تمثل السؤال المركزي في أطروحات مفكري النهضة الاوائل، خصوصاً الافغاني ومحمد عبده، في كيفية تحقيق النهضة من خلال الدين؟ يحوطه سؤال آخر اكثر مركزية، بلوره شكيب ارسلان، في كتابه الشهير: لماذا تأخر المسلمون، ولماذا تقدم غيرهم؟ وجاءت معظم الإجابات كي تجعل من الدين طوق نجاة، تكمن في أطرافه سبل التخلص من حال التحلل الثقافي والسياسي والاجتماعي التي ألمت بالأمة آنذاك. لذلك لم يتركز"الاجتهاد"الفكري، حول مسألة النهضة، كفكرة قائمة بذاتها، بما تعنيه من تحرير للفكر والعقل من قيود الاستبداد الديني والزمني، بقدر ما تركز حول دور الدين في إحداث مثل هذه النهضة، وهو ما كان بمثابة الانتقال من البحث في جوهر النهضة، بأبعادها الحضارية - المدنية، الى البحث عن أدوات لتجديد الفكر الديني، بصفته السبيل الوحيد لتحقيق هذه النهضة. أي نقل"مركز"الازمة"النهضوية"من بحث في اصول النهضة وكيفية انجازها، الى بحث حول كيفية التخلص من مظاهر الخلل الديني، من بدع وضلالات طغت واستشرت آنذاك. بكلمات أخرى، تركزت مهمة الرواد النهضويين، حول البحث في كيفية إحداث"نهضة دينية"أو"نهضة من أجل الدين"، بصفته القاطرة نحو النهضة الشاملة. وبفعل ذلك تحولت النهضة كي تصبح أداة في خدمة مشاريع الإحياء الديني، بدلاً من العكس، وهو ان يكون الدين دافعاً باتجاه العمل النهضوي والتحرر من قيود التخلف المدني والحضاري، التي رسختها قرون التيه والانغلاق تحت الحكم العثماني. ولم يفترض أحد من الرواد إمكان حدوث الفصل بين الأمرين"النهضة والدين"، وكأنهما صنوان، لا يستقيم أحدهما من دون الآخر، ولا امكان لتحقق احدهما من دون الآخر، لذا فقد انحسرت معظم الاجتهادات النهضوية حول كيفية تجديد الفهم أو الخطاب أو الفكر الديني، وإعادة الروح لمسائل الفقه والتفسير وأحكام العبادات. وما لبث التيار الإحيائي الذي شب على أفكار محمد عبده، خصوصاً التيارات الدينية في شبه الجزيرة العربية ومصر، ان حصر نفسه في مجرد الإلمام بالجوانب"الشكلية"لمسألة النهضة، بصفتها السبيل الأنجع لمواجهة الاحتلال الاجنبي، وليس باعتبارها سبيلاً لإقامة نهضة مدنية شاملة. ولم يقو التيار الليبرالي الذي دشنته كتابات طه حسين وأحمد لطفي السيد، على مجابهة الاطروحات الدينية لمسألة النهضة، خصوصاً في ظل حال"التحفظ"المجتمعي على آرائهما وكتاباتهما في ما يخص قيم الليبرالية والمدنية والثقافة. وكثيراً ما جوبهت آرائهما باستهجان المؤسسة الدينية الرسمية الأزهر الشريف، ناهيك عن الحيوية المجتمعية والسياسية التي ميزت جماعة الاخوان المسلمين في بداياتها. ومع ثبوت اهمية العامل الديني في معالجة اشكالية النهضة، إلا أن المعضلة الحقيقية استقرت، ولا تزال، في ذلك التناقض الذي وقعت فيه مدارس النهضة بدءاً من الطهطاوي وانتهاء بمحمد عبده، وهو تناقض مارسه الجميع بدرجات متفاوتة، وارتبط بمدى قدرة كل منها على الاقتراب من صيغة"التوافق"مع الآخر المتقدم. أو كما يرى نصر حامد ابو زيد في كتابه"النص، السلطة، الحقيقية"ان"الفارق بين الطهطاوي وعبده فارق كمي لا كيفي، فالأخير خاض سجالاً ضد الاستشراق الذي يهاجم الإسلام ويحمّله مسؤولية كل مظاهر الانحطاط والتخلف، في حين حاول الأول تمرير قيم الحضارة الحديثة باسم الإسلام". الآن يُعاد طرح إشكالية العلاقة بين النهضة والدين مجدداً، كما كانت عليه الحال عند العقل"النهضوي"العربي في بواكيره الاولى، ولكن من منظور اكثر خطورة وإلحاحاً. حيث كشفت مخرجات الواقع العربي الراهن، بما فيها النتائج الانتخابية الاخيرة التي شهدت صعوداً لافتاً للإسلاميين، عن حجم التمدد الديني في المجتمعات العربية، فكراً وسلوكاً وتنظيماً، او ما يطلق عليه ماكس فيبر"سوسيولوجيا الهيمنة الدينية"، وهي التي ينظر اليها بصفتها"ردة" فكرية على قيم المدنية والحداثة، التي سعت الايديولوجيات المختلفة التي تعاقبت على المنطقة، الى غرسها في التربة العربية طوال القرن الماضي. وعليه، فإن السؤال الملح، الذي يجب ان تنشغل به النخب الفكرية العربية، هو: هل يمكن للنهضة ان تتم على اساس غير ديني؟ وهل ثمة سبيل لتقديم مشروع إحياء"مدني"للعالم العربي؟ بيد ان ثمة محددات"شروط"تبقى ضرورية لوجود مثل هذه الإحيائية المدنية، ليس اقلها ان يتم إحلال منظومة الافكار التقليدية، حول التقدم والنهوض، والتي يعتبر الدين الرافد الاساسي لها، بأخرى اكثر مدنية وحداثة، تتلاءم وروح العصر، وذلك من دون خدش للقيم الاصيلة للدين الاسلامي. وان تسعى النخب"المدنية"في العالم العربي، الى ايجاد"انتلجينسيا"عربية تستلهم قيم التمدين والتحديث، وتؤمن بها، ليس بصفتها مجرد"تقليد"او"محاكاة"للقيم الغربية، وإنما بصفتها ضرورة"تاريخية"للخروج من المأزق الراهن للأمة الاسلامية. * كاتب مصري