} يحتل المفكر الفرنسي، الجزائري المولد جاك دريدا حيّزاً في السجال الفكري والفلسفي في العالم العربي عبر كتبه التي ترجمت وتترجم وعبر الندوات التي يشارك فيها في العواصم العربية. ولئن عرف فكر دريدا رواجاً عربياً لافتاً فإن نواحي عدة منه لم تخضع للقراءة النقدية وهي نواحٍ تخفي الكثير من الأسئلة والشكوك والالتباسات. هنا قراءة في ظاهرة دريدا: ان يكون الغرب أزمتنا، فتلك هي الأزمة، لأن غرب النقد والفلسفة والمساءلة والتشكيك والتفكيك، هو الغرب الساعي الى "جينيالوجيا" الأصول والجذور، كتابة وانتماء وإرثاً، حتى إذا "صادف" تاريخياته أو مركزياته، هدمها بالتفسير والتأويل والانزياح، وتركنا في "متاهة" البحث عنه، ولو ان خطابنا - عنده - هو خطاب "المقصي" إن لم نقل خطاب "الخصي". ثم ان يكون جاك دريدا هو المُعلم والمَعلَم، نتباهى بحيازة خطابه ولو من بعض وجه، ونتعاير بالاقبال عليه أو الإحجام عنه، فتلك أيضاً "أزمة" ولكنها "أزمة مترفة" تعبق بالفلسفة وانطولوجية الانتماء، والهوية، والمتوسطية، والعبرانية والاسلام. ولما كان دريدا مشغولاً بالأصول و"جينيالوجياتها"، نعود به الى مركز "القَبل" و"البَعد" في تاريخ الفلسفة، إذ نعود الى سقراط الذي لعب دور "القابلة" في توليد الأفكار، ومغايراتها، واختلافاتها، والى "جمهورية افلاطون" وسؤال غلوكون لسقراط: "من هم الذين تدعوهم فلاسفة حقيقيين؟ فيجيبه سقراط: هم الذين يحبون ان يروا الحقيقة. فالفيلسوف لا يخطئ في حسبان المجالي جوهراً ولا الجوهر مجالي. فالموجود حقيقة يعرف معرفة تامة، اما المعدوم فمجهول تماماً، وبينهما حال متوسطة بين العلم والجهل بما هو متردد بين الوجود والعدم وهي ما ندعوه تصوراً، إلا أن العلم والتصور "غيران"، لأن ميدان نفوذ التصور هو "الظن"، وموضوعه ليس الموجود ولا المعدوم. لذا فالتصوّر أقل وضوحاً من المعرفة، وأقل خفاءً من الجهل، وهو ليس مادة علم ولا مادة جهل، بل انه كأحجية التضاد التي تتلى للتسلية، وتقول الأحجية: قيل إن رجلاً وليس برجل، رمى وما رمى، طائراً وليس بطائر، جاثماً وليس بجاثم، على غصن وليس بغصن، بحجر وليس بحجر". وبالاستناد الى سقراط في تعريفه للفيلسوف، فنحن نظن ان دريدا المنشغل - منذ العام 1962 - بأركيولوجيات افلاطون، ونيتشه، انما انشغل بمواضيع "التصوير" لا بمواضيع "المعرفة"، لذا يمكن تسمية هذا الفاتح/ الرائد ب"محب للتصوّر" بدلاً من تسميته "فيلسوفاً" بحسب سقراط. فسقراط إذ يتابع تعريفه بالفيلسوف يقول: "إذا اقترن بالفلسفة غير أهلها وصفنا تصوراتهم بأنها سفسطات، مولود غير شرعي، وكأنه النغل السافل". والسؤال هنا: هل يمكن أن تُنعت كتابات دريدا بالسفسطة؟ أو تُشبه ب"النغل السافل"؟ فدريدا منذ كتابه "في النحوية" "De la Grammatologie" الصادر في العام 1967، يسعى الى ابطال كل الفرضيات كما كل المسلمات القائمة على الايمان بوجود المعنى الحقيقي. فهو لا يثبت معنى إلا لينقضه، ولا يهتدي الى مركز إلا ليحوله عن مركزيته، كأن تصبح غاية دريدا المسماة منهجية "قوة تخريبية" لا تلمس شيئاً إلا لتنسف مسلماته وتفجره شظايا. فمنذ الصفحات الأولى لكتابه "في النحوية" يقدم دريدا عمله ليس باعتباره "هدماً" لمركزية العقل، ولكن باعتباره "خلخلة وتفكيكاً" لكل المعاني التي تستمد منشأها من اللوغوس، وخصوصاً معنى الحقيقة. فليس هناك حقيقة وانما "هناك هجنة" يجعل منها المقياس والسبيل للتشكيك بحكايات "الكون" الكبرى، والتي منها حكاية الأصل والمنشأ والهوية واللغة. وقد تأصلت "هجنة" دريدا بقوله: "انني قادم من الضفة الجنوبية للمتوسط، ضفة ليست اساساً فرنسية، ولا أوروبية، ولا لاتينية، ولا مسيحية، بل ربما ضفة تتداخل فيها اليهودية والاسلام، لذا فأنا هجين أوروبي" L'autre Cap, Paris, Galilژe 1991. وجاء في "لسان العرب" ان الهجنة من الكلام هو ما يعيبك، والهجين العربي هو ابن الأَمَةِ لأنه معيب. وقالت العرب: ان للعلم آفة ونكداً وهجنة، والهجنة تعني هنا الإضاعة، كما قالت ان الهاجن هي المرأة التي تتزوج قبل أن تبلغ، وكذلك الصغيرة من البهائم. ونسأل دريدا عبر "لسان العرب": هل ان هجنته تعني عيوبه؟ وما هي؟ أم ان مشروعه "التفكيكي" لم يبلغ نضجه بعد؟ ام انه المشروع الأقرب الى "هجنة صغار البهائم" لأن هذه ينطبق عليها مشروع دريدا المتمحور حول "مركزية الصوت" لا "مركزية العقل" لأن لغة البهائم هي لغة "الفونيمات" لا لغة "المعقولات والمدركات". أما فتحي بن سلامة وفي افتتاحه لقاء الرباط مع جاك دريدا فيعلق على تلك الهجنة قائلاً: "ان الضفة التي ليست فرنسية، ولا أوروبية، ولا لاتينية ولا مسيحية، أليست هي حيث تتداخل اليهودية والاسلام؟ نحن نعلم ان هناك يكمن عذاب للكائنات وللفكر، وان فك الرموز لن يأخذ بعده الحقيقي إلا حين ينقضي التمزق الاسرائيلي - الفلسطيني، فلا بد من أن يصير الأصل الابراهيمي في متناول التفكيك، لأنه سيكون في نقطة انشطاره واختلافه. هذه النقطة في محكي سفر التكوين اسمها ابراهيم وحوله تشكيل أول اسرة توحيدية، مما يبدأ مسألة الرب باعتباره قسمة بين أخوين. والحال ان كل شيء يشير الى ان الميراث ليس اشكالياً إلا بالقدر الذي تكون فيه الأبوة كذلك اشكالية، وبطريقة هي من الجذرية بحيث تمتزج مع المستحيل. ليست القسمة هي المستحيل في هذه القصة، وانما المشكلة هي المستحيل الذي نقتسمه في الروحانية الابراهيمية" لقاء الرباط مع جاك دريدا، دار توبقال، المغرب 1998، ص 10 - 11. وإذ يرد دريدا يقول في كتابه L'autre Cap: "ان صورة "الروح الأوروبي" التي تشكل موضوع L'autre Cap، لا تعني استيهامات الوجهة التي يلزم احتلالها أو امتلاكها من جديد نزوة السلطان والسلطة، ورغبة احتلال موقع السيادة، وموقع الوجهة، والربّان، وقمة الرأسمال، والرأس أو الرئيس، بل كذلك التصارع مع شكل السيادة ذاته، "لأن التراث الكوسموبوليتي هو بحكم تأسيسه تراث مسيحي، يحتاج الى تفكيك تركيبه للصعود به صوب الأصل والمصدر. فهناك مسألة تتعلق بمصر. ولقد تكررت اشارة الى لحظة معينة في القرآن حيث اليهود يُعرَّفون بوصفهم مصريين، ففي كل التواريخ التي نتكلم عنها يتكرر ذكر المصريين: مصريون بالنسبة للاغريق، مصريون في القرآن، يهود بوصفهم مصريين. ما هو إذاً هذا الموقع الفريد والمملوء والنموذجي لمصر؟ ان مجموع اشكاليتنا هي أشبه بفرع من المعرفة جديد يمكن تسميته علم المصريات الجديد. فإذا شئنا الذهاب الى ما وراء هذا "اللفظ" وربط هذه الملاحظة بالأسئلة السياسية الخطيرة التي نطرحها على أنفسنا اليوم، اليوم بالذات، حول الاسلام، أو الجغرافية السياسية للاسلام، أو ما يتعلق بالاسلام، فما هو موقع مصر الحديثة في هذا المصير؟" جاك دريدا، لقاء الرباط م.س. ص 206 - 207. وما ان يتابع دريدا ردّه على فتحي بن سلامة في مسألة الأصل والأبوة والإرث حتى يقول: "إذا كان الإرث الالهي هبة، فكيف العلم بوجود هبة؟ ان هبة المستحيل تستبعد هيكلياً ان يكون ممكناً أبداً تحديد انه قد كانت ثمة هبة بواسطة حُكم حاسم، أو بواسطة معرفة، أو أرشيف مقنع. ان كان ثمة من هبة، فليس بالامكان معرفة ذلك. انها على مستوى لم يعد يتعلق بالمعرفة، ولا ينبغي ان يتعلق بها. إن ارادة المعرفة، وإذن تحديد ان كانت هبة قد وجدت فلا بد من اعادة ادراجها في سيرورة تعيين الأبوة، لأن الأب الأصلي هو في نهاية الأمر، ركن هذه المعرفة". تعيين الأبوّة وبعبارة أخرى "فإن فعل تعيين الأبوة والتحديد الواثق "للهبة" سينتج الديانة اليهودية، المسيحية، الاسلامية حيث ينبغي التمييز بين الايمان والدين كتمييز بين متنافرين لا متجانسين، وحيث يجب الاقرار ان الهبة ان وُجدت لا ينبغي لها أبداً أن تقوم مرة ثانية بتعبئة هذا التشكيل العائلي". جاك دريدا، لقاء الرباط، م.س. ص 208 ونحن نسأل دريدا عن "يقين" الهبة أو "تأرجحها" وهي هبة/ إرث الأب، فهل انه يرى ان هذه الهبة/ الإرث تقوم "على أولية الوارث" والذي لا بد من أن يكون زمنياً - اليهودية - من دون سواها من الديانات؟ ودريدا الذي تتداخل عنده "الجينيالوجيا" ب"التاريخ" يقول في هذه الاشكالية: "من المستحيل عليّ أكثر من أي وقت مضى أن أرتجل تفكيراً حول عمل بهذا الثراء والمندور، كما أعتقد، لتغيير كل "توزيعة" لا بد من تأويل هذه القصص المؤسِّسة للأصل. نعم "توزيعة" هي تسمية لهذا التوزيع للعناصر الأصلية والنتيجة المنطقية ل"كان يا ما كان"، وأنا أميل الى القول ان الأب، كالهبة، مُقبلٌ على الفقد. وهذا حدث مقبل من المستقبل. كأنه فرصة وتهديد بإمكاننا اليوم أن نعيِّن لهما اليوم اشكالاً تاريخية وسياسية، ولا سيما في العلاقات بين كل الديانات المسماة ابراهيمية، وبين "البَدليات" التي تنجزها تلك العلاقات من ديانة الى أخرى، أما عن البدلية في تراث أبراهامي - ابراهيمي، فأنا أتساءل عن الموقع الجديد ربما، لست أدري الذي سيُمنح لما يُسمى "ذبيحة اسحق" أو "رباط إسحق" في هذه الازاحة التأويلية المدهشة، وكيف تكون اعادة قراءة "بَدَلية" الكبش كبش الفداء الذي ليس هو أي صورة ولا أي حيوان، بل يرى فيه تقليد تلمودي صورة الأب الأصلي" جاك دريدا، لقاء الرباط، م. س. ص 209. من هنا فإن "الهجنة" المقلقة التي تحدث عنها جاك دريدا هي هجنة الهوية لا اللغة، انها هجنة الأصل "الابراهامي" الذي تشكلت حوله اول اسرة توحيدية ردّها دريدا الى ذبيحة اسحق مغفلاً إرث اسماعيل. أما عن أحقية أو جدارة المستحق لمساءلة او اشكالية كهذه فإن دريدا يقول: "لقد أبديت شكوكاً حول إمكانات كتابة تاريخ للكذب. غير ان فرضية مثل هذا التاريخ، تملي علينا يقينين اثنين: إن كان هذا التاريخ قد كُتب، وهذا ما أشك فيه، فلا يمكن ان يكون قد كتبه لا فيلسوف ولا مؤرخ. كلاهما في رأيي غير مؤهلين لكتابة مثل هذا التاريخ: لأن الفيلسوف سيجعل من الكذب، لحظة ثانوية في تاريخ الحقيقة أو العقل، ولأن مؤرخ الوقائع سيروي قصصاً بواسطة أفق واحد، غير مُعضلي وغير اشكالي، ان ما سميته "تاريخ الكذب" يستدعي خطاباً تفكيكياً، هناك حيث التاريخ سواء باعتباره حدثاً أو باعتباره خطاباً علمياً، سيكون مستحيلاً، ممتنعاً على التفكير من دون كذبة واحدة على الأقل" جاك دريدا، لقاء الرباط، م.س. ص 229. هذه "الكذبة" التي يضمرها جاك دريدا، لا بد لها من أن تكون كذبة الأصل والهوية، التي تقوم على الاسم العلم لابراهيم وذريته، والتي سيفككها "دريدا" وصولاً الى الميراث والوعد. أما العقيدة الابراهيمية بالمعنى العربي / المشرقي فهي يقين السقطة أو الشرخ بين الالهي/ والانساني أو بين اللازمني/ والزمني، والابراهيمية بهذا المعنى هي "العقيدة" وليست الاسم العلم. جاء في الفصل الثالث من رسائل القديس بولس الى أهل رومية: "ان الانسان انما يتبرر بالايمان بدون اعمال الناموس. ألعلَّ اللهَ إلهٌ لليهود فقط ليس للأمم جميعاً. بلى هو للأمم ايضاً. فإن الله واحدٌ ويبرر الختان بالإيمان والقلَفَ بالايمان، أفنبطل الناموس بالإيمان حاشى بل نثبت الناموس". وقال القديس بولس في رسالته الرابعة الى أهل رومية: "طوبى للرجل الذي لم يحسب عليه الرب خطية. أفللختان فقط هذه الطوبى أم للقلف أيضاً، فإنّا نقول إن الايمان حسب لابراهيم برّاً، فكيف حُسِبَ: أإذا كان في الختان أم اذ كان في القلف؟ انه لم يكن حينئذ في الختان بل في القلف. وقد أخذ سمة الختان خاتماً لبرّ الإيمان الذي كان في القلف ليكون أباً لجميع الذين يؤمنون. فإن الموعد لابراهيم ونسله بأن يكون وارثاً للعالم لم يكن بالناموس ولكن ببر الايمان. لأن الناموس ينشئ الغضب، إذ حيث لا يكون ناموسٌ لا يكون تعدٍّ". ويرى جاك دريدا في تحديد الابراهيمية فيقول: "ان القابل للمقايسة مع غير القابل للمقايسة أي الهبة هو فعل ايمان يتخلى عن ان يعرف إن كان ثمة هبة. الهبة تنتمي أبدياً الى مستوى الايمان، وتفتح مستوى الايمان، ايمان متحصّن ضد كل معرفة، حتى لو كان يستدعي ويتحكم في المعرفة انطلاقاً من هذه اللامعرفة،. فالايمان يتخلى، بصدد الهبة عن المعرفة والعكس بالعكس". جاك دريدا، لقاء الرباط. م.س. ص 208. ونسأل دريدا: كيف يمكنه ان يستسلم "لايمان" يتحصَّن ضد كل معرفة، وهذه المعرفة الغائبة هي التي يمنع فيها "الأرشيف التوراتي" عن امكان الظن أو الافتراض بأن سارة تتلقى ابنها "اسحق" لا من ابراهيم بل من الله، الذي سيصير هو الأب، وكأن إله سفر التكوين، انما يضع ابراهيم في موقف من ليس سوى أب ب"التبني" أو ب"النيابة" كما كان يوسف النجار بإزاء المسيح. وعليه فإمكان المستحيل هو إمكان لا - يقين الأب الفعلي. وهنا يتبدى خط القسمة "الجينيالوجي" بين اليهودية والمسيحية من جهة وبين الاسلام من جهة ثانية. ولما جاءت مصادر الاسلام في ختام مصادر الأديان الكتابية، حُسِمَ امر ابراهيم وذريته على ما جاء في سورة آل عمران: "قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن توَلوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون يا أهل الكتاب لِمَ تحاجون في ابراهيم وما أنزلت التوراة والانجيل إلا من بعده أفلا تعقلون ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وانتم لا تعلمو ما كان ابراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين إن أولى الناس بابراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين" الآيات 63-68. وما الآيات سوى دليل على محاجّات أهل الكتاب وتنازعهم حول أبوة ابراهيم، وليس لهم علم لمن ترد الأبوة: ألابراهيم؟ أم لله؟ ام انها أبوة اسماعيل من هاجر؟ أم انها أبوة اسحق من سارة؟ وهذا ما يجعل من الأبوة اشكالاً قبل أن يجعل من الإرث اشكالاً ومن الأمومة اشكالاً، ومن ابن الجارية اشكالاً، ومن ابن الأميرة اشكالاً، ومن تنازع الرب ويهوه اشكالاً، ومن الأرض اشكالاً، أرض أور؟ أم أرض مصر؟ أم الصحراء؟ أم أرض كنعان؟ هذه هي التفكيكات "المستحيلة" التي يردنا اليها جاك دريدا لأن النزاع على العقيدة لم يكن في نشأته إلا فرعاً من فروع التنازع على الميراث. وهو الميراث الكامن في عقيدتين من عقائد أهل الكتاب والتوحيد: اليهودية والاسلام. أما النصرانية فقد اكتفت ب"مملكة السماء" إذ قال القديس بولس في الفصل الحادي عشر من رسالته الى العبرانيين: "مات أولئك كلهم غير حاصلين على المواعد، بل انما نظروها وحيّوها من بعيد، واعترفوا بأنهم غرباء ونزلاء على الأرض، والذين يقولون مثل ذلك يوضحون انهم يطلبون وطنهم. ولو انهم ذكروا الوطن الذي قد خرجوا منه لكان لهم سبيل للعود اليه، لكنهم يشتاقون وطناً أفضل وهو السماوي، فلذلك لا يستحي الله ان يدعى الههم - وأبوهم - لأنه اعدّ لهم مدينة". أخيراً ان هذه المساءلة حول "تفكيك" لا يُنعت ب"البراءة" ولا ب"الإثم" ولا ب"التاريخ" ولا ب"اللاهوت" ولا ب"الفلسفة" وإنما ب"الظن والتصوّر" كما قال سقراط، هو في اعتقادنا "تفكيك" ل"هويات" ما زالت تبحث عن "هوياتها"، "الغريب" منها، و"المقلق" إن لم نقل "المتعدّي". وطالما استولت علينا "دهاليز" الغربة والأصول والهويات، فلا بدّ من أن نعود الى نصٍ كرسه دريدا لطفولته الجزائرية، وهو "نص لا يأتينا منزوعاً من قواه، وكأنه يقبع تحت رحمتنا، بل انه يتحدّانا ويُعرضنا لأن نستنطقه بكثير من العدوانية، لأنه نص يخاتلنا ب"اللغة" لا ب"الانتماء" ويحدثنا عن "طفولة يهودية - عربية" وعن أولى لغاته الأثيرة المسلوبة التي لا نعرف عنها: أعربية هي أم بربرية؟ وسواء كانت هذه أو تلك، وسواء تذكر دريدا أولى الكلمات التي نطق بها أو لم يتذكر فإنه يبقى "أسير" لغة واحدة، و"وحيد لغة" ليست هي لغته! لذا فهو يفكك لغاته ولغات الآخرين بحثاً عن لغته المستحيلة" التي هي لغة "الما قبل بابل" أي لغة المستحيل، لا لغة الشتات والبلبلة.