لا يخطر في بال الرئيس البرازيلي اليساري لولا دي سيلفا أن يعدل الدستور ليسمح ببقائه في السلطة بلا حدود، بخلاف الرئيس الفنزويلي اليساري أيضا هوغو شافيز الذي كُشف النقاب قبل أيام عن أنه يعد لتعديل دستور بلاده بما يتيح إعادة انتخاب رئيس الدولة من دون حد أقصى. كما لا يمكن للرئيس البرازيلي، الذي تنتظره انتخابات ساخنة الأحد المقبل، أن يصر على البقاء رئيسا إذا خسر حتى إذا كانت خسارته بفرق طفيف للغاية، بخلاف المرشح اليساري لوبيز أوبرادو الذي هُزم في الانتخابات الأخيرة في المكسيك، فرفض الاعتراف بالنتائج ونصب نفسه قبل أيام رئيسا ليحدث انقساما قد يقود البلاد إلى كارثة. فما أبعد المسافة بين دي سيلفا الذي يستعد لخوض الانتخابات الرئاسية الأحد المقبل من ناحية، وشافيز الذي يخوض انتخابات مماثلة في 3 كانون الأول ديسمبر المقبل، وأوبرادو الذي خسر انتخابات رئاسية بفرق طفيف للغاية من ناحية أخرى، بالرغم من أن ثلاثتهم محسوبون على اليسار. ولكن الفضاء اليساري واسع، ويزداد اتساعا على نحو يجمع تحت لافتته الكثير من الفرقاء. وتمثل أميركا اللاتينية أهم مختبر في عالم اليوم لليسار بمختلف أطيافه التي يبرز بينها تيار اليسار الديموقراطي العريض وتيار اليسار القومي الشعبوي الأعلى صوتا والأقل حضورا. التيار الأول الديموقراطي وصل إلى السلطة في بلاد أهمها البرازيل والأرجنتين والأوروغواي وتشيلي وبيرو. والتيار الثاني الشعبوي يحتل السلطة في اكوادور وفنزويلا وبوليفيا. وكان مرشحه في المكسيك قاب قوسين من السلطة قبل أن يخسر بفارق بسيط وتعتمد المحكمة العليا فوز منافسه المحافظ فيليب كالديرون. بعض من الفرق الكبير بين التيارين نلمحه في حملة البرازيلي دي سيلفا الانتخابية التي أظهرت تقدمه على منافسه اليميني، بالرغم من أن السنوات الأربع التي أمضاها في السلطة لم تكن كافية لتحقيق وعده الكبير بوضع حد للفقر. غير أن القدر الذي حققه يوفر له قاعدة انتخابية تكفي غالبا لفوزه بفترة الرئاسة الثانية، التي لا يفكر في السعي إلى ما بعدها، على عكس الرئيس الفنزويلي شافيز. ولكن احترام الدستور والإيمان بالديموقراطية ليس هو الفارق الوحيد بين دي سيلفا وشافيز. فثمة فروق كبيرة أخرى لا يبدو أن الكثير من اليساريين العرب ينتبهون إليها، الأمر الذي يؤدي بهم إلى وضع يسار أميركا اللاتينية كله في سلة واحدة يستحيل أن تتحمل الخلافات الواسعة بين فرقائه، خصوصا الديموقراطيين والقوميين الشعبويين كما يتجسدان في دي سيلفا وشافيز. فاليسار العربي، الذي ينتمي معظمه إلى فريق ثالث لا وزن كبيرا له في أميركا اللاتينية والعالم اليوم وهو اليسار التقليدي، متفائل بما يحدث في هذه القارة. وفيها بالفعل ما يبعث على التفاؤل بعالم أفضل. لكن هذا التفاؤل مبعثه صعود اليسار الديموقراطي، وليس اليسار الشعبوي الذي يثير إلهام اليسار العربي أكثر، بالرغم من أن بروزه على الساحة يعود إلى عوامل عرقية أكثر مما يرتبط بصراعات ذات طابع طبقي. ولا يقلل من أهمية هذا الفرق أن الهنود الأصليين الذين رفعوا الرئيس ايفو موراليس مثلا إلى السلطة في بوليفيا فقراء. فهم وقفوا معه باعتباره معبرا عن طموح الهنود السمر القومي قبل كل شيء، بينما وقف ضده فقراء بيض في المناطق الشرقية التي كان المناضل العظيم تشي غيفارا حاول أن يشعل الثورة الفلاحية انطلاقا منها واعتمادا عليها، وليس على نظرائهم ذوي الأصل الهندي لأن الانتماء العرقي غالب لديهم على الوعي الطبقي. ولذلك يعطي الحكم اليساري - القومي في بوليفيا الأولوية لإنهاء التمييز العرقي بخلاف ما يعمل من أجله اليسار الديموقراطي في البرازيل ودول أخرى من القارة، والذي يمثل امتدادا لتجربة سلفادور الليندي في تشيلي والتي قضى عليها في مهدها عام 1973. ولكن بالرغم من أن اليسار الديموقراطي يضع محاربة الفقر في المرتبة الأولى، فهو لا يثير ضجيجا في هذا المجال - ولا في غيره - بخلاف اليسار القومي في بوليفيا وفنزويلا. فقد ركزت حملة دي سيلفا الانتخابية مثلا على توفير فرص التعليم والعمل للفقراء في المناطق الأكثر فقرا التي توطنت فيها الجريمة على مدى عقود. ومن هذه المناطق ما نال شهرة عالمية عندما بدأت ثورة الاتصالات تكشف ما كان مخبوءا قبلها في أنحاء الدنيا. لم يجد الرئيس المرشح لفترة ثانية حرجا في أن تنتقل الكاميرات معه إلى منطقة"سيتي أوف جاد"التي تعتبر من أكثر مناطق العالم فقرا. كان في إمكانه أن يتجنب زيارتها. ولو أن شافيز مثلا في مكانه، لما زار منطقة يجلب تصويرها له أشد الحرج. لكن دي سيلفا الصادق مع نفسه، وشعبه، ذهب. وكان في ذهابه اعتراف بأن هذه المنطقة ومثيلاتها لم تحظ بنصيب معقول من إصلاحاته في فترة الرئاسة الأولى، لأنه يفضل أن يحدث تغييرا يؤدي إلى انتشال الفقراء من فقرهم بشكل نهائي على أن تقدم حكومته لهم بعض المساعدات الموقتة التي لا تقيهم شر العوز. لذلك فهو لم يبدأ عهده بإجراءات جذرية تثير الضجيج، بخلاف موراليس الذي بدأ عهده بتأميم قطاع الغاز الطبيعي. فاليسار الديموقراطي لا يؤمن بالتأميم إلا لضرورة قصوى. ويرى الاتجاه الغالب في هذا التيار أن التأميم يحرم البلاد من استثمارات لا يمكن رفع مستوى حياة الفقراء من دونها، ويصعب تعويضها. لكنه لا يلجأ إلى خصخصة الشركات والمشروعات العامة إلا للضرورة القصوى أيضا. كما يضع ضوابط للاستثمار الأجنبي توازي ما يقدمه له من حوافز ومغريات لاقتناص نصيب منه في ظل منافسة ضارية في السوق العالمية. غير أن الفارق بين اليسار الديموقراطي واليسار الشعبوي لا يقف عند هذا الحد. فكل من التيارين يعتمد سياسة تعبوية، ولكن شتان بينهما. الحكومات اليسارية الديموقراطية تعنى، قبل كل شيء، بتعبئة قدرات وطاقات شعوبها الكامنة، وبالتالي رفع مستوى التعليم وخلق نخبة متميزة علميا ومعرفيا وتشجيع المبادرات الخاصة وجذب الاستثمارات الأجنبية. أما الحكومات الشعبوية فتسعى في المقام الأول، إلى تعبئة شعوبها، أو القطاعات المؤيدة لها في هذه الشعوب، ضد قوى الإمبريالية والعولمة وشحنها بالسخط والغضب على هذه القوى. كما ينعكس الفارق في السياسات على نوع الخطاب السياسي هنا وهناك، فالحكومات الاشتراكية الديموقراطية تؤكد في خطابها البناء الداخلي، بينما يركز خطاب الحكومات الشعبوية على المواجهة ضد القوى الخارجية المعادية. لذلك يتسم خطاب الأولى بالعقلانية حتى عندما يتطرق إلى رفض سياسات أميركية أو أوروبية، إذ يعنى بالوقائع والأرقام ويعتمد على الحجة والمنطق. أما خطاب الثانية فتغلب عليه الشعارات، ويبدو أقرب إلى الخطب العصماء أو الهتافات الصارخة. ولأن الفعل أبلغ من الكلام، نجد أن سياسات برازيل دي سيلفا تسبب للولايات المتحدة إزعاجا يفوق بكثير ما يترتب على خطب موراليس وشافيز. كان دي سيلفا، وقرينه الأرجنتيني نيستور كيرشنر، هما اللذان أحبطا خطة إدارة بوش لإقامة سوق أميركية مشتركة بشروط تحقق مصالح الولاياتالمتحدة في المقام الأول. كما أن نضالهما، ومعهما رئيس أوروغواي تاباري فاسكيز والرئيسة التشيلية الجديدة ميشال باشليه، كان له أثره في مفاوضات التجارة العالمية لمصلحة الدول النامية. هذا التيار - وليس غيره - هو الذي يمكن أن يعيد لليسار مجده الذي فقده، وللعالم توازنه الذي خسره. فالمستقبل هو لليسار الديموقراطي. وهذا هو درس أميركا اللاتينية لليسار العربي الذي يبدو قطاع واسع منه مبهورا بشافيز أكثر من دي سيلفا، أي بدولة الخطاب الثوري الزاعق وليس بدولة البناء الاشتراكي الهادئ.