تسعى الباحثة المصرية هالة فؤاد المتخصصة في فلسفة التصوف عبر كتابها الجديد"طريق نجيب محفوظ بين الأسطورة والتصوف"الصادر عن دار العين للنشر الى تقديم قراءتها الخاصة لرواية"الطريق"التي تسميها رواية"الغواية الفاتنة". وعبر طريقة متميزة في القراءة تقوم على استنطاق اللغة والاشتغال على الدوال وترابطاتها العتيقة - كما تقول رجاء بن سلامة في مقدمة الكتاب - تندفع الكاتبة في فضاء التأويل الصوفي وتبدأ بتعداد المفارقات التي ينطوي عليها عنوان نص"الثنائيات المتضادة"بحسب قولها. فالطريق عنوان مشرق وواضح، لكنه من شدة اشراقه ووضوحه يثير هواجسنا وشكوكنا ويدفعنا نحو تجاوز الخديعة المحتملة الكامنة وراء هذا الوضوح السافر. حينئذ يغدو"الطريق"عنواناً مملوءاً بالوعود، مثقلاً بالذكريات، ينظر الى جبهتين متعارضتين الماضي والمستقبل. فهو حنين الى ما فات ولن يعود وشوق الى ما سيحدث، ولا ضمان لحدوثه. وتعتمد قراءة فؤاد على بحث معمق لأوجه التناص الميثولوجي مع النص الشهير بين أعمال محفوظ المنتمية الى مرحلته الفلسفية التي بدأها نهاية الخمسينات من القرن الفائت. تشرع فؤاد في النظر الى المشهد الأول في الرواية وهو مشهد يسرد وقائع موت"بسيمة عمران"التي يودعها ابنها صابر امام القبر. وترى ان المشهد يجسد"صدمة المواجهة الاولى مع الموت"اذ تبدأ الذات رثاء ذاتها، لا الآخر، ويباغتها الوعي بالخواء وزيف الحياة وعبثيتها وقسوتها العارمة. وتنطلق الكاتبة الى التجوال في عالم الأم" بسيمة عمران"والكشف عن تاريخها السري الخاص وترى فيها"ايزيس"المرددة دائماً:"أنا ما كان، وما هو كائن وما سيكون... وما انسان بقادر على رفع برقعي". انها التي تمردت على العلو المفارق اللانساني، رافضة قيم الاكتمال الحرية/ الكرامة/ السلام ومنحة الخلود في"قفص الزواج الذهبي"واختارت خلودها الخاص وهي ذاتها ستدفع بابنها في ما بعد للبحث عن أبيه لينال هذه القيم بلا مجهود. لكن تلك القيم ستغدو ساعتها حلماً بعيد المنال مع استحالة العثور على"الرحيمي/ الأب"في الرحلة التي يخوضها صابر الى"أعماق الظلمة". وهي رحلة تذكر قارئ محفوظ برحلة أخرى خاضها جعفر الراوي للبحث عن جده في"قلب الليل"، انه قدر الترحال في عمق المتاهة ذاتها بحثاً عن نقطة ارتكاز غامضة كالموت وتكاد تكون مستحيلة. خلال الرحلة يهتز التناقض الحاد بين بسيمة والرحيمي ويتبدى في المشهد الأخير للرواية ان كلاً منهما منبعث من عمق الآخر، لذلك كان من الحتمي ان تتمرد بسيمة على صيغة الامتلاك والتشيؤ التي يعرضها الرحيمي، وهو يحفظها في قفص من ذهب لكنها تمضي بتوقها الى الانتهاك في فضاءات الرغبة الليلية. وبامتهانها البغاء سارت بفعل الانتهاك حتى نهايته، لهذا لم تلد الا القتل والجنون والدم وشهوة العشق الوحشي، ولكن في أكثر الصور اكتمالاً. لقد سعت مثل"عشتار"لإنتاج فضائها الميتافيزيقي وهي تؤسس دولتها الخفية. وتشير فؤاد الى ان"بسيمة"مارست حضورها السلطوي المهيمن على الابن لا بصفتها نموذجاً أنثوياً منفلتاً من الفردوس الرحيمي بقدر ما مارسته بصفتها أصلاً أسطورياً له. وفي سيرتها كأم لم تترك فضاء لصابر حتى يستبطن القانون الذي يحد من المتعة ويهيكل الذات، بل أعادت بسلوكها معه انتاج الأنموذج السلطوي الذكوري في أقصى صوره وأعادت كذلك انتاج قوانين علاقتها بالرحيمي"قوانين الامتلاك والتشيؤ، بل الأسر الجميل حين أبقته في مسكن"النبي دانيال"بعيداً من عالمها الليلي". لكنها في المقابل تركت له الفرصة ليمارس"حضوراً حيوياً داخل ما يمكن تسميته تجاوزاً مساحات الفاعلية الكاذبة أو المتوهمة". ولذا أضحى صابر بسهولة فضاء مستباحاً ومغوياً للامتلاك وهو ما ستلتقطه"كريمة"لا"الهام"التي بدا له انها أخته. تفصل الباحثة بين الشخصيتين"إلهام"وپ"كريمة"وتجمع بينهما باعتبارهما صورتين لپ"الايماغو الأمومي"المنشطر الى شطرين بفعل الازدواج، شطر سلبي يمثل الشبق والدعارة والقتل كريمة وشطر ايجابي طاهر يمثل"الهام"وفيه ملامح الأم الأخرى الحنون التي تلتبس"بسيمة". ومن الأمور الدالة ان علاقة"صابر"بپ"إلهام"دارت في فضاءات الوعد الكاذب على رغم وعود الصدق والبراءة. ظل صابر، على رغم المتع المتاحة له بلا ثمن غريباً داخل هذا العالم، منزوياً في أحد أركانه الموحشة مهدداً بمصير مجهول، وقد أدرك غربته الموحشة في عالم"بسيمة"حين غيبها الموت. وتتوقف فؤاد أمام العلاقة اللافتة بين وحدة"بسيمة"، وحدة الموت والأسئلة المحدقة بها في القبر المظلم حيث لحظة"دفع الثمن الفادح"، ووحدة صابر التي تاق لها في بيته وقت ان بدأ يعيش لحظة"المساءلة والحساب"ولا نجاة له من هذه اللحظة سوى التعلق بحلم العثور على"الرحيمي"الذي يسكنه كپ"حلم جميل"، اذ يغدو العثور عليه انقاذاً له من السقوط في براثن عوالم البغاء. لكن الرحيمي لم يكن اكثر من حدس غامض يضمر تهديداً وفضاء جديداً للأسر والامتلاك. ومع البدء في تعرية الذات ومساءلتها يتبدى تاريخ الام معه وكأنه تاريخ مخترق بالخذلان والخيانة منذ ان حرمته من شرعية الوجود الذكوري الابوي وغاصت به في أعماق الوحل وصانته"صيانة وهمية"كشيء ممتلك لا يملك حتى مصيره. وترى الباحثة ان"صابر"في تلك اللحظة أدرك انه منتزع من فضائه الهامشي، لكنه لا ينتمي الى نقائضه. حينذاك فقط أدرك"أكذوبة الحياة الجميلة التي عاشها ولم تكن إلا فخاً نصبته"بسيمة"". في موضع مهم من الكتاب تتوقف الباحثة أمام الطبيعة الصرعية لشخصية"صابر"وتتساءل إن كان صابر مولود اللعنة أم الاكتمال المخيف. فزواج"بسيمة"مع"الرحيمي"أنجب"صابر"الجميل المصروع، ثم تذهب أبعد من ذلك وترى ان الصرع الذي هو مرض الكبار في الخيال الاسطوري والشعبي، مرض الممسوسين أصحاب الحدوس والنوافذ المفتوحة على عالم الغيب الغامضة والسحرية. ولذلك فإن الاستجابات لفكرة الصرع تدفعها جميعاً في اتجاه وحشة"المصروع"ونفيه خارج حدود الحضور الاجتماعي المألوف ، شأنه في ذلك شأن البغي. وتربط فؤاد بين"صابر"وإحدى الشخصيات الصرعية العلامات في الأدب الروسي وهو سمردياكوف الابن غير الشرعي في أسرة كارامازوف كما تبدّت لدى دوستويفسكي. وعلى رغم التناقضات الظاهرية بين الشخصيتين إلا انهما - كما تقول الباحثة - وجهان لعملة واحدة، وانعكاس صارخ لنرجسية مدمرة لا تعتد بحضور الآخر. فقد كان كلاهما هامشياً مستوحشاً ممتلكاً بدرجة ما وقريناً لليأس والعنف والقسوة التي تصل حتى القتل. وهو ما كان، فسميرداكوف يقتل الأب وپ"صابر"يقتل زوج عشيقته. وترى ان الطبيعة الصرعية للشخصية أورثتها أفكار الفناء. وتذكر بالارتباط الاسطوري القديم بين الجنون والام القمرية الانثوية وكذلك بأسطورة"سيبيل"الالهة - الام التي ضربت ابنها وحبيبها اتييس بالجنون، فخصى نفسه تحت شجرة التين وظل ينزف حتى الموت. ووفق هذا التحليل تغدو"بسيمة"هي"ايزيس"وپ"سيبيل"مع انها لم تكن عشيقته الا انها كانت مملكته الوحيدة، وهي التي قتلته من فرط الحب، فيما هو قام بقتل"كريمة"وپ"بسيمة"التي تتلبس بها من فرط الحب أيضاً. وانفتح أمامه باب القتل كما تقول رجاء بن سلامة، لأنه أراد أن يقدم نفسه قرباناً للقانون وللأب الذي حرم منه.