ربما يكون جاك دريدا الذي رحل في تشرين أول أكتوبر عام 2004 من آخر الوجوه الثقافية الكبرى في فرنسا، تاركاً وراءه ذلك اللامع الآخر كلود ليفي شتراوس... وربما يكون أيضاً من آخر الوجوه الفلسفية في العالم كلّه، مخلّفاً وراءه الألماني هابرماس، ولاحقاً بآخر مات قبله بسنوات يدعى: هانز بلومنبرغ. ودريدا، الذي أشهرته الأوساط الجامعية الأميركية أكثر مما أشهرته فرنسا، عرّف نفسه في العالم، بشكل واضح وغامض معاً، بمقولتين: إرجاء الحقيقة، أو تعطيلها، كما رأى البعض، إذ كل حقيقة مفترضة تحيل على آثار سابقة لا سبيل إلى استقصائها، و"الآخر"، أو"الغيرية"، التي تضع في كل ثقافة ثقافة أخرى. بيد أنّ المقولتين لا معنى لهما، بمعزل عن منهج، يدعى"التفكيك، الذي يردّ كل موضوع إلى عناصره، من دون أن يُعنى، كما يرى البعض، بإعادة تركيبه. ولعلّ هذا التفكيك هو ما جعل دريدا ينبذ فكرة"الهوية"، التي تحيل على كيان يتوهّم الانعزال الكلي عن سواه. إذا كان التفكيك نظرية متسقة، أو مجرّد فكرة برّاقة جديدة، وهو الأرجح، فإنّ في حياة دريدا، كما في ثقافته، ما يعلن عن حضور"الآخر"فيه. فهو اليهودي المولود في الجزائر الحامل لثقافة فرنسية، وهو اليهودي التنويري المطالب بدولة فلسطينية مستقلة، وهو الفيلسوف المشبع بفلسفة هيغل وهوسرل وعلم نفس فرويد، والمنفتح على التأويل وفلسفة اللغة. في هذا المسار الأقرب إلى الظاهرة، يكون النص الفلسفي الدريدي حاضنة لنصوص أخرى، ويكون كل نص آخر محصلة لنصوص أخرى، تزامنه لحظة ولا تزامنه على الإطلاق في لحظة أخرى. ولعلّ التعدّد الذي أنتج الفيلسوف، في مرحلة، وقاده إلى تفكيك التعدّد، في مرحلة لاحقة، هو ما أملى عليه أن يفتح الأدب على الفلسفة، وأن يفتح الفلسفة الأدبية، إن جازت التسمية، على فلسفة التأويل، وأن يمحي الحدود بين النصوص المكتوبة المختلفة. في كتاب صغير الحجم ولامع المنظور عنوانه"دريدا، المصري"يكشف الفيلسوف الألماني بيتر سلوتر دايك عن تعدّد المستويات في فلسفة دريدا، مطبقاً على الفيلسوف الراحل منهجاً تفكيكياً. يبدأ الكتاب، الصادر حديثاً في اللغة الفرنسية، بشرح المنهج التفكيكي، الذي عمل على تقويض الثنائيات المتقابلة في الفكر الغربي، مثل: الزيف والحقيقة، المعنى واللامعنى، العقل والجنون... مؤكداً أنّ التضاد الخالص لا وجود له، وأنّ كل موضوع يحمل داخله الموضوع الذي يقابله. رفض دريدا في الثنائيات المتقابلة فكرة"المركز"التي تمدّ القائلين بها بضمان للوجود. انطلق في قوله من نتائج علم النفس التحليلي عند فرويد، التي قوّضت يقين"المركز"الميتافيزيقي، كاشفة عن انقسام في الذات الإنسانية بين الشعور واللاشعور، أي عن عنصرين لا يمكن إبطال أحدهما من دون إبطال الآخر. تشكّل أفكار فرويد، كما يرى سلوتر دايك، مدخلاً أساسياً، بين مداخل أخرى، لقراءة فلسفة دريدا. والمقصود بذلك كتاب فرويد الشهير"موسى والتوحيد"، آخر كتب عالم النفس المنشور بين 1937 و 1939 . فوفقاً لما جاء في القسم الأول منه، وعنوانه"موسى المصري"، فإنّ موسى، نبي اليهود، لم يكن يهودياً، فهو مصري الثقافة والجنسية، بل انّ هذا المصري كان نصيراً حاسماً لمذهب"آتون"التوحيدي، الذي آمن به الفرعون أخناتون، ولم يحظ عند المصريين بقبول كبير. وهذا ما حمل موسى على التضامن مع يهود مصر، الذين كانوا يرزحون تحت وطأة العبودية، وعلى قيادتهم إلى أرض جديدة، يستأنف فيها التجربة التوحيدية المصرية ويجدّدها. ينقض الأساسي في هذا القول، صحيحاً كان أو غير صحيح، فكرة النقاء اليهودي المفترض، ويضع في اليهودية نواة مصرية، لا سبيل إلى التحرّر منها. وعلى هذا فإنّ انتقال التوحيد المصري إلى أرض جديدة، يجعل من موسى مصرياً جديداً، فلا هو باليهودي الخالص ولا هو بالمصري القديم. يصبح التاريخ اليهودي، بهذا المعنى، تاريخاً مقسَّماً، لا مركز له، يحيل على ذاته وعلى غيره. وهذه الإحالة على خارج هي التي أملت على اليهود أن يطمسوا أصول دينهم، كي يبدو مركزاً نقياً يضمن لهم هوية مغايرة، وهي التي تملي على الفكر الفلسفي الشكوك أن يلاحق آثاراً تشير، بدورها، إلى آثار لاحقة. سؤال فرويد طرح فرويد السؤال الآتي: إذا كانت مصر حاضرة في الدين اليهودي، فما هو الشكل الذي تعيّن فيه هذا الحضور، بل كيف تعيّن، مجازياً، حضور الأهرام في التعاليم اليهودية؟ يأتي الجواب من معنى"الأرشيف"، حيث ما هو مادي ثقيل وشديد الثقل مثل الأهرام، يتحوّل إلى أوراق ووثائق أي إلى مادة ليّنة ومطواعة وخفيفة. وإذا كان في"الأرشيف"ما يعطف أثراً على آخر، وكلمة"أثر"من مفردات دريدا الأثيرة، فإنّ في مجاز الأهرام ما يستدعي التأويل، لا بسبب اللغة الهيروغليفية التي تفتح الباب على علماء"المصريات"بل بسبب معنى الأهرام المتواتر في جميع الأزمنة. يقارن سلوتر دايك، في هذا المجال، بين منهج دريدا وكتاب ريجيس دوبريه الذي يحمل عنوان"الحرب تطواف ورحلة، مواد من أجل تاريخ الأبدي في الغرب". ذلك أنّ دوبريه، في كتابه الصادر عام 2001، درس رحلة"الآلهة"من أشكالها الحجرية الثقيلة الأصنام إلى زمن الأرشيف الورقي الذي يتيح للمؤمنين أن يحملوا معهم آلهتهم أينما ذهبوا بيسر كبير. ولعلّ فكرة تأويل التاريخ، كما جاء بها فرويد، هي التي دعت دريدا إلى التوقّف أمام ما كتبه هيغل عن"السيميولوجيا"، أو علم الإشارات، معتبراً أنّ فضاء الإشارات يبدأ من"عائلة الأهرام التي ترقد فيها روح غريبة، لم يصبها البَدَد". ومع أنّ في جملة هيغل ما يرى إلى"هيروغليفية"، ينبغي حلّ رموزها، فإنّ فيها ما يقيم مواجهة بين الأهرام و"الفكرة المطلقة"، التي لا تتحقق إلاّ إذا وضعت كل شيء داخلها، مترجمة"الحجر الثقيل"بلغة مفهومية مكتفية بذاتها، ترى إلى الخارج وتعرفه وتتجاوزه في آن. وبسبب ذلك يرى هيغل أنّ المصريين، كما أقرانهم الصينيين، كانوا أسرى"الخارج والأجسام الثقيلة"، وهو ما أنتج لهم لغة محتشدة بالصعوبات، لا تسمح للفكر أن يحلّق فوق ما شاء من المسافات والأزمنة ويعود، في النهاية، إلى مملكة خاصة به. عطف دريدا هيغل على فرويد، فأخذ منه شيئاً ولم يأخذ شيئاً آخر: أخذ منه فكرة الإشارات القديمة، ولم يأخذ ب"الفكرة المطلقة"، التي هي مركز مكتفٍ بذاته، موائماً بين"الحجر الثقيل"وتأويلاته المحتملة، ذلك أنّ محو إحدى العلاقتين يستعيد، لزوماً، فكرة"المركز"، التي يرفضها رفضاً كاملاً. لا مكان عند دريدا ليقين الفكرة المطلقة الهيغيلي، فالمكان كلّه لشك دؤوب، يقتفي آثار المعرفة من طريق إلى آخر، وهو ما عبّر عنه في كتابه"هوامش الفلسفة"، حين كتب:"طريق، نتبعه، يقود من طريق هذه البئر الليلية، الصامتة كالموت والضّاجة بما يحتشد فيها من أصوات، إلى الهرم المنفتح على الصحراء المصرية، الذي سينهض صاحياً مجرّداً، بعد حين، فوق نسيج النص الهيغلي". عاد هيغل إلى مصر مدفوعاً بمسار الفكرة المطلقة، التي تبدأ، كما أعتقد، من شرق مستبد فقير، وتنتهي متحققة في غرب عقلاني. وعاد إليها فرويد باحثاً عن نبي غير يهودي قاد اليهود إلى"أرض الميعاد"، وعاد إليها دريدا مأخوذاً بغموض الآثار، وبفتنة الهرم، الذي يشبه بئراً لا قرار لها. كان الروائي الألماني توماس مان، الذي يدرجه سلوتر دايك في كتابه، قد عاد إلى مصر في روايته الكبيرة"يوسف وأخوته"، التي كتبت بين 1923 و 1943، محتجاً على الأسطورة النازية، مدافعاً عن ثقافة إنسانية طليقة، تصوغها الثقافات جميعاً. اعتمد الروائي على كتاب"العهد القديم"متأملاً، بسخرية، معنى الخروج المرهق والعودة السعيدة، وهو يتأمّل عودة"يوسف بن يعقوب"إلى مصر، التي خرج منها عبداً وعاد إليها ضيفاً على بيوت الأسياد. في قدر يوسف ما يشبه، من بعيد، قدر دريدا، الذي جاء هامشياً من الجزائر، كي يصبح معلّماً في فرنسا وعَلَماً ثقافياً في العالم. ينطوي التشبيه على بعدين أساسيين على الأقل: اهتمام دريدا بمصر، مقتفياً آثار فرويد والنبي موسى، واعتباره مصر نموذجاً حضارياً، يوجد غيره فيه ويوجد في غيره في آن. ربما تكون العلاقة بين التفكيكية والآثار اليهودية في مصر، هي التي حملت الفيلسوف الألماني الشهير يورغن هابرماس على أن يرى في منهج دريدا"شكلاً من الروحانيات اليهودية"، التي تطارد حقيقة غامضة، تنوس بين هرم قديم وبئر لا قرار له. طبّق سلوتر دايك على دريدا منهجه، وشرح وهو يفكّكه فلسفات القرن العشرين الشهيرة، التي أنتجت دريدا، وأعلن الأخير عن نهايتها بأدوات فلسفية.