تتطور أسئلة النهضة العربية بتطور أزمتها، ولا تكاد الأسئلة التقليدية، حول إشكاليات النهضة وكيفية معالجتها، تنفد، حتى تصطدم الفكرة ذاتها بأسئلة جديدة أكثر إيلاماً وأشد تنكيلاً، خصوصاً في ظل حال التردي الشاملة التي تعيشها الأمة العربية، ناهيك عن الفجوة الهائلة مع الغرب. ومن بين الإشكاليات النهضوية، التي سيطرت علي مخيّلة الكثيرين من رواد الفكر"النهضوي"العربي منذ بداياته أواخر القرن التاسع عشر، احتلت مسألة الدين، وعلاقته المركزية بالنهضة، جانباً كبيراً من اهتمامات هؤلاء، بدءاً من جمال الدين الأفغاني، مروراً بالإمام محمد عبده، وانتهاء بمن لحقهم من تيارات الإحياء الديني، وصولاً إلى جماعة الإخوان المسلمين، التي سعت لوراثة المشروع الإصلاحي لأباء النهضة الأوائل. وقد تمثل السؤال المركزي في أطروحات مفكري النهضة الأوائل، خصوصاً الأفغاني ومحمد عبده، في كيفية تحقيق النهضة من خلال الدين؟ يحوطه سؤال آخر أكثر مركزية، بلوره شكيب أرسلان، في كتابه الشهير: لماذا تأخر المسلمون، ولماذا تقدم غيرهم؟ وجاءت معظم الإجابات كي تجعل من الدين طوق نجاة، تكمن في أطرافه سبل التخلص من حال التحلل الثقافي والسياسي والاجتماعي التي ألمت بالأمة آنذاك. لذلك لم يتركز"الاجتهاد"الفكري، حول مسألة النهضة، كفكرة قائمة بذاتها، بما تعنيه من تحرير للفكر والعقل من قيود الاستبداد الديني والزمني، بقدر ما تركز حول دور الدين في إحداث مثل هذه النهضة، وهو ما كان بمثابة الانتقال من البحث في جوهر النهضة، بأبعادها الحضارية - المدنية، إلى البحث عن أدوات لتجديد الفكر الديني، بوصفه السبيل الوحيد لتحقيق هذه النهضة. أي نقل"مركز"الأزمة"النهضوية"من بحث في أصول النهضة وكيفية إنجازها، إلي بحث حول كيفية التخلص من مظاهر الخلل الديني، من بدع وضلالات، طغت واستشرت آنذاك. ومنذئذ، وقعت المسألة النهضوية أسيرة للدين، لا تكتسب قيمتها إلا بمقدار ما يمكن للدين أن يتجدد ويتطور، ولا تصبح لها ضرورة إلا بمقدار ما يمكن أن تقدمه للمجتمع من"تنوير"ديني، مصفَّى، لا لغط فيه. بكلمات أخرى، تركزت مهمة الرواد النهضويين، حول البحث في كيفية إحداث"نهضة دينية"أو"نهضة من أجل الدين"، بوصفه القاطرة نحو النهضة الشاملة. وبفعل ذلك تحولت النهضة كي تصبح أداة في خدمة مشاريع الإحياء الديني، بدلاً من العكس، وهو أن يكون الدين دافعاً باتجاه العمل النهضوي والتحرر من قيود التخلف المدني والحضاري، التي رسختها قرون التيه والانغلاق تحت الحكم العثماني. وقد تمثلت المعضلة الحقيقية آنذاك، في كيفية المزاوجة بين واقع"ديني"متخلف، تهيمن عليه الخرافات والفكر القدَري، وبين نهضة مبتغاة، لا تتحقق إلا عن طريق تغيير هذا الواقع. وقد عبرت هذه المعضلة عن نفسها لاحقاً، في مساحات الاختلاف الشاسعة بين المدارس الفكرية، التي انتشرت وتشظت في الساحة الفكرية العربية، بعد رحيل الإمام محمد عبده عام 1906، وتباينها الشديد ما بين قومية وليبرالية وماركسية وإسلامية سلفية وإحيائية. ولم يفترض أحد من الرواد إمكان حدوث الفصل بين الأمرين"النهضة والدين"، وكأنهما صنوان، لا يستقيم أحدهما من دون الآخر، ولا إمكان لتحقق أحدهما من دون الآخر، لذا انحسر معظم الاجتهادات النهضوية حول كيفية تجديد الفهم أو الخطاب أو الفكر الديني، وإعادة الروح لمسائل الفقه والتفسير وأحكام العبادات. وما لبث التيار الإحيائي الذي شب على أفكار محمد عبده، خصوصاً التيارات الدينية في شبه الجزيرة العربية ومصر، أن حصر نفسه في مجرد الإلمام بالجوانب"الظاهرية"لمسألة النهضة، بوصفها السبيل الأنجع لمواجهة الاحتلال الأجنبي، وليس باعتبارها سبيلاً لإقامة نهضة مدنية شاملة. ولسوء حظ مشاريع النهضة العربية التي سادت نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، أنها فُسرت على كونها مشاريع نهضوية"دينية"وليست"مدنية"، ما دفع بالكثير من الحركات الفكرية اللاحقة، التي استهدفت النهضة، وخصوصاً الدينية منها، إلى"استلهام"نموذج"طوباوي"للدين تسعى في اتجاه تحقيقه، بعيداً عن استحقاقاته المدنية والإنسانية المفترضة في أي مشروع نهضوي حقيقي. وكان ظهور مثل هذه الحركات الدينية، ومنها جماعة الإخوان المسلمين، وما لحقها من جماعات جهادية، بصنوفها المختلفة، بمثابة الانتقال نحو اختزال جديد لمفهوم النهضة، يقوم أساساً على ضرورة العودة إلي نظام سياسي بعينه، هو"الخلافة الإسلامية"بوصفه النموذج الأمثل للحكم، بل والسبيل الوحيد لنهضة الأمة من كبوتها، وذلك من دون الإيغال في معرفة الأبعاد الحقيقية للأزمة التي تعيشها المجتمعات الإسلامية. وترتيباً على ما سبق، فقد شُغلت التيارات السلفية والإحيائية بمدى التزام المجتمعات الإسلامية، بالتعاليم والواجبات الدينية من فرائض وعبادات، بوصفها إكسير النهضة الوحيد، وأن التمسك بها كفيل بنهوض الأمة من كبوتها، من دون الانشغال بأهمية الاجتهاد في المجالات الدنيوية، كالعلوم الطبيعية والفلسفة والسياسة والثقافة. ولم يقو التيار الليبرالي الذي دشنته كتابات طه حسين وأحمد لطفي السيد، على مجابهة الأطروحات الدينية لمسألة النهضة، خصوصاً في ظل حال"التحفظ"المجتمعي على آرائهما وكتاباتهما في ما يخص قيم الليبرالية والمدنية والثقافة. وكثيراً ما جوبهت أراؤهم باستهجان المؤسسة الدينية الرسمية الأزهر الشريف، ناهيك عن الحيوية المجتمعية والسياسية التي ميزت جماعة الإخوان المسلمين في بداياتها. ومع ثبوت أهمية العامل الديني في معالجة إشكالية النهضة، إلا أن المعضلة الحقيقية استقرت، ولا تزال، في اعتقاد البعض، بأنه الطريق الوحيد لذلك، بما يعني حتمية العودة لاستلهام قواعد الدين، من مصادرها الأولية، عبر الغوص في سنن الأولين وسِيَرهم، من دون القدرة على تقديم اجتهادات حقيقية للعديد من المسائل، التي لم يكن لها وجود في اهتمامات السلف. ولعل الفارق الأساسي بين المشروع النهضوي لكل من رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي، وغيرهما من مشاريع النهضة اللاحقة خصوصاً لدى الأفغاني ومحمد عبده، أن الأولَين الطهطاوي والتونسي نظرا للنهضة من منظور أكثر شمولاً واتساعاً، لم يتوقف بها عند حدود المسألة الدينية فحسب، وإنما تخطاها لينشغل بجوانبها المدنية والحضارية والعلمية والثقافية. الآن يُعاد طرح إشكالية العلاقة بين النهضة والدين، التي هيمنت على العقل"النهضوي"العربي في بواكيره الأولى من جديد، ولكن من منظور أكثر خطورة وإلحاحاً. حيث كشفت مخرجات الواقع العربي الراهن، حجم التمدد الديني في المجتمعات العربية، فكراً وسلوكاً وتنظيماً، وذلك على نحو ما دلت عليه تجارب التحول الديموقراطي، التي شهدتها بعض الدول العربية مؤخراً. وتعبر اللحظة الآنية في الوعي العربي، على أننا مقبلون على محاولة لإعادة فرز تلك الجدلية التقليدية حول النهضة والدين. خصوصاً في ظل الهيمنة"السيكولوجية"لثقافة"التدين"، ونجاحها في تأطير نفسها داخل منظومة القيم الفردية والمجتمعية، واحتلالها مساحات واسعة في الفضاء الفكري والسياسي العربي. بما يشبه"الردة"الفكرية على قيم المدنية والحداثة، التي سعت الأيديولوجيات المختلفة التي تعاقبت على المنطقة، إلى غرسها في التربة العربية طيلة القرن الماضي. وعليه، فقد بات السؤال الملح، الذي يجب أن تنشغل به النخب الفكرية العربية، هو: هل يمكن للنهضة أن تتم على أساس غير ديني؟ وهل ثمة سبيل لتقديم مشروع إحياء"مدني"للعالم العربي؟ قد يبدو السؤال، للوهلة الأولى، صادماً للكثيرين، خصوصاً أولئك الذين ينتمون للتيارات الدينية، التي باتت على يقين بأن طريق النهضة، لا بد من أن يتم عبر بوابتها الوحيدة"التدين"، من دون القدرة على التفكير في طرح بدائل أخرى. وهو ما يضفي قدراً من الأهمية على ضرورة طرح هذا السؤال في هذا التوقيت بالذات، وذلك بوصفه السبيل الحقيقي لإنجاز مشروع"جاد"للنهضة العربية المأمولة. بالطبع، ليس ضرورياً أن يتأسس مثل هذا المشروع"الإحيائي"المدني، على منظومة القيم الغربية، وذلك على أهميتها، بل الأجدى أن ينطلق من قدرة العقل العربي على إدراك حجم مأساته الراهنة، من دون تهويل أو تهوين. وإذا كانت مشاريع الإحياء الديني قد أقامت بنيانها على قاعدة"استلهام"نموذجٍ للنهضة تمتد جذوره للحقبة الإسلامية الأولى، أو عهد الخلافة الراشدة، فلا ضير، والحال كهذه، أن نستلهم مشاريع الإحياء"المدني"التي أسستها الخبرة العربية والإسلامية، سواء ما فعلته دولة الخلافة اللاحقة سواء الأموية أو العباسية، التي شهدت أعلى درجات المدنية والعقلانية، ونقل عنها الكثير للغرب المتأزم آنذاك، أو على غرار ما فعله الطهطاوي والتونسي من قبل في مشروعهما النهضوي، مع تجاوز ما وقعا فيه من قصور، ساهم في إحداث قطيعة"معرفية"مع من لحق بهما. ولا تضير الإشارة هنا، إلي ثمة مبادئ عامة يمكن الاهتداء بها في سبيل وضع مثل هذا المشروع الإحيائي، لعل أولها، أن يتم التخلص من ثقافة"الاستلهام"، التي هيمنت على العقل العربي لفترات طويلة، سواء كان مصدرها داخلياً أم خارجياً، واستبدالها بثقافة"الإبداع"الذاتي، التي تتأسس على إدراك الوعي الذاتي العربي، بمأزقه الراهن، وإيمانه، بالقدرة على التخلص من ملامح التفكير الأبوي، بشقيه الديني والسلطوي. ثانياً، أن يتم إحلال منظومة الأفكار التقليدية، حول التقدم والنهوض، والتي يعتبر الدين الرافد الأساسي لها، بأخرى أكثر مدنية وحداثة، وذلك من دون خدش للقيم الأصيلة في الثقافة العربية. ثالثاً، أن تسعى النخب"المدنية"في العالم العربي، إلي خلق تيار"سياسي"عربي يستلهم قيم الحداثة والمدنية، ويؤمن بها، ويعمل من أجل ترجمتها إلى واقع فعلي، يشعر فيه المواطن العربي بعالمية هذه القيم وضرورتها الحتمية من أجل البقاء وعدم الاندثار. * كاتب مصري