إسرائيل هي الدولة الوحيدة غير المسلمة في الشرق الأوسط. وهي، على المدى البعيد، لن تكون قادرة على العيش بسلام في هذه المنطقة إذا ما استمرّت تنظر الى نفسها، وينظر اليها جيرانها، كرأس حربة للصراع الغربي ضد القوى الاسلامية العنفية. وبعدما تركّز الصراع هذا إثر 11/9 على ارهابيي الاسلام، فإن قادة الغرب واسرائيل باتوا، وقد أهاجهم الارهاب، أقلّ فأقلّ تمييزاً بين اعتدال اسلامي وارهاب اسلامي. فحينما يُنظر الى اسرائيل كموقع غربي في قلب هذه المنطقة المسلمة المنسجمة، وحينما يتخذ الصراع بين الغرب والاسلام الراديكالي أبعاداً كونية، فهذا يضاعف الخطل والخطورة المترتبين على قيام اسرائيل بوضع نفسها وشبّانها على خط الجبهة المتقدم في هذه الحرب. لقد بيّنت الحرب الأخيرة ثانيةً ان قابلية اسرائيل للعطب لا تكمن في قوة جيشها ذي الضخامة المحدودة. ف"ضعف"اسرائيل يكمن في حساسيّتها القصوى حيال خسارة حياة البشر، حتى لو كانوا قلّة من الجنود والمواطنين. وعلى رغم الانتقاد الداخلي لقرار الحرب الاخيرة باختيار استراتيجية الضربات الجوية الكثيفة، بدل الهجوم البرّي، وهو الخيار الذي رفع على نحو درامي عدد الضحايا على الجانب الآخر، فإن ما أملاه الى حد بعيد كان الرغبة في توفير حياة الجنود الاسرائيليين. هذا الهمّ أشعل، ويشعل، قادة اليمين الاسرائيلي من بيغن الى نتانياهو من أجل أن يحوّلوا شباننا الى جيش متقدّم على جبهة هذه المواجهة الكونية. بالتأكيد على الجيش الاسرائيلي ان يكون مهيّأ لسيناريوات الحالات الأسوأ. لكن على أية قيادة اسرائيلية حكيمة حين تفكر في مستقبل اسرائيل البعيد الأمد في الشرق الأوسط أن تفكّر في اجراء قطيعة جذرية مع سياسات الماضي ازاء هذا الصراع. فبدل مجرد الاعداد ل"جولة مقبلة"، آن الأوان أن نركّز على خفض دوافع الطرف الآخر للهجوم. فعلى مدى عقود والقادة الاسرائيليون الذين رفضوا تفكيك المستوطنات وانهاء الاحتلال، وهما أكثر ما يثير العداء الاسلامي الراهن، يحتفظون لأنفسهم وبحماسة دور الناطق بلسان"العالم الحرّ"في منطقتنا، مكررين شعارات مستفزّة كالحديث عن رسالتنا ضد"محور الشرّ"، أو مردّدين كالصدى بعض الاشارات الغربية التي تدّعي التفوّق عن"الحضارة الاسلامية البدائية"، فيما يعلنون تأييدهم لفرض الديموقراطية الليبرالية ذات النمط الغربي على المجتمعات المسلمة. هذه المواقف وما يلازمها من سياسات وضعت اسرائيل على مسار التصادم مع كامل العالم الاسلامي. وبما يزيد الإهانة الى الجرح، استخدم قادتنا بعجرفة قوتنا الاقتصادية النسبية لكي يُظهروا نيّاتهم في خلق شرق أوسط محدّث وجديد اقتصادياً وتقنياً بما يغيّر نوعياً طرق حياة جيراننا "من أجل مصلحتهم"بالطبع، وذلك من دون أن نسألهم حتى عن تفويضنا لهم بذلك. فوق هذا، وعلى مدى عقود، زوّدنا التلفزيونات المسلمة في الشرق الأوسط بصور عن حرس الحدود الاسرائيليين وهم يضطهدون ويهينون الصغار والنساء الفلسطينيين على المعابر، ويقتلون مدنيين أبرياء في سياق مطاردتهم للارهابيين، ويدمّرون بيوتاً كثيرة ويقطعون أواصر القرى بإقامة جدران أمنية. لكن الألم الذي يصيبنا به شعورنا بمسؤوليتنا عن أعمال كهذه، ونقدنا الأخلاقي لحكومتنا، ينبغي ألاّ يبعدنا عن إدراك أننا فعلنا عملاً ممتازاً في تزويد العنف الاسلامي الراديكالي بدعم بصريّ قويّ من أجل أن يمضوا في جهودهم لأبلستنا بوصفنا"الدولة اليهوديّة"الشريرة والمناهضة للمسلمين. وهذا لم يفعل سوى تسهيل جهودهم في تحطيم المحاولات البراغماتية في حلّ النزاع العربي-الاسرائيلي، وذلك عبر اعادة تعريف هذا النزاع الاقليمي بمصطلحات كونية دينية. لقد آن الأوان لاسرائيل، لا سيما بعد حرب غير حاسمة، أن تفكّر في اجراء انعطافة شجاعة في توجهها العام وسياستها حيال الشرق الأوسط المسلم. فصواريخ سكود فوق تل أبيب وصواريخ القسّام فوق الجنوب، والآن الأربعة آلاف صاروخ إيراني وسوري التي أطلقها حزب الله على شمال إسرائيل، ينبغي ألا تجعلنا نعتمد على ديبلوماسية لا يدعمها الردع. لكن هذه الصواريخ في وسعها اقناع الاسرائيليين ان يحاولوا اعتماد نهج بديل جذرياً. فالآن خصوصاً، إذ يحسّ العالم الاسلامي انه مُهان، وفيما تدفع الأكثرية المعتدلة في هذا العالم ثمناً فادحاً للارهاب المشهدي الذي تمارسه أقلية من الأصوليين العنفيين، على اسرائيل ان تستثمر ميزتها الخاصة كمجتمع مؤلف من يهود شرقيين وغربيين ومن أقلية مسلمة كبرى، وكمجتمع تربطه روابط ثقافية وتاريخية متعادلة مع كل من الغرب والشرق، من أجل أن تقف كجسر بين العالمين بدل أن تكون الجبهة الأمامية للغرب مقابل العالم الاسلامي. فالتحدي الذي على اسرائيل ان تواجهه ليس مدى ارتفاع صوتنا داخل الجوقة الغربية التي يحاول الرئيس بوش تشكيلها. بل مدى تطويرنا صوتاً أصيلاً في شرق أوسطيته مستمداً من جذورنا العميقة في التقليدين. كذلك في وسعنا العمل من أجل تعاون اقتصادي اقليمي متبادل المنفعة، ينهض على المزايا المتبادلة لا المزايا الأحاديّة. فالتزام وطني اسرائيلي بإحياء مشروع قناة البحر الميت-البحر الأحمر الذي يعني الفلسطينيين والاردنيين والاسرائيليين، قد يكون علامة على توجه جديد. وعلامة اخرى من هذا القبيل قد يجسدها الاحياء الصارم لتعليم اللغة العربية في المدارس الاسرائيلية كشرط لتربية اجيال جديدة من اسرائيليين يكونون أقدر على تثمين الغنى العظيم لحضارة جيرانهم والمساهمة فيها. وإسرائيل كهذه ستكون حليفاً أفضل لأميركا وشريكاً أكثر عوناً في تغيير السياسات الغربيّة الحاليّة وغير النافعة في المنطقة.