من هو دريدا صاحب نظرية التفكيك؟ أهو الفيلسوف ذو الأصل الجزائري؟ أم المنظر الأوروبي الفرنسي؟ أم الاستاذ المحاضر في الجامعات الأميركية؟ ماذا نعني بالتفكيك؟ أهي فلسفة؟ أم منهج للنقد الأدبي؟ أم موقف سياسي؟ وما الذي يعنينا نحن - في وطننا العربي - من الرجل وفلسفته؟ هذه اسئلة نطرحها بالكاد بعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً استطاع خلالها رائد التفكيك جاك دريدا أن يكون واحداً من أكبر مفكري القرن العشرين في العالم. نطرحها بالكاد بعد حضور المفكر الفيلسوف الى مصر بدعوة من الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، ولمدة ثلاثة أيام. وقد ألقى في اليوم الأول محاضرة عن مستقبل التفكيكية والعلوم الإنسانية في جامعة الغد، وترجمت المحاضرة الى العربية. وعرض بعدها فيلم تسجيلي عن دريدا. وفي اليوم الثاني والثالث على التوالي حاوره - من خلال موائد مستديرة - بعض المفكرين والنقاد المصريين في قضايا التفكيك والفلسفة، والتفكيك والنقد الأدبي. ولا شك أن ثمة توجساً وشغفاً اعترىا المثقفين المصريين - في الخفية أم في الظاهر - خلال لقائهم دريدا. أولاً: لأن موعد الزيارة واكب تأجج المشاعر الوطنية الغاضبة من جراء القصف الإسرائيلي الغاشم للبنان. ثانياً: لأن كل مواقفه السياسية بدت غير ذات صلة واضحة بفلسفته التفكيكية. ثالثاً: لأن ما انتهى الينا في عالمنا الثقافي العربي من معرفة للتفكيك ضئيل، إذ لم يترجم من أعمال الكاتب إلا كتاب "أشباح ماركس"، وبضعة أجزاء من "الكتابة والاختلاف"، أو بعض مقالاته، في حين أن مؤلفاته بلغت العشرات. ورابعاً: لأن بعض الأدبيات الوسيطة التي قدمت لنا أو قرأت لنا التفكيكية لم تكن كافية بذاتها للتعرف عليه، إن لم تكن شوهت الصورة أكثر مما أجلتها. علاوة على أن مؤلفات دريدا في لغاتها الأصلية يكتنفها الغموض، والصعوبة أساساً. وقد قال لي أحد الباحثين الفرنسيين المرموقين حين علم أننا نترجم كتاب "علم أصول الكتابة" من الفرنسية إلى العربية "عليكم أن تترجموه لنا إلى الفرنسية أولاً"! ولا شك أيضاً أن زيارة دريدا مصر كانت حدثاً ثقافياً مهماً، إذ اكتظت قاعات المجلس وباحاته بالجمهور على غير توقع، وطالت المناقشات مع المثقفين المصريين إلى حد خرج بها في معظم الأحيان عن المواعيد المقررة لانتهائها. وتنوعت نبرات الخطاب ما بين الهجوم والتعاطف والاستفهام لدى المحاورين، وما بين الغضب حينا والرغبة القديرة والمسهبة أحياناً - من قبل الفيلسوف - في التعريف بفلسفته. وكانت حلقات النقاش - في تقديري - خصبة ومفيدة، وتطرقت الى موضوعات مهمة، وقد مثلت أجيالاً متفاوتة وعدداً من التيارات الثقافية والاتجاهات السياسية المعادية للتفكيك، أو العارفة به، أو المتسائلة عن جدواه، أو المدققة في تفاصيله. والحق أن جل هذه المحاورات دارت في إطار ثري وجدي، ولم يحتد النقاش إلا إزاء رأي أو اثنين من مجمل الآراء المطروحة. وأراد دريدا في رده على هذه الآراء أو حتى الاتهامات أن يحيل أصحابها إلى قراءة أعماله قبل الاعتراض والمناقشة. وعلى الوجه الآخر كان يقارع المعارضات الموضوعية بالحجة، وبدا حريصاً على محاورة حقيقية مع أصحابها. وفي تقديري أن هذه الزيارة عرفت نجاحاً لا نظير له في التاريخ النشط للمجلس الأعلى للثقافة، فكانت تتويجا لجهود حقيقية بذلها العاملون في المجلس والمثقفون المصريون. وقد أثارت قضايا وأسئلة ما كان لها أن تنهض لولا هذا اللقاء المفتوح بين مختلف الأطراف. وحفزت الرأي الثقافي العام الى مزيد من التعرف - لا التبني - على تيار فكري مؤثر في الفكر العالمي في القرن العشرين. وأخيراً ترك الرجل البلاد يملأه الإعجاب ببلد أحب أن يراه طيلة حياته. ووصف لقاءه به في الجلسة الافتتاحية بمن يلتقي ذاكرته السحيقة ويراها رؤىة العين، ورحل عنه وهو على يقين بأن الصورة النمطية التي يكرسها الغرب عن هذا العالم مخالفة لواقعه الحيوي. ونظراً الى الإقبال الشديد على الجلسات شاب اللقاء بعض القصور، اذ لم تكن القاعات كافية لاستيعاب الحضور، وأدى غياب الترجمة الفورية إلى استغراق وقت طويل مما قاد إلى اختزال المداخلات المقررة على جدول الأعمال، وإلى شكوى آخرين من عدم الترجمة الكاملة لكل ما قيل. واعتقد أن من المفيد بعد انتهاء زيارة دريدا أن تعقد جلسة خاصة بالمشاركين في هذه الندوة المهمة لمراجعة أهم ما أثارته من قضايا في مجال التعليم الجامعي الحر، والنقد الأدبي المبدع، والفلسفة القارئة للنصوص، بغية الوقوف على ما يمكن الإفادة منه أو طرحه أو إعادة تقويمه، حتى لا تمر بنا الأحداث كعادتها مثل زوبعة في فنجان، من دون تحريك عام لما آن له أن يتحرك وبقوة في عالمنا الثقافي العربي. ولد جاك دريدا عام 1930 في الجزائر ومكث فيها حتى عام 1949. ومع ذلك فهو لا يعرف العربية، وقد غادر دريدا الجزائر للدراسة في فرنسا وهناك حصل على الدكتوراه في الفلسفة عام 1967. ويعمل الآن استاذاً للفلسفة في كلية الدراسات العليا في باريس. ولكنه حاضر كاستاذ زائر في جامعات عالمية منها على سبيل المثال جامعة بيل وجامعة كاليفورنيا في أميركا، وجامعة تورنتو في كندا، وجامعة الجزائر، وجامعة أكسفورد في بريطانيا، وجامعة زيورخ في سويسرا، وجامعة برلين الغربية. وحصل على الدكتوراه الفخرية من بعض الجامعات في مختلف أنحاء العالم، وعلى الكثير من الأوسمة في الفنون والآداب. وزار دريدا المغرب عام 1997، ثم مصر التي يراها للمرة الأولى في حياته، وإن كان كتب عنها كثيراً ولا سيما في كتابه "في علم أصول الكتابة" De la Grammatologie. والمجلس الأعلى للثقافة في صدد إصدار الترجمة العربية لهذا الكتاب المؤسس للنظرية التفكيكية في غضون الشهور المقبلة. ولدريدا عشرات المؤلفات والمقالات، أهمها: "في علم الكتابة"، "الكتابة والاختلاف"، "الصوت والظاهرة"، "حواشي الفلسفة"، "الانتشار"، "مواقف"، "أجراس"، "عصر هيغل"، "البطاقة البريدية"، "لاهوت الترجمة"، "الإعجاب بمنديلا"، "عن العقل"، "الحق في الفلسفة"، "ما هو الشعر؟"، "اعترافات مبتورة"، "عواطف"، "أشباح ماركس"، "سياسات الصداقة"، "موسكو ذهاباً وإياباً"، "الإيمان والمعرفة"، "أحادية اللغة لدى الآخر"، "عن الضيافة"، "الأمر بالإعدام"... لا شك أن الفكر والنقد والفلسفة تزداد التحاماً بالمشاكل السياسية وهذا ما نجده لدى كثير من المفكرين مثل بول ريكور وميشيل فوكو وبورديو وليوثار ودريدا. غير أن الكتابة الفلسفية التفكيكية لدى دريدا لا تنمّ عن صلة واضحة بمواقفه السياسية الحاسمة، فهو على الرغم من عدم تنكره انتمائه اليهودي الصوفي لا يمل من إدانة الصهيونية، وتأييد المقاومة الفلسطينية. وقد وقف ضد سياسة التمييز العنصري ودافع عن منديلا. وكتب أخيراً مقدمة الترجمة الفرنسية للمناضل الزنجي المسلم الاميركي موميا أبو جمال. وطالب بمساندة الكتاب المهددين بالموت في بلادهم، وفي فرنسا كان من أكبر المناصرين لحقوق المتعطلين عن العمل والمهاجرين العرب. كل هذه المؤلفات والمواقف تجعل من الصعب الإلمام التام بفكر الفيلسوف وبآرائه التي تعصي على الاختزال. ومع ذلك فقد حرصت ألا أكرر عليه أسئلة طرحت في الجلسات وأن أركز حديثي معه على أمور ثلاثة أولها خاص بالسياسة وثانيها يتطرق الى الجامعة وثالثها في النقد الأدبي. لقد تحدثت عما اسميته كرم الضيافة المطلق بوصفه مطلباً إنسانياً يجب ألا تحده الحدود، إذ أن انتظار المقابل يسلب الضيافة معناها، ونحن هنا في مصر يطرأ على ذهننا فوراً أن نتساءل هل يجوز، حيال الكيان الإسرائيلي وممارساته العدوانية التي كان ومازال يقوم بها ضد الفلسطينيين والعرب وأخيراً الاعتداءات الغاشمة على لبنان، هل يجب على العرب أن يتحلوا بهذه الضيافة المطلقة للإسرائيليين الذين يسلبونهم الأرض، وينفونهم منها، أو يروون تربتها بدمائهم؟ - نحن هنا لسنا أمام حالة ضيافة، وإنما حالة عدوان وضغينة. لا شك أن هناك دائماً خطراً كامناً في الضيافة المطلقة، خطراً في أن يستعمر الضيف مضيفه. في هذه الحالة التي تذكرينها فأنا لست مع الضيافة المطلقة، أنا مع المقاومة ومع التصدي لهذا الشكل من الاحتلال. ولكن هنا يجب تحديد أفضل طريقة لمقاومة الاحتلال، ومن الطبيعي ألا اقبل الاحتلال، لقد عارضت دائماً وبصورة علنية كل الممارسات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، وذلك منذ زمن مبكر، منذ نشأة دولة إسرائيل، بل إنني عبرت عن رأيي هذا في إسرائيل نفسها. ولن أغير رأيي هذا وأنا أحدثك هنا والآن في مصر. لكنني أيضاً لست مع النزعات المضادة لليهودية، يجب أن ينظر في الأمر. لكن موقفي المناصر للمقاومة واضح جداً ولا لبس فيه ومنذ البداية. لقد كنت أحد الداعين الى القرار الذي اتخذته ثلاثون دولة أوروبية في شأن منح حق اللجوء للمثقفين والكتّاب المضطهدين في بلاد العالم النامي، ألا ترى أن في مثل هذا القرار تيسيرا لحل سهل يحد من رغبة هؤلاء المفكرين في الكفاح من أجل تغيير الأوضاع في بلادهم، وأن مثل هذا القرار قد يؤدي الى تفريغ هذه البلدان من المفكرين والمثقفين المناط بهم النضال من أجل الإصلاح في هذه البلدان؟ - أنا لم أكن أبداً متحمساً لهجرة الكتاب المثقفين من بلادهم الى فرنسا. لكننا أردنا ببساطة في البرلمان الدولي للكتاب أن نعين الكتاب المهددين بالموت أو باستحالة العيش والعمل في بلادهم على الحياة، مثلما هو الحال في الجزائر مثلا أو غيرها، ويتمثل العرض الذي تمنحه هذه الدول للكتاب في منحهم حق اللجوء السياسي إليها فترةً ما لإنقاذ حياتهم أو إنقاذ عملهم. إننا نساعدهم فحسب على مواصلة العمل، والكتابة حتى تسمع اصواتهم. والحقيقة أن ثلاثين بلداً قابلة لحق اللجوء السياسي لا تجد أمامها سوى مئة طلب لكتابٍ مهددين بالموت في بلادهم، ومثل هذا العدد بعيد عن تفريغ هذه البلاد من مفكريها، وكاتبها. ولعل هؤلاء الكتّاب انفسهم ليسوا سعداء بالمكوث في بلاد غير بلادهم، وغالباً ما يتعجلون العودة الى مواطنهم بمجرد أن يصلح الوضع. تحدثت عن جامعة جديدة للعلوم الإنسانية تتخذ من وثيقة "إعلان حقوق الإنسان" ومن وثيقة "الجريمة ضد الإنسانية" عماداً لها، ألا ترى في ذلك دعماً للمركزية الأوروبية التي تكافح ضدها، خاصة وأن هاتين الوثيقتين افتقدتا الكثير من مصداقيتهما؟ ثم ألا ترى أن مثل هذه الجامعة الحرة وغير المشروطة ربما لا يمكنها أن تكون نمطاً عالميا صالحا للتطبيق في بلد مثل بلدنا لا تعاني جامعاته من انعدام الحرية فحسب، وإنما من الفوضى أساساً؟ - لعل الانسانية التي أدعو إليها كميثاق شرف للجامعة وللأستاذ الجامعي الذي عليه - وفي مقابل الكيان الحر وغير المشروط للجامعة - أن يلتزم بشهادة إيمان بالعمل الجامعي والإبداع العلمي، فالجامعة هنا تجعل مهنتها الحقيقية الالتزام بلا حدود تجاه الحقيقة. وعلى الجامعة في هذا السبيل أن تواجه كل السلطات: سلطة الدولة والسلطة الاقتصادية، وسلطة الإعلام وسلطات الدين والايديولوجيا. ومثل هذه الجامعة، واطمئني فهي ليس لها وجود في أي مكان في العالم، ولكن مثل هذه الجامعة الافتراضية هي ما يمكن أن تعمل وكأنها سوف تحدث، ولكل ثقافة أن تبدع تصورها - وفق صيغة الجامعة ووفقاً للتحديات التي تجابهها. أما قولك إنني أدعم المركزية الأوروبية، فهذا يؤلمني، لأنني عملت دائماً على زعزعة هذه المركزية وأولها وليس بآخرها محاولتي زعزعة مركزية الكلام في الثقافة الأوروبية بوصفها مركزية أوروبية في الأساس، منتقلاً منها إلى أهمية الكتابة واحتوائها على الكثير من الخصائص التي كانت من قبل مقصورة على امتياز الكلام. وحين ذكرت النصين السالفي الذكر لم أقل إنهما النصان الوحيدان اللذين يرجع إليهما، بل إنني دعوت الى تفكيكهما هما أيضاً وإبراز ما ينطويان عليه من تناقضات. ألاحظ أن ثمة تقارباً بين التفكيك والهرمنوطيقا، فهما لا يقدمان نظرية نقدية وإنما استراتيجيات لقراءة النصوص، وكلاهما يعتمد على ذاتية القارئ، وكلاهما محاولة للكشف عن المسكوت عنه أو عن المدهش الخفي في النص، كلاهما مواجهة لمعضلة الزمن في اللغة، وكلاهما ايضاً تفسير قائم على التساؤل المستمر، وعلى رفض أن يشكل أي منهما سلطة مصادرة لمعنى النص. وكلاهما يربط تحليل النص بمعطيات الفلسفة، وتحليل اللغة. والتحليل في كلتا الحالتين عصي على الاختزال، وكلاهما له أصول في تفسير اللاهوت، والتفكيك يعثر على التناقض والاختلاف ولكنه لا يعدم غاية تدور حول الإنسان وحياة الإنسان. وكذلك تبحث الهرمنيوطيقا عن القيم الانسانية في النص. وإن كنت ألاحظ أن الهرمنيوطيقا تشدد على انسجام المعنى في حين يجتهد التفكيك في إبراز تشتت المعنى هل هذا في رأيك الاختلاف بينهما؟ - هناك على الأقل طريقتان للنظر الى الهرمنوطيقا الأولى: انها هرمنوطيقا تقليدية تمتد من شلايرماخر وحتى جادامار ويتمثل جهدها في تفسير النص، وملاحقة تعدد المعاني لردها الى معنى مركزي في النص. وهناك طريقة أخرى وهي ما أسميه بالهرمنوطيقا النشطة التي تدخل شيئاً جديداً الى النص على نحو ما نجد عند نيتشه. ومثل هذا التفسير ليس مجرد قراءة تفك شفرة النص. وإنما هي تفكير في النص، وابتداع لمعناه، وهي بذلك تصبح أشبه بإنتاج القصيدة. من خلال هذا التمييز يبدو التفكيك بعيداً عن الهرمنوطيقا في المعنى الأول، وإنما التفكيك في رأيي أقرب إلى المعنى الثاني وهو بذلك هرمنوطيقا جذرية فهو ينتج نصاً ثانياً، ويتفكر المعنى من صميم الاختلاف. ما هي علاقة التفكيك تحديداً بالعمل الأدبي؟ - ليس هناك تفكيك للعمل الأدبي في ذاته، وإنما هناك في كل نص أدبي طبقات فلسفية هي التي تكون مادة صالحة للتحليل التفكيكي. أن التفكيك لا يهتم بالتفرد الشعري لقصيدة ما، ولكن هناك اشياء أخرى كثيرة في القصيدة. هناك ما يمكن أن نسميه وحدات فلسفية Philosofhemes تتيح للنص تفرده أو حدوثه. وهذا هو ما تهتم به التفكيكية وتحاول الكشف عنه. إن التفكيك يعمل على النصوص التي تمتاز بقوة احتوائها على طاقة فلسفية ربما تكون أكبر وأعمق من الخطاب الفلسفي الاكاديمي. ولهذا اهتممت بشعر ملارميه، وكتاب فيليب سوللرز، وجان جنيه وغيرهم. وأنا أعتقد أيضاً أن عملية التفكيك لها في ذاتها بُعدٌ شعري. والتحليل التفكيكي الذي يحلل العمل الأدبي هو بشكل ما "بويطيقا" أو على الأقل فيه ملمح من قوة "البويطيقا". إذا لم يكن المفكك تابعاً أو خاضعاً لنظرية بعينها، فمن هو المفكك وكيف يمكن تكوينه؟ - نعم يجب أن يكون هناك تكوين خاص للمفكك حتى يستطيع أن يمارس تفكيكاً فعالاً وأكيداً. فالمفكك لا يستطيع أن يفكك أي شيء وبأية طريقة. يجب أن يتزود المفكك بتكوين فلسفي، وبكل كفاءة ممكنة، وليست هناك كفاءة شاملة، وإنما تخصصات وكفاءات خاصة، ومع ذلك فللفلسفة امتيازها في الخطاب التفكيكي لأنه خطاب لا يريد أن يكون مخصصاً، والفلسفة هي التي تسمح له بهذه الحرية، شرط أن يكون التفكيك تفكيكاً للأسلوب الفلسفي نفسه، ولتراتبية الفلسفة التي تقع على قمة هرم المعرفة في الثقافة الغربية. هكذا تمتد المعرفة إلى مجالات أخرى كالمعرفة العلمية والتقنية، ومعرفة اللغة. وباختصار لا بد أن يلم المفكك بمعارف عدة ونشاطات مختلفة. ومع ذلك فليس المفكك مثلاً في مصر مثله مثل المفكك في إيطاليا أو الولاياتالمتحدة الاميركية. فالمفكك في مصر مثلاً لا بد أن يكون بصيراً وعارفاً بالنص وبالتاريخ التفسير وكوناته وإشكالياته وباللغة علاوة على إلمام او معرفة واسعة بالثقافة العلمية والتقنية الفلسفية، والطاقة الافتراضية للمعلومات. وربما لا يقوى على ذلك رجل واحد، وإنما فريق كامل من الباحثين. وأعتقد ان المقال لم يصل إلى إجابات شافية لكل ما طرح في مقدمته من اسئلة ولكنه حاول على الأقل أن يشتق اسئلة أخرى وأن يفتح منافذ للإطلال على التفكيكية، منافذ لا تغني عن مطالعة الاصول، ومعاناة مشقة القراءة واستحداث الاسئلة. فإذا كان لنا أن نفيد من التفكيكية في ثقافتنا العربية فإن هذه الافادة لن تغني بدورها عن مسار طويل ضروري لمراجعة تراثنا وحضارتنا وأحلام مستقبلنا. فالمصادرة حيال دريدا أو المحاكاة التامة تخالف ما أراده دريدا نفسه بنظريته من مصير، المسؤولية ما زالت مسؤوليتنا من أجل تفهم أعمق للآخر وتدارس أوعى للنفس. وهذا على الأقل ما يمكن أن نستدركه من خلال تفاعل دريدا معنا وتفاعلنا معه في زيارته القصيرة للقاهرة.