يترقّب الأكراد بكثير من التأييد العلني وقليل من الحذر الخفي، ما يمكن أن يتمخض عنه مشهد المصالحة الوطنية في العراق من نتائج ومعطيات. فمن جهة، يرى الأكراد أن المصلحة الوطنية الوطنية العراقية تقتضي منهم تأييد عملية المصالحة التي أطلقها رئيس الوزراء نوري المالكي قبل أكثر من شهرين على رغم أنهم ليسوا طرفاً متورطاً في العنف الطائفي والسياسي الجاري في العراق. في هذا السياق، يعتقد الأكراد بأن المصالحة الوطنية إذا ما سارت في شكل صحيح ولم تواجهها أي عقبات جدية، يمكنها أن تمهّد لتوسيع دائرة انخراط العراقيين في العملية السياسية، وتضييق مديات أعمال العنف الإرهابي التي تعصف بالبلاد. كما يمكنها أن تفتح الباب واسعاً أمام انطلاق حملة إعادة إعمار العراق وتنشيط اقتصاده. مع هذا، يشعرون، من جهة أخرى، بحذر و حرج لافتين إزاء جملة قضايا سياسية ودستورية يتم طرحها على طاولة المؤتمرات والاجتماعات التي تعقد في بغداد حول المصالحة، بينها الدعوة الى التريث في تطبيق الفيدرالية ووقف العمل بالدستور العراقي ريثما يجري تعديله. يشار الى أن العراقيين وافقوا في استفتاء عام جرى قبل أكثر من ثمانية أشهر على نص أول دستور دائم للعراق منذ 1958. في هذا الإطار، يشدد الأكراد على أنهم بذلوا جهداً استثنائياً كبيراً على طريق إقناع مختلف الأطراف العراقية المعنية بقبول أطروحة المصالحة والعمل على تطبيق مفرداتها. في الوقت ذاته، يلمحون الى الدور الاستثنائي الذي لعبه قادتهم السياسيون في التمهيد للعملية وإطلاقها ومواجهة صعابها. وفي هذا الصدد، يشيرون الى الجهود الهائلة التي بذلها رئيسهم مسعود بارزاني الذي طرح قبيل تحرير العراق بأشهر قليلة، فكرة التسامح، على مؤتمر للمعارضة العراقية عقد في لندن. كذلك كان الحال في الفترة التي أعقبت إطاحة النظام في 9 نيسان مارس 2003 حيث عاد بارزاني، ثانية، الى طرح فكرة التصالح والتسامح، معتبراً أن التوافق بين العراقيين هو الوسيلة الوحيدة لتوسيع الفرصة أمام مختلف الفئات العراقية للانخراط في العملية السياسية وإعادة تعمير البلاد سياسياً واقتصادياً وثقافياً. الى ذلك، تحول مقر قيادته في صلاح الدين الى محج للمجموعات السياسية من مختلف الانتماءات القومية والمذهبية والدينية. وكان كلامه الأساس في كل لقاءاته واجتماعاته يتركز على حض زائريه على تجاوز الماضي وغلق صفحة الثأر والانتقام والكراهية، والشروع في بناء العراق وفق مبادئ التعددية والتسامح والمصالحة. في هذا السياق، حرص الأكراد على تجسيد أقوالهم في أفعال. فبادروا الى توحيد الإدارتين الكرديتين في أربيل والسليمانية في إطار حكومة موحدة وذات قاعدة عريضة بغية تحويلها الى نموذج ديموقراطي يمكن للعراقيين الاقتداء به. لهذا كله، يرى الأكراد أن المصالحة تستحق منهم ومن بقية العراقيين كل دعم وتأييد. لكن المشكلة التي أصبحت، في الفترة الأخيرة، تنشر في نفوسهم خيوطاً من الحذر تجاه عملية المصالحة الوطنية، هي أن البعض في الساحة السياسية العراقية بدأ العمل لبناء المصالحة على مصالح الأكراد، وذلك من طريق الدعوة الى إدخال تعديلات على نص الدستور بما يكفل تأجيل الفيدرالية وتأجيل تنفيذ البنود المتعلقة بحل معضلة كركوك. في الواقع، يلمح هذا البعض، في الخفاء وبخبث غير قليل، الى أن التعديلات المقترحة لا علاقة لها بالحقوق الكردية الواردة في الدستور، إنما هدفها قطع الطريق على تعميم التجربة الفيدرالية في العراق ومنع قيام فيدراليات مذهبية قد تضر بوحدة العراقيين. مع هذا، يظل الأكراد حذرين خصوصاً أن الحديث عن تعديلات دستورية يبعث على رجفة غير قليلة في الأوساط السياسية والثقافية الكردية التي ترى أن كردستان هو المعني الأول بموضوعة الفيدرالية في العراق. بدءاً، لا بد من الإشارة الى أنها المرة الأولى التي ينعم فيها العراقيون بدستور دائم. لهذا قد يفضي إدخال تعديلات على نصه بعد أقل من ثمانية أشهر على إقراره، الى زعزعة ثقة العراقيين بثبات المسيرة الديموقراطية والدستورية في البلاد. ثم أن الدستور الذي جرى إقراره نهاية العام الماضي لم يفرض من مؤسسات فوقية كما كانت العادة في الحكومات العسكرية والشمولية السابقة، إنما صاغته لجان برلمانية مختصة، وناقش العراقيون بنوده ومسودته، وأخضع، في ما بعد، لاستفتاء عراقي عام. وأخيراً ناقشه البرلمان وأقره. ثم أن الدستور لم يُعمل به حتى الآن في شكل فعلي، ما يعني أن نصوصه لم تدخل مرحلة التطبيق ليتم فرز صالحها عن طالحها. والأهم أن إدخال أي تعديل يتطلب أولاً أن تنضم الأطراف التي لديها اعتراضات أو تعديلات دستورية الى العملية السياسية القائمة لتتسنى لها في ما بعد فرصة طرح مطالباتها ووجهات نظرها وتعديلاتها في الأروقة القانونية والبرلمانية والحكومية. الى ذلك، تشير الأوساط الكردية الى أن الأكراد أخفقوا أو تنازلوا في السابق عن إدخال نصوص تعلقت بحقوقهم الى الدستور الدائم كالبند المتعلق بحق تقرير المصير، وذلك بهدف ردم الهوات بين العراقيين والمساعدة في دفع العملية السياسية في العراق الى الأمام. أما الآن، فإن أي قبول بإدخال تعديلات جديدة على الدستور، يجب أن يترافق مع إفساح المجال أمام الأكراد لإعادة إدخال مطالبهم المحذوفة الى نصوص الدستور.پ الى هذا كله، تطالب الأطراف نفسها، بتأجيل البت في قضايا مثل الفيدرالية ووقف العمل بتطبيع الأوضاع في مدينة كركوك وأطرافها وفق المادة 140. اللافت أن أوساطاً حكومية رسمية لم تعترض على هذه المطالبات، بل أبدت الرضى حيالها متذرعة بقول مردود مفاده أن التأجيل سيضمن انضمام عدد من الأطراف القومية والدينية الى العملية السياسية. لكن الأكراد الذين يحملون في نفوسهم جرحاً غائراً من آثار عمليات التأجيل والمماطلة التي استهدفت عرقلة حل قضاياهم ومشكلاتهم القومية، يرفضون منطق التأجيل ويشددون على ضرورة البدء بتطبيق الحلول التي يتضمنها الدستور الدائم لقضايا عراقية شائكة خصوصاً قضية كركوك. ثم لماذا التأجيل في وقت تمثل فيه كركوك والفيدرالية مسألة قومية ملتهبة بالنسبة الى الأكراد؟ والأهم أن إعادة العزف على أوتار التأجيل، كلما حانت السقوف الزمنية الخاصة بحلول المطالبات الكردية على الانتهاء، أخذت تبعث على خيبة أمل كبيرة بين الأكراد حيال صدقية بغداد وحكومتها الحالية. هل بدأت الشكوك تعتري الأكراد بجدوى المصالحة الوطنية التي قدموا من أجلها الكثير؟ الأكيد كلا. لكن ما أصبحوا يتهامسون به فيما بينهم أن الحذر واجب لئلا تأتي المصالحة العراقية على حسابهم لأن المزاج العام بين الأكراد يرى في أي محاولة للقفز على قضاياهم الحياتية كالفيدرالية وكركوك خطوطاً حمراً. وما يزيد من حمرة تلك الخطوط أن الأنفال لا تزال طرية في أذهانهم وماثلة أمام أعينهم من خلال رموزها الذين يواجهون العدالة.