كلما قرأت أخبار الصومال غير السارّة دوماً، تذكرت الكاتب الصومالي نورالدين فارح الذي لا يزال شبه مجهول عربياً، على رغم الاعتراف الكبير به في الغرب الأوروبي والأميركي. قد لا يكون جائزاً تذكّر هذا الروائي الذي كتب ملحمة الصومال في ثلاثيته الرهيبة"دم في الشمس"، لدى ورود أخبار الصومال، هذه الدولة العربية - الافريقية التي تشهد حالاً من الاضطراب منذ عقود. نورالدين فارح يستحق أن نتذكره دوماً وبعيداً من الحدث السياسي. فهو كما وصفته مجلة"نيويورك بوك ريفيو"الشهيرة"أهم روائي افريقي ظهر في الربع قرن الأخير". وقد يكون حصره في تخوم الأدب الافريقي انقاصاً من مكانته وإقلالاً من شأنه هو الذي بات معروفاً عالمياً ونقلت رواياته الى لغات شتى، عطفاً على فرادته روائياً وخصوصية عالمه المتجذر في أرض الصومال. لم يكتب فارح بالعربية. اختار الانكليزية لغة يواجه بها العالم الأول معبراً عن قضايا الناس في بلاده، وعن المحن والأزمات والشجون التي تعرفها الصومال، الدولة المتعددة اللغات والثقافات والهويات."انا صومالي"يردد نورالدين، لا يقول إنه عربي، لكنه لا ينبذ هذه الصفة. درس في الصومال ثم في انكلترا والهند، وكانت اللغة الانكليزية قدره. ويروي في كتابه"أمس غداً"طرفة شهدها في مطار هيثرو، مفادها أن موظفي شركة الطيران البريطانية شكّوا باسمه فراحوا يبحثون عن"صومالي"في الردهة الواسعة لا يعرفون شكله. وصدف أن اشتبه هؤلاء برجل عربي فسألوه: هل أنت صومالي؟ وعندما تعرفوا عليه قالوا له:"أعطنا جواز سفرك، إن كان لديك". أهمّ ما في هذه الطرفة التي يسردها فارح بطرافة هو التشابه"الظني"بين"العربي"و"الصومالي"في عين المواطنين الغربيين وكأن العربي هو الوجه الآخر للصومالي أو الافريقي. كتاب"امس غداً"هو آخر ما صدر للروائي الذي يقيم في"كاب تاون"بعدما عاش في بلدان افريقية عدة عقب خروجه من الصومال عام 1976 وكان في الثلاثين من عمره. بعد هذا الكتاب التوثيقي لم نقرأ عن كتاب آخر صدر له بالانكليزية أو الفرنسية. وله حتى الآن سبع روايات تشكل نتاجه الأساسي البديع. وقد صدرت قبل سنة أولى ترجماته الى العربية وهي رواية"خرائط"التي تقص سيرة فتى يدعى"عسكر"، كان فقد والده قبل أن يولد وسط الحرب التي دارت بين الصومال وأثيوبيا. ولن يلبث أن يفقد أمه أيضاً في لحظة ولادته. وعندما يصبح مراهقاً ينتقل الى بيت خاله في مقاديشو، وهناك يجد نفسه في خضّم العالم الواقعي والسياسي بما يحوي من صراعات وتناقضات. هذه الرواية التي اصدرتها دار الجمل مترجمة بقلم سهيل نجم لم تنل حقها في الاعلام العربي ولم يكتب عنها على ما أظن، علماً انها من الاعمال المهمة جداً، وهي أولى"الثلاثية"التي اعتبرها النقد العالمي"من الانجازات الكبيرة في الأدب الافريقي الحديث". أما كتاب"أمس غداً"فهو راهن جداً على المستوى الصومالي مع أنه صدر قبل خمس سنوات. في هذا الكتاب يصوغ فارح بأسلوبه البسيط والساحر شهادات كان جمعها من مواطنين له، لاجئين في دول عدة. قابلهم وعاش معهم وتعرّف الى آمالهم وخيباتهم وأحزانهم. رجال ونساء أكرهوا على مغادرة بلادهم بدءاً من العام 1990 خلال احدى الأزمات الشديدة في الصومال. جاب فارح"بلدان"المنفى من مخيم مومباسّا في كينيا الى روما، ومن افريقيا الجنوبية الى بريطانيا والبلاد الاسكندينافية... في الكتاب الضحايا هم الذين يتكلمون ولكن بقلم فارح، ومن خلال عينه وفنه السردي. والكتاب لوحة حيّة عن مجتمع مهاجر بكامله."أتذكر دموع العصيان التي كانت تنهمر ملء خدود اللاجئين"يقول فارح معتبراً الصوماليين"مواطني بلد الأسى". ويتحدث في الكتاب عن افريقيا"هذه القارة التي تلد كلّ سنة لاجئين أكثر مما تلد أطفالاً بصحة جيدة". ويقول عن نفسه:"يرهقني ألم أن أكون صومالياً"، لكنه يرفض وصفه باللاجئ قائلاً:"لست لاجئاً. لم أصبح لاجئاً بعد. ولا أفكّر في أنني سأصبح لاجئاً يوماً ما. قدماي راسختان بقوة في الأرض الافريقية". وكيف يكون لاجئاً كاتب في حجم نورالدين فارح، كاتب استطاع أن يجعل من الكتابة وطناً موقتاً وربما نهائياً، وطناً يعيش فيه بحرية في قلب بلاده الأولى:"أُحيي بلادي في الكتابة عنها"يقول نورالدين فارح. الصحافة الثقافية في الغرب تتابع أعمال نورالدين فارح بشغف وترحاب أما نحن فلا نتذكره إلا في أوج الأزمة التي يشهدها الصومال. إننا نحتاج فعلاً الى اكتشاف نورالدين فارح، هذا الروائي الصومالي والافريقي والعربي بالانكليزية، وفي اكتشافه نعيد اكتشاف بلاد عربية وفنّ روائي و"صوت هو من أوسع الاصوات ثقافة في الرواية الحديثة"بحسب تعبير مجلة"نيويورك بوك ريفيو".