عبارة "مدريد+15"" التي تعني مرور خمس عشرة سنة على عقد مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط سنة 1991، هي عنوان مؤتمر جديد يمكن تسميته "مؤتمر مدريد 2". بيد أن الفارق كبير بين المؤتمرين في الشكل والمضمون، ناهيك عن المتغيرات العالمية الهائلة التي حصلت. وكأن تظاهرة مدريد الجديدة، تذكرنا بلقاءات غير رسمية، حصلت بين مسؤولين عرب واسرائيليين بمشاركة شخصيات عالمية، للتقريب بين الأفكار، ولردم الهوّة السيكولوجية على حدّ تعبير الرئيس المصري الراحل أنور السادات. هل رُدمت هذه الهوة، أم أنها صارت أكثر اتساعاً وعمقاً؟ ما هي طبيعة هذا المؤتمر الجديد؟ وما هي الدوافع لعقده في حمأة الانهيارات الكبرى في الشرق الأوسط؟ توزع المشاركون على دول فاعلة في العملية السلمية منذ مؤتمر مدريد الأول 1991، وإن كانوا لا يمثلون حكوماتهم اليوم. فالمؤتمر هو مجرد لقاء بين خبراء، بعضهم شارك رسمياً في المؤتمر الأول، وبعضهم الآخر تبوأ مراكز رسمية وسياسية. لقد أتوا من دول عربية: مصر وسورية ولبنانوفلسطين والأردن، إضافة الى ممثلي الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي. وحضر مشاركون من الولاياتالمتحدة، وروسيا، والسويد، والنروج، والدنمارك، واسبانيا، فضلاً عن مندوبي الاتحاد الأوروبي والأممالمتحدة. كما حضر اسرائيليون، بعضهم من الوزراء السابقين. ما هو هدف هذا المؤتمر، الذي لا يتمتع بصفة رسمية، وليس له قدرة على الإلزام؟ يجيب المنظّمون بأن الهدف هو"إعادة دفع محادثات السلام واستئناف محادثات ذات معنى على رغم جميع العقبات". والسؤال كيف تحصل عملية الدفع المنشودة؟ يعلم المشاركون أن"صيغة مدريد"قامت على اطارين: مفاوضات مباشرة، ذات طابع ثنائي. ومفاوضات متعددة الأطراف، ذات اختصاصات وظيفية هي: التسلّح، والمياه، والبيئة، والتنمية الاقتصادية واللاجئين الفلسطينيين. الإطار المباشر، أفضى الى"صيغة أوسلو"الفلسطينية - الاسرائيلية، التي صارت من الماضي بشهادة شارون، وبدليل وجود"خريطة طريق"لم تنفّذ الى اليوم بعرقلة اسرائيلية معلنة. وحسبنا التذكير بأن العام 2005 كان موعد المفاوضات على الوضع النهائي، أي على قضايا: الانسحاب والحدود، القدس، اللاجئين، المستوطنات، الأمن... لقد صارت خريطة الطريق من الماضي أيضاً، أما اطار المفاوضات المتعددة فقد تجمّد كذلك منذ زمن بعيد. اليوم، تعلن وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس أن من أهداف جولتها الشرق أوسطية إعادة الدفع الى"خريطة الطريق". يرد الاسرائيليون أنهم غير قادرين على إطلاق الاسرى الفلسطينيين، ولا على تحرير أموال الضرائب التي دفعها المكلّف الفلسطيني. ويصرون على التمركز عسكرياً في المدن الفلسطينية التي سبق أن خرجوا منها! إذاً، لماذا لم تمارس الادارة الأميركية ضغطاً على حكومة شارون السابقة، وحكومة أولمرت الحالية؟ الجواب هو في"الفوضى البنّاءة"التي يُراد تعميمها في الشرق الأوسط، من افغانستان الى العراق الى فلسطين والصومال ولبنان... وعليه، يجب أن يتقاتل الفلسطينيون، للقضاء على"ارهاب"حماس والجهاد الاسلامي. وقد يتكرر المشهد في غير بلد عربي أو اسلامي. أما اسرائيل، في ظل هذه الفوضى، فإنها الحليف الاستراتيجي الأول للولايات المتحدة، وأمنها فوق أي اعتبار. على المسار السوري، ثمة تجميد لكل مفاوضات حقيقية منذ أكثر من خمس سنوات. لقد توارت نتائج مفاوضات الأسد - باراك، ولم يبدِ الاسرائيليون أي استعداد لاستئناف التفاوض على رغم التصريحات السورية المتكررة التي تريد انجاز العملية السلمية. لا بل هناك ضغوط أميركية واسرائيلية متصاعدة على سورية كي تدخل في صفقة حول العراق في إطار الاستراتيجيا الأميركية الخاصة بالشرق الأوسط، من دون أن تحصل دمشق على أي ضمانات أكيدة باستعادة سيادتها على مرتفعات الجولان. وفي لبنان، لا بدّ من معاقبة"حزب الله"الذي تجاسر في الصيف الماضي على تهشيم صورة الجيش الاسرائيلي. إنه"تنظيم ارهابي"مدعوم من سورية وايران، ومتحالف مع حماس والجهاد الاسلامي... أي انه جزء من"محور الشر"في التصنيف الأميركي. وعليه، فليؤجل مضمون القرار الدولي 1701 المتعلق باسرائيل، لجهة الوصول الى وقف ثابت لاطلاق النار، واحترام سيادة لبنان براً وبحراً وجواً، والانسحاب من مزارع شبعا، وغيرها، حتى"الحدود المعترف بها دولياً"... ولا بأس إن دخل اللبنانيون - موالاة ومعارضة - في انقسام مجتمعي وسياسي، على طريقة الفوضى التي أشرنا اليها. إذاً، لماذا احتضنت العاصمة الإسبانية من جديد مؤتمراً غير قادر على اتخاذ قرارات ملزمة، أو على الأقل غير قابلة للتنفيذ؟ ثمة تململ أوروبي، وعالمي، من استمرار ما سُميّ أزمة الشرق الأوسط، أي أزمة الصراع العربي - الاسرائيلي وجوهره قضية فلسطين. وهناك تعثّر لأي استقرار أمني في الشرق الأوسط، القديم والجديد والكبير، من دون حل هذه المعضلة. هذا ما أخذ علماء الغرب يستشعرونه بعمق. لا بل إن بعض الاسرائيليين يطرحون مثل هذا الطرح الداعي الى التسوية. أليست توصيات بيكر - هاملتون، وغيرها من توصيات الكونغرس الأميركي، في هذا الاتجاه؟ الغائب الأبرز في هذا التحول هو الموقف العربي. في الشكل، ثمة مواقف رسمية عربية مختلفة على رغم الاستراتيجيا الموحدة للسلام التي أقرتها القمة العربية في بيروت عام 2002. وفي الجوهر، هناك انحدار غير مسبوق نحو الفتن، والفيديراليات المزعومة وغير المؤسسة على علم. وهناك تخلف سياسي واجتماعي غير مسبوق، وتدهور للقدرات والثروات العربية... وكيف اذا عرفنا أن منظمة الأممالمتحدة لم تعد تملك زمام المبادرة لإنجاز السلام العربي - الاسرائيلي، منذ مؤتمر مدريد الأول؟ هل مؤتمر مدريد الثاني هو مجرد ذكرى؟ نعم، وقد تنفع لكن ليس في هذه المرحلة. * كاتب لبناني