العطور الباريسية النفاذة التي تعبق في أجواء الصالة، تجعل الطلاب يختتمون تجربتهم المدرسية بأناقة. فنظام"الامتحان المريح"الذي أقرته بعض المدراس في الامارات هذا العام، يجعل من طلاب الثانوية العامة أكثر"استرخاء"وهم ينكبون على أوراق محشوة بعلامات استفهام تحتاج الى إجابات، سيغير مستواها مصيرهم للسنوات المقبلة. القصة ذاتها، على رغم تعطيرها. شباب يعبرون الى مقاعد الطلبة في الجامعة. يقضون شهوراً في الردهات التي تتسع لكثير من الاكتشاف والصدمات والانبهار والخوف، لكي يتبيّن لهم بعد مضي عام كامل، أنهم اخطأوا الاختيار، وأنّ نوافذ تلك الردهات ليست الأنسب للاطلالة على شمس المستقبل. الدراسات الرسمية في الامارات تتحدث عن 40 في المئة من طلاب السنة الجامعية الاولى، لا يبقون في الاختصاص ذاته، بل يغيرونه بعد شهور قليلة من تعلقهم الأول به."طوق الياسمين"الذي ودعتهم المدرسة بربطه في أعناقهم،"امانة عطرية"واثقة، لا يظل مكانه. الطلاب، في عبورهم الجسر، يبدون، فعلاً، وحدهم، وپ"خفافاً"الا من ثقل توجيهات الأهل وعاطفة الانجرار الى ما يختاره الأصدقاء. "الشلة اختارت أن أدرس الملتيميديا لكي أبقى قريبة من صديقاتي. فوافقت". تقول مها التي درست في جامعة الشارقة، في كلية خاصة بالفتيات. ويبدو أن مكاتب تأهيلية كالارشاد المهني، او معارض استباقية تنظم للتلامذة في اختتام الأعوام المدرسية، ليست كافية لردع آلاف الطلاب من النفاذ الى ثغرة المجهول. وعلى رغم معايير الانضباط الحادة التي تنسج بيئة الامارات، ودبي تحديداً، على المستويات كلها، وبخاصة في مجالات النمو الاقتصادي، فإن قطاع التربية والتعليم لم يحقق بعد ذلك القدر من التماسك. تقول روضة هلالي وهي اختصاصية تربوية، إنّ" كل البيئات التي شهدت تطوراً اقتصادياً متسارعاً، اخفقت، بطريقة أو بأخرى، في الحفاظ على معدلات نمو متشابهة في قطاعات حيوية مثل التعليم والطبابة"، وتلفت الى أن"قوانين السوق المفتوحة تجعل الفرصة سانحة لكل من اراد أن يدلو بدلوه، ويتاجر، في قطاع حساس مثل التعليم. فتجد جامعات الدكاكين انتشرت في شكل لافت، وهي تتبع منهجاً تسويقياً تعوزه، في بعض المرات، الاخلاقية في بث الرسائل الى الطلاب وجذبهم الى مقاعدها، وجذب جيوبهم أيضاً". وتمارس كثير من الجامعات والمعاهد عملها من دون أن يعني ذلك حصول الطالب على شهادة"معترف بها من الجهات الرسمية". وهو ما حصل مع بشار الذي درس في جامعة منهجها اوروبي في دبي، تبين بعد ذلك أن شهادتها لا يمكن المصادقة عليها. بشّار، لبناني الأصل، اختار أن يدرس في دبي،"ظناً مني أنني سأكون قريباً من سوق العمل، فلا أحتاج الى ارسال السيرة الذاتية في ما بعد من بيروت، وأنتظر جهد الأصدقاء وردودهم". وتفتح الجامعات الخاصة في الدولة أبوابها أمام الوافدين من الشباب، بعكس الجامعات الحكومية التي تبقى حكراً على المواطنين. تأتي مشاعل من الكويت، تتجول في الحرم الجامعي المخصص للفتيات. تبدو سعيدة بالاستقلالية التي ستتمتع بها طوال سنة، وحذرة، في الوقت ذاته من تجربة العيش في بيئة جديدة:"خليجية أيضاً، لكن مختلفة". تبرق عيناها، فيما تقول إن سمعة الجامعة التي اختارت الدراسة فيها،" ذائعة الصيت، كما أن العيش في الامارات بات تجربة مغرية، حتى للشباب الخليجي". لكنّ شباب"سنة أولى جامعة"لا يخوضون حماستهم في شكل مطلق، داخل أسوار الكثير من الجامعات. تتحدث سهاد عن فزعها من الحكايات التي"أخبرتني عنها قريباتي اللواتي درسن في احدى جامعات الشارقة". لأسباب تتعلق بتكاليف الدراسة، اضطرت سهاد للدخول الى تلك الجامعة. لكنّ الحكايات ماثلة في ذهنها بقوة: بعد تغير إدارة الجامعة صارت المحاذير على الفتيات، وتحديداً اولئك اللواتي يقمن في الحرم الجامعي، قاسية في درجة كبيرة. غير مسموح للفتاة أن تتواجد في السيارة مع زميلتها، الا بإذن من الادارة، وبعد اتصال مع الأهل يتأكد من رغبتهم بأن"تتواجد ابنتكم مع الفتاة الفلانية". وصل الحد الى أنّ فتيات اختبأن في الصندوق الخلفي لسيارة زميلتهن. ألغيت رحلات"السفاري"في الصحراء، واستعيض عنها برحلات الى"معرض جايتيكس"للكومبيوتر في دبي. كما أن قصص العلاقات المحظورة وپ"العشاق السريين"تفيض عن أسوار الجامعة، ولا تتم معالجتها الا بمزيد من القمع الذي يزيد من حفر الدهاليز السرية. لوركا وحنانيا الدهاليز السرية قد لا تعبق بكل تلك العتمة في جامعات أخرى. في دبي، تسمح"الجامعة الاميركية" لطلابها بأن يخوضوا في عالم السياسة. ومنذ سنتهم الأولى، ينشط الطلاب في اطار جمعيات تحمل كل واحدة منها طابعاً عرقياً او جنسياً أو دينياً أو فكرياً. تقول هناء إنها تتمتع، في سنتها الاولى، بمقدرة عارمة على الانفتاح على الآخر، من خلال نشاطات مشتركة تمارسها في الجامعة مثل المسرحيات والمحاضرات والندوات:"غنت فيروز على مسرح الجامعة، واتى راي حنانيا من اميركا وأطلق نكاته، من على المسرح ذاته، في وجه الحكام العرب، كما سخر من بعض مظاهر الحياة في دبي نفسها. قدمنا ايضاً بستان الدم للشاعر الاسباني لوركا". "لا أهتم بكل ذلك، اريد فقط أن تتاح لي فرصة التحصيل العلمي الجامعي لقاء أقساط مقدور عليها"، يقول شريف، الفتى المصري الذي عاش في دبي، مع عائلته، وتعلم في مدارس خاصة ذات تكلفة متهاودة، الا أن عبوره الى عالم الجامعة كان"كارثياً"، كما يصف:"الجامعات الحكومية لا تقبلنا، والأميركية لا قدرة لنا على أقساطها كما الجامعات الأخرى، لذلك اضطرت أسرتي بكاملها الى الانتقال معي الى القاهرة". انها نهاية غربة ربما، بالنسبة الى أسرة شريف، لكنها بداية غربة أخرى بالنسبة اليه:"ولدت في الامارات وتعملت في مدارسها، والآن، عليّ العودة الى مصر. سيكون من الصعب بالنسبة اليّ اعادة التكيّف".