تُعد محاربة التضخم من خلال التحكم في سعر الفائدة في مقدم المهمات الملقاة على عاتق البنوك المركزية أينما كانت. ويرتبط نجاحها في ذلك بعوامل أبرزها مدى قدرتها على ضبط الكتلة النقدية لعملاتها الوطنية. غير ان ما يسمى بعصر العولمة جاء بتغيرات حدت من قدراتها على القيام بعملية الضبط هذه، وهو الأمر الذي حد بدوره من قدرتها على التحكم بأسعار هذه العملات. وجاء في دراسة لمنظمة الأمن والتعاون الاقتصادي صدرت أخيراً ان نحو 70 في المئة من التضخم يستورد من الخارج، خصوصاً من دول شرق آسيا التي تكتسح أسواق العالم بأسعارها الأكثر منافسة عالمياً. ما يعني ان البنوك المركزية لم يعد بوسعها السيطرة على أكثر من 30 في المئة من التضخم على المستوى الوطني. يتعلق الأمر هنا قبل كل شيء بمجلس الاحتياط الاتحادي الأميركي كونه يتولى إصدار الدولار وادارته وهو العملة الاحتياطية الدولية الأولى إضافة إلى كونه عملة الولاياتالمتحدة التي تتمتع بأقوى اقتصاد في العالم. ويتعلق الأمر أيضاً بعلاقة المجلس الوثيقة بالبنوك المركزية الأخرى وفي مقدمها البنك المركزي الأوروبي الذي يتولى إصدار اليورو وادارته الذي أضحى ثاني عملة دولية من حيث الأهمية بعد الدولار. فمن جهة، أدى الاحتياط الهائل الذي راكمته دول شرق آسيا من العملة الأميركية خلال السنوات العشر الماضية على ضوء اقتراض الولاياتالمتحدة الشره منها، والعجز التجاري الأميركي تجاهها، إلى تمكينها من المشاركة في التحكم بسعر هذه العملة بالشكل الذي يهدف إلى حماية اقتصاداتها من الأزمات كما حصل عام 1997، عام الأزمة الآسيوية. وتشير المعطيات إلى ان الاحتياط الصيني من العملة الخضراء وصل إلى نحو 900 بليون دولار، ما يمكّن بكين من خوض معركة سوق العملات عند اللزوم. كما أضعفت ثروة الآسيويين الجديدة بالدولار قدرة أوروبا على الحد من انخفاض سعره دعماً لمصالحها التجارية القوية مع الولاياتالمتحدة. ويضاف إلى الدور الآسيوي نفوذ المضاربين الذي أصبح أكثر مرونة في عصر ثورة المعلومات، فبفضل هذه الثورة أصبح في الإمكان توظيف بلايين الدولارات وغيرها من العملات الأخرى في الأسواق المالية إلكترونياً خلال ثوان معدودة بهدف تحقيق أكبر قدر ممكن من الربح بغض النظر عن ثمن ذلك. وتقدر حجم الأموال الساعية إلى المضاربة بنحو 1500 بليون دولار هذه الأيام. وظهر تراجع قدرة البنوك المعنية على التحكم بالدولار خلال السنة الماضية من خلال استمرار تراجع العملة الخضراء أمام اليورو على رغم رفع سعر الفائدة الرئيس عليها خمس مرات خلال هذه السنة. واستمر هذا التراجع على رغم سعي البنك المركزي الأوروبي إلى الحد منه من خلال سعر فائدة منخفض مقارنة بالفائدة الأميركية 3.25 في المئة مقابل 5.25 في المئة. ومما لا شك فيه ان تراجع سعر الدولار ينطوي على اخطار بالنسبة للدول التي تعتمد عليه بشكل رئيسي وفي مقدمها الدول العربية، لا سيما النفطية منها. فمن شأن ذلك ان يؤدي إلى تراجع قدرتها الشرائية في منطقة اليورو التي تعد الشريك التجاري الأول للعالم العربي، وكذلك في منطقة شرق آسيا التي تزداد أهميتها التجارية بالنسبة الى العالم العربي. ويمكن التخفيف من هذا التراجع من خلال زيادة احتياط البنوك المركزية العربية باليورو والين وغيرهما من عملات الدول المهمة تجارياً بالنسبة لدولها. وفي هذا السياق لا بد من التذكير بأن معظم البنوك المركزية في العالم خفضت خلال السنوات الأربع الماضية نسبة احتياطاتها من العملة الأميركية لمصلحة العملة الأوروبية التي ازدادت قيمتها تجاه الدولار بنسبة 50 في المئة خلال السنوات المذكورة. كما ان اليورو أصبح اليوم أكثر تداولاًَ من الدولار بعد خمس سنوات على انطلاقته. فقد أفاد البنك المركزي الأوروبي ومجلس الاحتياط الاتحادي الأميركي أوائل السنة ان حجم التداول العالمي بلغ خلال السنة الماضية 614 بليوناً باليورو في مقابل 588 بليون الدولار. * إعلامي وخبير اقتصادي