نسيتُ ان اشكر نجيب محفوظ على متعة الروح، على العربية الأليفة، على المناخ الدافىء، شبه العائلي، على الشخصيات المركّبة.التقيتُ به مرتين، في جلسات الحرافيش. كان تجاوز قليلا التسعين من عمره، وتضاءل حجمه وخفتتْ حواسه، سمعه وبصره. يتوسط اصدقاءه الحرافيش في حلقة نصف دائرية، هو الذي يعمل بإنضباط وجدية نادرين، مثل النساك، تراه لا يأخذ نفسه على محمل الجدّ. يطلق النكات، ثم يشرد، فتعتقده غائباً، ليعود من شروده وقد لاحظ اثناءه اشياء، فيعود ويطلق عليها النكات وعلى نفسه. ما بعد التسعين عاماً، وطاقته الداخلية لا تنضب. شخصية اخّاذة! فنسيتُ... الآن انا ذاهبة بالسيارة الى الحسين، حيث أوصي بأن يكون مأتمه ومثواه الاخير. سوف يكون اسمها"الجنازة الشعبية". اليوم انخلعتُ من همّي اللبناني، ولكن الشكر ايضا وايضاً، ليس على الفن فحسب بل على الدماثة، على سبر الاغوار، على الوسطية الحقّة، على الصمود امام سلطان وملكَين واربعة رؤساء جمهورية محمد نجيب اولهم وامام الاصولية بكل تشعباتها... اتذكر كل هذا، واتذكر بأنني نسيتُ... أصلُ عند العاشرة تماماً، الوقت المحدّد للصلاة"قليل من الناس على مدخل الحسين. آمل بأن الحق الصلاة في الداخل، ان اجد عدداً أكبر. أدخل من الخلف، حيث بوابة النساء الى المسجد. لكن الصلاة انتهت والجميع يخرج الى الساحة. لأول مرة، أتأخر عن موعد في القاهرة. الجثمان في الخارج محمول الى سيارة الاسعاف. باستثناء ثلاثة ادباء من رفاق محفوظ المعروفين، قليل قليل من المثقفين."الجنازة الشعبية"ضئيلة ومتسرّعة. كان القصد من اقتصارها على الصلاة، ربما، عدم تحويلها الى تظاهرة شعبية. لكن الجمهور في الخارج يقتصر على سواح وفضوليين ودروايش... وبضعة مثقفين. نجلس في المقهى الملاصق لباحة المسجد، وقد هيأ نفسه ل"المناسبة"بتزيين الطاولات بأناء من النعناع الطازج. لعله يأتي"باقون"، لعل العدد يزيد مع طلوع المزيد من النهار. لكن لا. لم يحضر الا ثلاثة آخرون فقط. ربما الوقت مبكّر، ربما لم يعلموا، ربما نجدهم في الجنازة الاخرى، الرسمية، العسكرية، في مدينة نصر. لكن الاخبار الآتية من هناك تقول بأنه لا مشاركة في الجنازة إلا للVIP واصحاب التراخيص الخاصة. يضجر البعض فيذهب الى اشغاله، ونبقى مجموعة صغيرة، بين صحافي وصحافية وشاعر وناشر. ولا واحد منهم VIP او حامل لتصريح. اقتراح الشاعر: ان نتنزه في الحسين ونتوقف امام منزل محفوظ في الجمالية. حتى يحين موعد الجنازة"الرسمية"التي لا نملك تصريحاً بالمشاركة فيها. في الطريق الى الجمالية، لا بد ان تحضر روح نجيب محفوظ، لا بد من المقارنة: بين شعب محفوظ وشعب الآن، بين معمار الجمالية لدى محفوظ ومعمارها الآن. لن أسترسل."قسم شرطة"الجمالية الواقع امام منزل محفوظ، و"بيت القاضي"الملاصق له، لا تستطيع ان تراهما إلا اذا أصررتَ على النظر وجرّدتهما من كل محيطهما. كذلك الوجوه التي اصابها نفس التعب. شعب آخر، معمار آخر، مناخ آخر."الثلاثية"صارت الآن جزءاً من التاريخ. الجنازة"الرسمية". نحن الآن على ابواب مسجد رشدان في مدينة نصر. الوقت ظهر وشمس آب لاهبة. العسكر في كل مكان، والجادة المخصصة للجنازة، محروسة من كل صوب، مليئة بالصفوف المتراصة والأطقم الرسمية وحمَلة الاوسمة، وفرقة الموسيقى الجنائزية في المقدمة، والعربة العسكرية بالأحصنة، تنظر الجثمان. نَحوم انا ورفاقي حول المسجد لعلّنا نفوز بالدخول. ثم تأتي النجدة: عزيزة، صديقة محفوظ منذ 25 سنة، و"طالبة من طلابه"كما تقول. تُدخلنا بقوة صداقتها مع الفقيد. وها نحن الآن مع زوجة محفوظ وابنتيه، وقليل قليل من القريبات، ربما. ثلاث مندوبات عن سفارة بلادهن، ثم نِهال... فقط، فقط. القاعة المخصصة للنساء شبه خالية. يدخل اليها الوجهاء لتعزية العائلة بشيء من الوقار، ثم يلوذون. ننتظر الآن قدوم الرئيس، حتى تخرج الجنازة ونعود الى بيوتنا. على اساس ان النساء لا يشاركن في الجنازات. وخاصة في جنازات كهذه. لكن الامر ينقلب بلحظة واحدة، بطرْفة عين. فجأة، وبعد انتظار واستفسار، يهمّ الجميع الى الخروج للجنازة الرسمية. فلا نرى انفسنا، نحن النساء الاربع، ناديا وعزيزة ونهال وانا. الاولى صحافية والثانية صديقة نجيب محفوظ والثالثة ملحقة اعلامية في السفارة الاميركية وانا،"اللبنانية"الراكضة منذ الصباح. لا نرى انفسنا الا داخل الجنازة، نستعد لإنطلاقتها. اربع نساء في حنازة رسمية عسكرية. اربع نساء تسلّلنَ الى الجنازة. نلتفت وراءنا، نتطلع في الوجوه القريبة منا"فلا نلحظ اية عبارة. ربما اعتقدوا اننا VIP. او انهم لا يهتمون بمخالفات غيرهم. المهم عندهم هبوط الرئيس و المشي مرفوعي الرأس، ثم العودة الى بيوتهم. لا احد يريد ان يستنكر وجود اربع نساء في جنازة محفوظ. ناديا تطلق كلمة مجلجلة:"تصوري اننا دخلنا التاريخ!"."لِمَ؟"أسأل."لأننا مشينا في جنازة نجيب محفوظ الرسمية العسكرية!". ولا يهمّ إن كانت هي ايضاً صغيرة... أنتظر مزيدا من التهيّب: مشقة تحت شمس كهذه! بعد حين يأتي الرئيس، وتبدأ الجنازة بأحد أناشيد الموت: هيبة اخرى. فننتظم ونمشي كالعسكر، بتجهّم وخطوات ثابتة. لا يمر اكثر من خمس دقائق، فتنفرط الجنازة مثلما ينفرط العقد ويذوب التجهّم مثلما تجَمّد، بلحظات. جاء الرئيس، ذهب الرئيس: ذاك هو التوقيت الوحيد. الباقي فوضى. الحواجز تُرفع والممنوعون من الجنازة الرسمية يتدفّقون. ليسوا بالأعداد المهيبة، لكنهم هم وحدهم يشبهون أبطال نجيب محفوظ... عجائب زمن آخر. لو كان محفوظ حيّاً، لأطلق حول جنازتَيه النكات... كنتُ اتصور انني سوف اشارك في جنازة من تلك الجنازات الكثيفة، المتراصة، العفوية: جنازة مبدع، من تلك الجنازات الاثيرة. لكن هذا التوقع ايضاً لم يصبْ. حظ نهاية محفوظ ليس مثل بدايته. نجم كرة القدم، محمد عبد الوهاب، تفوق رحيله على رحيل محفوظ. جنازته ضمّت 200 الف مشيّع. فيما جنازتا محفوظ،"الشعبية"و"الرسمية"، لم تجمعا اكثر من 200 شخص. نجيب محفوظ في حياته كما في جنازته، وعلى رغم انعدام رغبته بكسر القوالب الصعبة، محفوظ هذا، يبادله الرمز محبته له"الرمز يحبه، كما كان هو يحب الرمز. في جنازَتيه، كل التفاصيل كانت مرمّزة: منذ الصباح الباكر، منذ الصلاة عليه في الحسين، وحتى إنفضاض الجنازة الرسمية: رمز لزمن آخر موصول بهذا الزمن، للتوزع بين هوامش السلطة وواجهتها، للتوزع بين هوامش المعارضة وهوامش الدين وواجهتهما ايضاً. للمبالاة الثقافية ومصادرتها في آن... لتغيّر احوال الزمن. مرة اخرى، انسى ان اشكره، او بالاحرى نسيتُ. فقد اخذتني الجاذبية الخاصة، المعاني الخاصة لوداعه الاخير. وكل معنى من هذه المعاني يحمل تأويله بنفسه.