} كيف كان نجيب محفوظ يقضي أيامه قبل الاعتداء عليه بضربة سكين عام 1994؟ احتفلت وسائل إعلام عربية في الشهر الأخير من 2001 بعيد ميلاد نجيب محفوظ التسعين. الاحتفاء بحامل نوبل الآداب 1988 عكس موقع هذا الروائي في قلوب القراء. والقارئ المولع بمؤلفات أحد الكتاب يرغب في معرفة بعض التفاصيل من الحياة اليومية لهذا الكاتب. ضمن سلسلة "يوم في حياة كاتب" يقدم ملحق "آفاق"، هذا التحقيق بقلم الكاتب المصري يوسف القعيد. أي أيام نجيب محفوظ أختار؟! وهل اتكلم عن هذا اليوم الآن، أم أعود الى الوراء والى الزمن الجميل الذي مضى ولن يعود ابداً، مع العلم ان "الآن" هذه مقصود بها الزمن الذي جاء بعد محاولة الاعتداء الغادرة عليه مساء يوم الجمعة الثاني عشر من تشرين الأول اكتوبر سنة 1994. سأختار يوم الخميس من كل أسبوع "هنا والآن" لأن هذا اليوم كانت له اكثر من دلالة بالنسبة الى نجيب محفوظ، فهو اليوم الذي يخصصه اسبوعياً لنفسه، هذا يوم لي، هكذا يقول عقل نجيب محفوظ، ينصرف فيه الى الاصدقاء والأحبة، أما يوم الجمعة، فقد كان ولا يزال مخصصاً للأسرة. من سنة 1961 وعندما بلغ نجيب محفوظ الخمسين من عمره اطلق عليه محمد عفيفي - صديقه وزميله - لقب "الرجل الساعة" تعبيراً عن مدى التزام نجيب محفوظ بنظام يومي، بطريقة صارمة. صحيح انه هو الذي وضع هذا النظام، وبالتالي يمكنه الخروج عليه، ولكن كان يلتزم بهذا النظام كما لو أن قوة ما خارجة عنه هي التي وضعته له. ما من مشروع كتابة من المشاريع الكبرى الا وهو نتاج نظام دقيق وصارم. ولدينا في من نعاصره من الكتاب، مثلان هما: محمد حسنين هيكل ونجيب محفوظ، ذلك أن النظام الصارم الدقيق وربما الحديدي هو عنوان تجربة الحياة كلها عند كل منهما. يستيقظ نجيب محفوظ مبكراً، ورغم ان هذه عادة ابناء الريف الذين يصحون مع نجمة الفجرية، ونجيب محفوط من ابناء المدينة، الا أنه يحافظ على عادة الاستيقاظ مبكراً، نحو الخامسة صباحاً، وذلك لسبب بسيط، هو انه ينام مبكراً ايضاً، لا يعرف السهر بعد العاشرة مساء ومهما كانت الظروف، والمبررات، التي قد تدفعه الى الخروج على نظام حياته الصارم. الآن لا يوجد لديه ما يفعله حتى حضور الحاج محمد صبري اليه، في التاسعة صباحاً، ومعه الصحف الصادرة من أجل ان يقرأ له العناوين اولاً، ثم يقرأ له المواضيع التي يطلب الاستماع اليها، وصبري لا يحضر معه سوى الصحف الرسمية، التي نسميها في مصر القومية، والتي تصدر عن مؤسسات كبرى "الأهرام، "الاخبار"، و"الجمهورية"، أما صحف المعارضة والصحف المستقلة، فإن الاصدقاء يقرأونها له في لقاءات ما بعد الظهر. وهي في الاغلب الأعم: "الوفد"، "الاسبوع"، و"العربي الناصري". من قبل كان يكتب صباحاً. الكتابة كل يوم هي من دعائم مشروع نجيب محفوظ الكتابي. لا بد من أن يكتب كل صباح، ثم يخرج من المنزل، يحصل على صحف الصباح بنفسه، يشتريها من الباعة، يجلس على مقهى في وسط القاهرة من أجل قراءة الصحف، لا يقابل أحداً في هذا الخروج، ويشرب فنجانين من القهوة السادة - من دون أي سكر - مع قراءة الصحف، وفي نهاية الجلسة التي تبدأ في السابعة وتصل الى التاسعة يترك الصحف في المقهى، ويتمشى في شوارع وسط البلد، ثم يعود الى البيت. في هذه التوقيتات لا ينظر نجيب محفوظ في ساعته، في داخله ساعة بيولوجية، تقوم بدور المنبّه، الذي يشير الى الوقت من دون الحاجة الى الساعة التي في يده، لأن الساعة التي تسري في روحه، وتسبح في وجدانه أدق. هذه الأيام، وبعد الانتهاء من الاستماع الى ما في الصحف، يحضر اليه اخصائي العلاج الطبيعي من المستشفى القريب من بيته. الاصابة الناتجة من حادث الاعتداء عليه، عمرها الآن سبع سنوات ومع هذا ما زالت آثارها واضحة في حركة يده اليمنى التي يكتب بها. بعد انتهاء العلاج الطبيعي، يبدأ هو العلاج بالكتابة. يستخدم اقلاماً سميكة الخط. ويدوّن في اوراق عنده اي كلام يخطر على باله، تطور الامر معه، اصبح يكتب بأقلام عادية، قصص شديدة القصر، يسميها أحلام فترة النقاهة، وهي قصص تدور في منتصف المسافة بين الحلم والواقع. ولنجيب محفوظ عمل حلمي سابق، هو "رأيت فيما يرى النائم"، وهو عبارة عن مجموعة من القصص القصيرة صدرت طبعتها الأولى سنة 1982، وبعد عمليات تبييض مضنية وطويلة ينشر "أحلام فترة النقاهة". من قبل كان نجيب محفوظ يخصص يوم الخميس من أجل الذهاب الى "الاهرام"، لمقابلة من يريد مقابلته. حتى حصوله على نوبل في 1988، لم يكن له مكتب مستقل في "الاهرام". كان يجلس في مكتب صغير يشاركه فيه المرحومان لويس عوض وعائشة عبدالرحمن بنت الشاطئ، وعلى رغم صغر حجم المكتب فإنه كان يجلس مع رمزين لمصر الاسلامية ومصر القبطية في مكتب واحد. ويدخل نجيب محفوظ المكتب من دون ورقة واحدة في يده، ويخرج منه في الثانية بعد الظهر من دون ورقة واحدة معه، ويتحرك في القاهرة مستخدماً التاكسي. بعد نوبل، وكان مكتب توفيق الحكيم قد اصبح خالياً بوفاته 1987، تقرر أن يستخدم نجيب محفوظ مكتب الحكيم الكبير والواسع. وان كان نجيب محفوظ الذي اسعده زمانه بعدم الحصول على نوبل في حياة توفيق الحكيم، لم يجلس ابداً الى مكتبه. كان يفضل الجلوس على كنبة مجاورة للمكتب ويتركه في الثانية ظهراً، ويقابل جميع طالبي المقابلات في هذا اليوم. ولكنه بعد حادث العدوان عليه، لم يعد يذهب الى "الأهرام" الا في يوم الخميس من كل اسبوع ولا في غيره. يعود إلى المنزل لتناول الغداء، وبعده ينام وهي عادة لازمته طوال حياته، تسمى في مصر تعسيلة بعد الظهر، أو القيالة، يقولون في الاحياء الشعبية اخطف ساعتين، أواجه بهما سهر الليالي. عندما جاء سفير السويد الى منزل نجيب محفوظ في الثالثة من بعد ظهر يوم الخميس في الثاني عشر من تشرين الأول اكتوبر سنة 1988 لكي يبلغ محفوظ بحصوله على نوبل، قبل الاعلان رسمياً عن ذلك، كان نائماً، وقد دخلت عليه زوجته عطية الله ابراهيم، لتبلغه بالخبر السعيد، قالت له: نجيب اصحى انت اخدت نوبل، قال لها: بطلي احلام يا ست انت. لبس الروب فوق البيجاما واتجه الى الصالون، لم يكن هناك وقت يسمح بارتداء بدلة، ولأنه تناول الغداء وكان ضمن مكوناته البصل الذي يترك رائحة في الفم، فقد تكلم مع سفير السويد ووجهه الى الناحية الأخرى، حتى لا تتسلل الرائحة الى السفير الذي جاء يبلغه "خبر العمر"، الذي اعلن بعد ذلك بدقائق في راديو لندن في البرنامج الشهير "عالم الظهيرة". لا يخرج نجيب محفوظ من بيته قبل السادسة مساء في الصيف، وفي الخامسة مساء في الشتاء، يتجه الى فندق قريب من منزله، قبل ان يتجه الى مطعم قريب، أو منزل احد الاصدقاء لقضاء سهرة الخميس التي يسميها الناس "ليلة الجمعة". من قبل كانت هناك طقوس في مساء الخميس، كان يخرج من البيت، يستقل تاكسياً الى مقهى "عرابي" في ميدان الجيش، في تلك المنطقة الواقعة بين حي الظاهر والعباسية، وهي المنطقة التي انتقل اليها نجيب محفوظ بعد تركه الجمالية كانت العباسية تمثل في ذلك الوقت - أواخر الثلاثينات وأوائل الاربعينات من القرن الماضي - الحي الجديد والجميل الذي يهاجر اليه من تحسنت احوالهم المادية. في مقهى "عرابي" يقابل نجيب محفوظ اصدقاء الطفولة أو من بقي منهم على وجه الحياة، وهم من الذين كانوا يلعبون معه الكرة في ايام الطفولة، ومن ذهبوا معه الى المدارس المختلفة، ومن شهدوا قصة حب شبابه المستحيل، التي عبّر عنها من خلال حب كمال عبدالجواد لعايدة شداد في الثلاثية، وكلامهم معه يخلو من التكلف والرسميات ولا تسبق الاسماء أي ألقاب، بل ان فيهم من يناديه "واد يا نجيب". في الثامنة والنصف يتحرك من المقهى الى مطعم قريب، منها من اكثر مطاعم الكباب والكفتة شهرة ليس في المنطقة وحدها، ولكن في القاهرة كلها. يحصل على لفة من الكباب والكفتة، عبارة عن مساهمته في جلسة الحرافيش. في سهرته الأسبوعية يستقل تاكسياً من الشارع الذي يوجد فيه المطعم في حي الظاهر، وقرب مسجد الظاهر بيبرس المعروف والشهير ويتجه الى منزل صديقه محمد عفيفي في آخر شارع الهرم، هذه هي الليلة الوحيدة التي يسهر فيها خارج المنزل، يعود الى بيته لحظة انتصاف ليل القاهرة وهو موعد متأخر جداً، بالنسبة الى انسان تعود النوم المبكر كل ليلة، وان كان يذهب الى منزل محمد عفيفي بالتاكسي، فإنه يعود في الليل في سيارة أحد الاصدقاء. نجيب محفوظ لم يتعلم قيادة السيارات وكان يتنقل بسيارات تاكسي، وعند السفر الى الاسكندرية كان يستخدم الاوتوبيس المكيف، الذي ينطلق من ميدان التحرير، وعلى رغم ان ابنتيه: أم كلثوم وفاطمة، تمتلك كل واحدة سيارة تقودها بنفسها فإنه يفضل الاستقلال في الحياة الشخصية. مشاويره وتنقلاته بعد الحادث حُرم نجيب محفوظ من نعمتين، الاولى هي المشي الحر في شوارع القاهرة، فهو من المشّائين الكبار، ويبدو أنه كان يتأمل الحياة والناس والاشياء من حوله عندما كان يتمشى.المشي اصبح الآن مستحيلاً والاسباب كثيرة ومتعددة منها الأمني ومنها الصحي، ومنها المزاج النفسي. حُرم أيضاً من ركوب التاكسي بحريته، والثرثرة مع سائق التاكسي، والتعرف على انماط من المصريين في امكنة مختلفة ومتنوعة. الآن لا يتحرك نجيب محفوظ الا في سيارة احد الاصدقاء، تسبقه حراسة مشددة، وتتبعه حراسة، وهذا معناه انه لا بد من أن يبلّغ عن مشاويره هذه قبل يوم كامل من القيام بها حتى تتخذ الإجراءات الامنية التي لا بد من اتخاذها. من قبل كان يخرج وقت أن يشاء، ويعود وقت أن يشاء، ويجلس مع من يشاء، ويقف في الشارع ليصافح من يقابلونه، ويرد تحية من يحييه. الآن، تعرف منزله الذي يطل على نيل القاهرة في منطقة العجوزة، من كثرة الحراسات حول البيت كأنه ثكنة عسكرية، ايضاً لا يستطيع الجلوس في مكان عام يجلس فيه الآخرون، مثلما كان يفعل من قبل، وعلاوة على اجراءات الأمن فإن الظروف الصحية تمنعه من عقد مثل هذه اللقاءات الموسعة. لقد كانت فرحة الناس العاديين بنوبل محفوظ ناتجة من ان الحاصل عليها انسان يمشي على قدميه، يرونه كل صباح وسطهم، في ابعد مكان من السلطة، ويجلس في المقاهي، ويشتري الصحف من باعة الجرائد في الشوارع، ويلمع حذاءه واقفاً على الارصفة. مثل هذا الانسان اصبح لا يقدر على ممارسة مثل هذه المسرات البسيطة، التي هي جزء أصيل من مسرات الفقراء والبسطاء من الناس. ما ان يهل علينا فصل الخريف، وبعده الشتاء حتى يحن نجيب محفوظ للذهاب الى حي سيدنا الحسين. هناك الامكنة التي خلّدها في رواياته بأسمائها: خان الخليلي، زقاق المدق، بين القصرين، قصر الشوق، السكرية، هناك البيت الذي ولد فيه، وايضاً المدرسة الابتدائية التي دخلها، والاماكن التي تجول فيها أبطاله، لكن الأمر لا يتعدى حال الحنين والشوق والأسى الذي لا تعبر عنها الكلمات، وعلى رغم انه كان هناك اكثر من مشروع للذهاب الى الحسين، الا انه يؤجل الأمر في اللحظة الاخيرة. وما ان يهل علينا الربيع ومن بعده الصيف، حتى تبدأ معزوفة الحنين الى الاسكندرية، التي لم يعد يذهب اليها بعد حادث الاعتداء عليه، وهي المدينة التي يحبها بعد القاهرة بل وجرت فيها احداث الكثير من رواياته: السمان والخريف، الشحاذ، ميرامار.ويكون هناك مشروع لسفره الى الاسكندرية، سفرية يوم واحد مع الاصدقاء، ويكون هناك اكثر من مشروع، ولكنه يؤجل الأمر في اللحظة الاخيرة. انه الانسان الذي يضيع بنفسه الكثير من طقوس حياته، ومع هذا تستعبده هذه الطقوس، ومع مرور الوقت يصبح من المستحيل عليه الخروج عليها. ان رجل المقاهي، صديق الناس العاديين، صديق الشوارع والارصفة والبيوت، لم يعد من حقه التحرك بمفرده ليكون في قلب الناس.