"البحث عن خنوم" رواية البحث عن الحقيقة التي تبدأ بالأسئلة القلقة وتنتهي - كما بدأت - ببحث جديد ورحلة جديدة، علها تحاول الإجابة عن أسئلة الفلسفة القديمة، وأسلئة التاريخ القديم بكل رمزيتها وأسطوريتها. ورحلة البحث عن خنوم في الرواية الصادرة عن سلسلة إبداعات الهيئة العامة لقصور الثقافة - القاهرة 1998، هي رحلة أبدية تبدأ من الشمال الى الجنوب ثم العكس. تبدأ رحلة البحث خمس شخصيات رِخْت، ورِخْ، وحُور، وسِيَّا، وعَنْخ قبل إضافة "نِفرت" في رحلة العودة إلى البحث من جديد. والكاتب لم يتكئ على وعي شخصية واحدة، يتتبع تداعياتها ويقدم العالم من منظورها، بل اتجه الى فكرة البحث عن حقيقة واحدة متعددة الوجوه، يبحث عنها أشخاص خمسة تختلف تجربتهم وطرائق تفكيرهم، ودرجات قلقهم ويقينهم، يحملهم مركب واحد لكن أحمالهم وهمومهم العقلية، لا يستطيع النهر الخالد - أو حابي العظيم - أن يحملها وحده. والبحث عن خنوم نوع من القص التاريخي الذي يعبر عن روح المجتمعات وأساطيرها الثابتة في وجدانها - كما يقول فراي عن السرد التاريخي - وتجلي اللغة الشعرية في السرد ميزة أساسية في هذا النوع القصصي. ونجح حسين عبد البصير في تقديمه بلسان حال الشخصيات دون مجانية أو اصطناع. وبداية نحاول إلقاء الضوء على العناصر الرئيسية المشكلة للسرد، ولنبدأ: أولاً: اعتمدت الرواية على نموذجين من البنية السردية: نموذج البنية الشجرية أو العنقودية، ونموذج الخطوط الأفقية المتوازية، فالخط الخاص بكل شخصية يستمر ما دام التعاقب يتقدم في القصة، ثم يتوقف حين تتحول القصة الى تعاقب آخر مثلما حدث في محطة طيبة مع شخصية رِخْت. واستطاع الكاتب أن يقدم تاريخاً دلالياً بلسان الشخصيات المنفصلة والمتصلة، ليصل كل منها الى نقطة الذروة أي عند بداية التاريخ المشترك للشخصيات الباحثة عن الحقيقة فوق سطح المركب وفي المعابد والمدن الساحلية. ثانياً: استطاع الكاتب على لسان الساردين الخمسة تقديم مستويين للحوار الذي يصنع الحدث ويكشف غياهب الشخصيات، المستوى الأول واقعي وظاهري ومنطوق في الديالوج بين شخصيتين، والمستوى الثاني يعتمد على تيار الوعي أو على المونولوج الداخلي للشخصية، وهو المستوى المضمر أو الخفي الذي يجعل الشخصية تستقبل الحوار مع الآخر بطريقتين، طريقة ظاهرة وأخرى باطنة. ثالثاً: الحكي بصيغة المضارعة أثناء وقوع الحدث تعبيراً عن درجة من درجات التواصل مع المتلقي ومحاولة للانتقال الى بؤرة الحكي عبر اللغة. رابعاً: في اللغة قدر كبير بل ومذهل يعبر عن أعلى درجات التمثل للغة المصرية القديمة التي قرأناها في النصوص الفرعونية وكتاب الموتى وطقوس الميلاد والموت، للدرجة التي لم نشعر معها بوجود التضمين والتناص الموضوع بين أقواس أو بالتناص مع المضامين الإسلامية في مواضع كثيرة. خامساً: استلهام حقيقي لمضمون التصوف في التاريخ القديم، والمعتمد على فكرة الإحلال والاتحاد، أو الصورة الثنائية للحاكم الإله، وهي ميزة في التاريخ الفرعوني تختلف كثيراً عن مثيلاتها في التاريخ اليوناني مثلاً، كالفرق بين الأسطورة الواقعية والأسطورة التاريخية المجردة. وقد انسحب التأثير الصوفي على بنية الرواية، فمساحة السرد تقل وترمز كلما اتجهنا الى أعلى، أو كلما تكشفت بعض أوجه الحقيقة. وتختفي المساحة الظاهرية في رسم الشخصيات لتحل محلها المشاعر الباطنية والأسئلة الرامزة. سادساً: يعتمد الكاتب على الفكرة المركزية كبديل يتجاوز فكرة الحبكة بالمعنى التقليدي، أي أنه اعتمد على تكوين الدلالة على نحو استرجاعي. فالنهاية - تبعاً لهذا المفهوم تسبب كل شيء قبلها وليس العكس، فالكاتب - هنا - لا يشكل أفكاره لتلائم الأحداث، بل يبتكر الأحداث التي ترسخ التأثير المطلوب. وهي رواية - على أية حال - تحاول خلق قوانينها الخاصة بصراعها مع القوانين النظامية التقليدية. سابعاً: تتجلى في دوائر السرد فكرة الوحدة الأبدية أو وحدة الوجود، ولهذه الوحدة أشكال ثلاثة: الوحدة الأبدية مع الإله، والوحدة الأبدية مع الآخر المعشوق والوحدة الأبدية مع النهر بلا نهاية وبغير شطآن الى المعرفة اللونية. وخنوم المبحوث عنه، هو من بين الآلهة المتعددة، إله شعبي يحدب على الفقراء ويروي عطشهم ويسد رمقهم من منبع النهر وأصل الحياة في وادي النيل، واختفاؤه الاسطوري جاء كنتيجة لاستغناء الناس عنه، وكفر بعضهم به. والرحلة إليه عناء، والبحث عنه كد ومجاهدة، تخلٍ وتجلٍ قبل أن تتجلى الحقيقة، والباحثون عنه كُثُر، رِخت التي وهبها خنوم ابنها "رِخْ". وبشَّره بحكم الشمال والجنوب ووراثة الملك، فتركت رخت قريتها أتريب واصطحبت ابنها إلى حكيم منف ومعبد بتاح لتسأله عن خنوم. أما الشخصية الثانية فهو "حور" ابن "منديس"، أبوه من الدلتا وأمه من الجنوب، تعلم الهندسة والفلك والطب، لكن علم الكهنوت والأسرار شده باتجاه البحث عن خنوم. ويحلم حور بعرش "كيمتْ" ووحدة شطريها على يديه ويحتفظ بتفاحة خنوم. في المعبد تلتقي الاسئلة ويتحاور أهل السؤال رِحت وحُور ورِخ مع الكاهن الحكيم الذي ينصحهم بالسفر إلى الجنوب للبحث عن ضالتهم وارسل معهم الحكيم الشاب سِيَّا. وفي مركب النيل وبعد إضافة الملاح "عَنْخ صار الباحثون خمسة رخت وحور عاشقان معشوقان يرويان عطش السنين في لقاءات الجسد، وسِبَّا الحكيم الكاهن المجرد من الهوى والضلالة، وعَنْخ الملاح التائه المتردد بين عجز الذات وضيق الروية وجدوى البحث عن إله. يتوقف المركب الأسطوري في محطات عديدة ليتلقى إجابات متنوعة ما بين الدهشة والاستنكار والسخرية، يمضي المركب جنوباً ويتوغل في الوصول. على مرفأ أخميم وفي معبد مين إله الخصوبة تتوقف الرحلة وتتوه الإجابة، وبعدها يتوقف الركب في دندرة حيث معبد حتحور. وتستمر لقاءات العشق بين حور ورخت فيرتويان بعد عطش ويشبعان بعد جوع. أما سِبَّا فيمضي على وتيرة واحدة من التعبد والانشاد في جوف الليل، عاملاً بنصيحة الحكيم بأن يلزم الحذر طالما كان يبحث عن دولة العقل في مقابل دولة الرقص والغناء. وفي طيبة يترك حور القافلة ليلتقي حبيبته القديمة نفرت، وتلتقي رخت بكاهن طيبة ومعبد آمون، ويفترق أهل الرحلة. رخت ورخ يبقيان في معبد آمون. وحور ونفرت وسيا وعنخ يمضون الى الجنوب. يتوقفون في إسنا للسؤال عن خنوم ثم إلفنتين وجزيرة فيلة، وتتماهى شخصية حور مع حوريس ابن إيزيس وأوزوريس، وتبدأ التراجيديات الأسطورية تطغى على أحداث الرواية، فما زال خنوم مختفياً وما زال السؤال عنه بلا إجابة، وبالعودة الى الأقصر يُقتل حور ورخت ورخ. وعنخ، ولا يتبقى من صحبة البحث سوى الحكيم الباحث عن دولة العقل سيا الذي يعود وحده الى منف، مستمتعاً - بالعقل والإيمان - برؤية آثار خنوم على الأرض وفي السماء والمخلوقات، ويظل سؤال المشاهدة بلا إجابة، لأن الحقائق المطلقة لا تُرى بالعين، لكن تحسها الحواس باقتفاء آثارها في الكون. ولم يوفق الحسين عبد البصير في نهاية الرواية حينما ختمها بوحدة سردية رمزية على لسان المؤلف ما قبل النهاية يعيد فيها طرح سؤال خنوم، والتوق لرؤيته. فالأبطال قد أدوا دورهم في السرد بطريقة تخرج عن هيمنة المؤلف وسطوته، فكانت هذه الإطلالة الأخيرة لرأي الكاتب، خروجاً على البنية وعلى المتواليات السردية التي قدمتها الرواية بطريقة رصينة، بالإضافة لاختفاء الشخصيات الشعبية البسيطة باستثناء شن رون فليس منطقياً ألا نجد نماذج شعبية في رحلة البحث عن إله الشعب. وأخيراً- وليس آخراً - فالرواية البحث عن خنوم تجربة تقترب من المحاكاة والمفارقة معاً، لم تفتعل تقديم معادل رمزي أو تاريخي للواقع، بل جالت وصالت في التاريخ القديم بحثاً عن اسئلة بدأت مع بداية الخلق ولن تنتهي بفنائه.