في باريس، نظم مركز جورج بومبيدو في 21 من تشرين الثاني نوفمبر 2005 يوماً دراسياً عن الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا ونتاجه في ذكرى العام الأول على رحيله."دريدا المصري"كان عنوان المداخلة التي قدمها الفيلسوف الألماني بيتر سلوتيرديك ضمن فعاليات هذا اللقاء، وصدرت المداخلة في كتاب عن منشورات مارين سيل في 77 صفحة. تبدو مداخلة بيتر سلوترديك لحظة فلسفية راقية ومتميزة بالنظر إلى عمقها في التحليل وفرادتها في فتح نتاج دريدا على أفاق جديدة والمزاوجة بينه وبين ف لاسفة قدامى أو محدثين ربطته بهم وشائج السؤال الراديكالي والتفسير التفكيكي للنصوص. والفيلسوف الألماني بيتر سلوترديك المولود عام 1947 الذي يعمل أستاذاً لمادة الفن في جامعة كارلسروره، هو اليوم أحد المؤثرين في الفكر الفلسفي الحديث. وترجمت أعماله الى لغات عالمية. يبحث سلوترديك في إشكالية الخلود وطرق معالجتها لدى جاك دريدا، وكيف تتصادى مع أبحاث فلاسفة آخرين، تؤثر فيهم وتتأثر بهم. واختار سلوترديك سبعة من المفكرين والكتاب: نيكلاس لوهمان، سيغموند فرويد، توماس مان، فرانتز بوركيناو، ريجيس دوبريه، هيغل، وبوريس غرويس. إن كان من عادة الأحياء نسيان الموتى، فإن الموتى لا ينفكون يتذكرون الأحياء. عندما كان دريدا على مقربة من الموت في صيف 2004 توزعت قناعته بين إحساسين متناقضين: شعور، يكاد يكون يقينيا بأنه بعيد وفاته لن يتذكره أحد وإحساس بأن الذاكرة الثقافية ستحفظ بعضا من نتاجه. تعايشت هاتان القناعتان في داخله. وعلى ضوء هذا الاعتراف يرى سلوترديك أن الأقوال التي رددها دريدا ليست ترجمة لكاتب وقع فريسة تناقض اعتباطي وعابر، بل هي أقوال تحظى بكثافة فلسفية تكشف عما سماه هيدغر بپ"الموقع الرئيس"Grundstellung. ثمة طريقتان لإنصاف مفكر ما: تقتضي الأولى تشريع نتاجه بغية لقائه في إيقاعات جمله وفيض حججه، وفي هندسة فصول هذا النتاج. لهذه الطريقة في حالة دريدا جاذبيتها لأنه اعترف باستمرار بأنه لا يعدو كونه قارئاً يقظاً وحذراً، ولكن في شكل راديكالي، للنصوص الصغيرة منها والكبيرة. أما الطريقة الثانية فتقتضي الانطلاق من النص إلى الوسط مع إدراج المفكر في آفاق ما - بعد وما فوق شخصية، تساعد على استخراج أو استنتاج شيء ما يخبرنا عن دلالة ما يمثله. إن كان دريدا أعطى الأفضلية للطريقة الأولى. فإن بيتر سلوترديك أبدى ميله الى الطريقة الثانية. أي الانطلاق من النص إلى الوسط وذلك لسببين: الأول أن القراءات الصوفية اعتبار الفيلسوف أبا روحياً لدريدا متوافرة في السوق. والسبب الثاني هو أنه قلما نتوفر على حكم يحتكم إلى مسافة كافية في مسألة موقفه في حقل النظرية المعاصرة. في هذا الصدد قدم سلوترديك ما أسماه سبعة نقوش أو زخارف قد تساعدنا على إقامة علاقات بين جاك دريدا وسبعة من المفكرين: نيكلاس لوهمان، سيغموند فرويد، توماس مان، فرانتز بوركيناو، ريجيس دوبريه، هيغل وبوريس غرويس. نتاج نيكلاس لوهمان واحد من ألأعمال التي تتواشج في شكل حميمي مع أعمال دريدا. قيل عن المفكرين إنهما"هيغل القرن العشرين"، لأن لكل منهما القدرة على تجميع أو أرشفة النصوص، وتشييد أهرامات فكرية وفي شكل متين. في حالة دريدا بلغ المحور اللساني والسيميولوجي أوج إنجازه. في حالة لوهمان تم الإنجاز على مستوى توديع الفلسفة مثلما دعا إليها فيتغنشتاين، عبر تخليص الفكر من تراث الفلسفات الروحية واللغوية حتى يتسنى لها أخذ موقعها في مجال الحقل الميتابيولوجي، أي في مجال المنطق العام للاختلافات، في مجال التمايزات بين النظام والبيئة. للأسف لم يتحاور دريدا ولوهمان وجها لوجه. وسيكون الأمر في غاية الإثارة لو كان الإثنان أجريا هذا الحوار مباشرة. على مستوى آخر اهتم لوهمان بأعمال دريدا في مجال هدم التراث الميتافيزيقي مثلما انصب اهتمامه هو على نظرية الأنسقة. يبقى كتاب"موسى وديانة التوحيد"الذي ألفه فرويد بين العامي -1937 و 1939 دوماً أحد النصوص الشائكة والإشكالية. يمثل فضيحة بالنسبة لليهود وعملا جنونيا بالنسبة للأوروبيين. في هذا النص أشار فرويد إلى أن"النبي موسى لم يكن يهوديا بل كان مصرياً، ثقافة وهوية. علم اليهود الختانة وعادات الدين وصرامة الذات. يقوض هذا النص أسطورة الهجرة، شعب الله المختار، أرض الميعاد. هذه المراجعة لتاريخ اليهود التي تسببت لفرويد في الكثير من المشكلات، نجد مثيلاً لها في نظرية التغايرية التي نحت من أجلها جاك دريدا مفهوماً جديداً بالفرنسية ألا وهو la diffژrance، يبدّل فيه حرف a حرف e، للدلالة على مسلسل دينامي في مجال الاختلاف. ومثيل هذه المراجعة الفرويدية هو أن دريدا لا يرى في اليهود سوى أشباح مصرية. وفي قراءة فرويد ودريدا نقف إذا عند اليهود بصفتهم ظلالاً وحسب. يوفر نتاج توماس مان، وخصوصاً ثلاثيته"يوسف وإخوته"فرصة التعرف على دريدا ووضعه الهامشي، هو النازح من الجزائر الذي أنجز كسباً مهماً ضمن الوسط الفكري الفرنسي. من خلال ثلاثية"يوسف وإخوته"التي وضعها بين 1933 و 1943 أمكن إحداث مقاربة مع تأملات فرويد ومحاولته للإغاثة في سرديات تاريخ الهجرة. خروج اليهود من مصر ليس سوى محاولة لإحياء الهوية المصرية في أماكن أخرى. هذا ما اكتشفه فرويد وما أقر به توماس مان بدوره. حكاية يوسف وفرت لتوماس مان فرصة لمعالجة مسألة الخروج والرجوع . مصير دريدا يشبه إلى حد ما مصير يوسف الذي كسب موقعه في مصر بعد عودته بتفسيره أحلام فرعون. بعد فرويد وتوماس مان يتبين لنا أن مفهوم الهدم الدريدي هو الموجة الثالثة لتفسير الأحلام. لكن مسلسل الهدم ليس بقادر على هدم أعرق صرح مصري ألا وهو الهرم، لأنه مرآة الهوية الأصلية والأصيلة. هيغل ودريدا في موضوعة"الهرم"التي تجمع بين هيغل ودريدا أمكن الحديث عن علاقة ما بين هيغيلية. ففي كتاب"هوامش الفلسفة"منشورات مينوي 1972، نشر دريدا مقالة في عنوان البئر والهرم: مدخل إلى سيميولوجية هيغل"، أبان فيها أن سيميولوجية هيغل متأثرة بأفلاطون. وإن كانت العلامات صروحاً تقيم فيها الأرواح الحسية، الحية والأبدية، فيمكننا أن نرى في الهرم الفرعوني ضريحاً للرمز الأعلى. وعليه يرى دريدا بأن سيميولوجية هيغل لا تعدو كونها علماً عاماً للأهرامات. أليس إذاً من الصعب إدراك أن الاهتمام الذي يبديه هيغل للعلامات يساير في الواقع نهجا يتجاوز النزعة المصرية. وهو لا يأخذ مكانه لا بالقرب من ثقل الأهرامات ولا بالقرب من الطابع الغامض للهيروغليفات. يرى هيغل أنه يجب التخلص من الاثنين قبل أن يتغلف الفكر بغلاف لغوي. يبقى المصريون في نظر هيغل دائماً أسرى ما هو براني مثلهم مثل الصينيين حيث اللغة والكتابة نسق متكامل من الحواجز. اهتمام دريدا بالهرم نابع من كون هذا الأخير هو الصورة البدئية أو البدائية للمواد الثقيلة التي لا يمكن تحريكها أو نقلها بسهولة. وبصفته الداعي إلى التخلص من الاتجاه الأوحد، أراد دريدا التذكير بالبنيات الرؤوية لمن هم خالدون. ليست الحياة إلا بقاء على قيد الحياة. انها تتخذ شكل تذكر ذاتي. أن يوجد الإنسان في هذه اللحظة معناه أنه نجا من نفسه. على ضوء مقاربة بيتر سلوترديك، يزول التخوف الذي طالما أبداه دريدا في مسألة مستقبل نتاجه ومن أن عمله الفلسفي قد ينطفئ بوفاته، ويتأكد على أن نتاجه المتشظي سيبقى مرافقاً للفكر الفلسفي ومحط دراسة وتفسير وتأويل في أكثر من مكان. "دريدا المصري"نصّ فلسفي فريد يقترح مدخلاً فلسفياً خاصاً الى عالم دريدا الصعب والمعقد.