هذا نصٌ من صاحب "مدن غير مرئية" 1972 لم يُنشر قبل اليوم. عام 1959 سافر ايتالو كالفينو الى أميركا بمنحةٍ من "مؤسسة فورد". أثناء إقامته هناك كتب رسائل الى أصدقائه في إيطاليا. رسائل هي يوميات أيضاً، وتشكل القسم الأكبر والأهم من هذا الكتاب الصادر أخيراً: "ناسك في باريس". HERMIT IN PARIS النص الذي يُعطي الكتاب عنوانه ليس جديداً. أما رحلة كالفينو الى أميركا فتُشكل كشفاً حقيقياً. بينما نقرأ ما كتبه كالفينو عن نيويورك سنة 1959 نعثر على جذور كتابه "مدن غير مرئية" الذي نشره بعد 13 سنة. قارئ هذه الرحلة الأميركية تلفته حواس كالفينو المشرعة كالنوافذ على مشهد العالم. رجل يمتص الى أعماقه كل شيء. العينان ثقبان أسودان. والدماغ في نشاط متواصل. هذه الرحلة ستصنع "مدن غير مرئية" بعد سنوات. رحلة ماركو بولو القديمة الى الصين تلقي ظلالها أيضاً. لكن نيويورك تحضر في شكلٍ سري وغير سرّي في كل تلك القصص التي يسردها ماركو بولو على قوبلاي خان في كتاب كالفينو. ماذا كانت نيويورك كالفينو، وماذا كانت باريس التي حوَّلها طوال سنين الى بيته ووطنه؟ ماذا كانت روما أو تورين بالنسبة الى كالفينو؟ هل أقام كالفينو في هذه المدن أم في رأسه؟ مات كالفينو في 19 أيلول سبتمبر 1985 بنزيفٍ في الدماغ. قبل شهرٍ من هذا النزيف الذي دام أياماً التقى كالفينو في إشبيلية إسبانيا الارجنتيني الأعمى خورخيه لويس بورخيس 1899 - 1986. التقيا في مؤتمرٍ عن الأدب الخيالي. هل نستطيع أن نتخيل الحوار الذي دار بينهما؟ بورخيس الذي يكبر كالفينو ب24 سنة، ماذا قال له حين رآه؟ كيف رآه بعينيه المطفأتين؟ هل قال إنه عرفه من صمته؟ من السكوت الذي بات سمة كالفينو في السنوات الأخيرة من حياته؟ شهرة كالفينو في أميركا لن تبدأ قبل سنة 1974. شهرة أطلقها غور فيدال بمقالة طويلة نشرتها "نيويورك ريفيو أوف بوكس" في 30 أيار مايو 1974. لكن قبل 15 عاماً من تلك الشهرة الأميركية سافر كالفينو من روما الى نيويورك بصفته واحداً من "ألمع الكتاب الإيطاليين الأحياء". ماشياً في نيويورك لم يعرفه أحد. كان هذا، بالضبط، مطلبه: أن يكون خفيّاً. كالفينو المولود في 1923 نشر روايته الأولى "الدرب الى عش العنكبوت" قبل بلوغه الرابعة والعشرين. كتب الرواية كاملةً في عشرين يوماً من كانون الأول ديسمبر 1946. روبرت لويس ستيفنسون 1850 - 1894 كتب المسودة الأولى من "دكتور جاكل ومستر هايد" في 13 يوماً، ثم روى أن القصة جاءت إليه في منام. ما العلاقة بين ستيفنسون وكالفينو؟ في "الفيسكونت المشطور" 1951 يكتب كالفينو قصة نبيلٍ تشطره قذيفة تركية الى نصفين: نصف خير، ونصف شرير. يكرّر كالفينو قصة ستيفنسون، كما كرّر ستيفنسون مقطعاً من "سفر التكوين" العهد القديم. "الفيسكونت المشطور" تُشكل مع "البارون فوق الأشجار" 1957 و"الفارس غير الموجود" 1959 ثلاثية غير مألوفة. معن مصطفى حسون ترجم الجزء الأول بالعنوان ذاته" الجزء الثاني في عنوان "البارون المعلق"، صدر أخيراً عن دار الكلمة في دمشق" أما الجزء الأخير فيصدر قريباً في عنوان "الفارس الغائب". في "البارون فوق الأشجار" نقرأ قصة رجل يغادر الأرض الى الأغصان، ليحيا في الأعلى، على مسافة ذراع أو ذراعين من أخوته البشر. هذا الناسك يشبه كالفينو بعد خروجه من الحزب الشيوعي الإيطالي في 1956. يشبه أيضاً بطل "حمامة" 1987 لباتريك ساسكند، ويشبه عدداً لا يُحصى من الشخصيات الروائية المستوحدة. لماذا اتجه كالفينو الى العزلة شبه الكاملة في السنوات الأخيرة من حياته؟ في "السيد بالومار" 1983 كتب كالفينو سيرة كائنٍ فائق الحساسية حاد الذكاء. سيرة تشبه الوصية وتنتهي برجلٍ يستعد لقبول الموت لكنه يعتقد أيضاً أن في مقدوره تأجيل هذا الموت. يؤجل هذا الموت عبر التفكير في لحظات حياته لحظة لحظة، كمن يحصي عشب الحقل، كمن يفصل موجات البحر بعضها عن بعض. هل ينجح؟ كتاب "السيد بالومار" ينتهي بموت الرجل. يموت الرجل في لحظة خاطفة. لا يبقى أياماً مطروحاً في السرير، والدم ينزف في الجمجمة، والدماغ يتعطل ويموت رويداً رويداً. يموت السيد بالومار في لحظة. يحيا كالفينو من بعده وقتاً قصيراً. بورخيس العجوز يبقى على قيد الحياة سنة أخرى أيضاً. كالفينو في عزلته، وبورخيس في ظلمته، أين يلتقيان؟ يلتقيان في مملكة الخيال التي يعرفها هاملت. نيويورك كالفينو هي دنمارك شكسبير.