهاية قصته تشبه غروب شمس، وكأن الحدث لا يزال مستمراً، ميزة أعماله، الاحتفاء بالطبيعة لا بالريف فقط كما قد يتوهم القارئ، عناوين القصص تشير إلى ذلك مثل: قصة"سمك كبير، سمك صغير"وهي قصة تروي محاولات صبي وفتاة صيد سرطانات البحر."مركب لسرطان البحر"قصة تصف مشهد صبيان يتعلمون أبجدية البحر، السباحة،"لعبة حلوة تدوم لبرهة"قصة تصف لقاء صبي وصبية - أيضاً - في حديقة ساحرة نتعرف فيها على بلاغة الطبيعة وروعتها الفاتنة ثم يبتكران لعبة حلوة هي التقاذف بالطحالب. القصص تتشابه وتتكامل وكأنها لوحات من رواية لم يتهيأ لها التبلور أو الولادة أو ولدت بالتقسيط. الطبيعة في قصص كالفينو تشفي الأمراض والجروح والإضرار بالطبيعة يكون سبباً في القتل كما في قصة"احد الثلاثة ما زال حياً"، وفيها تقرر ثلة من أفراد قرية عقاب ثلاثة بعد حريق التهم غاباتهم من دون التحقيق معهم، فيرمونهم في بئر ثم يحاولون قتل الثالث الذي لم تقتله السقطة فيغرونه بالصعود وعندما يصل إلى فم البئر يطلقون عليه النار فيسقط غير مقتول للمرة الثانية. القصص الأخرى تحتفل بالطبيعة: أخيراً يأتي دور الغراب - غابة الحيوانات- مثل نوم الكلاب. وبعض القصص تتصدى لشرور الحروب، عندما يكتب قصة"مدينية"كقصة سرقة في متجر حلوى، ينسى الجميع الجناية ويلتهمون الحلوى، اللص والشرطة، لا يهتم الكاتب بمعاقبة اللص، فاللص عاشق وهو يمضي الى حبيبته بقالب الحلوى الذي خبأه في عبه، فيمضيان سهرتهما"وهما يلعقان هذا السائل حتى اطل الشفق". أبطال معظم القصص فتيان في ميعة الصبا، ربما لأن الرومانسية قريبة الصلة بالطفولة وليس غريباً أبداً أن يهدي عاشق"حياة الأسلاف""الحياة البرية"إلى والديه؟