قد لا يدرك الأبعاد الحقيقية لما يجري في لبنان الا من عاشها... ونحن، في العراق عشنا الحالة، كما عاشها اشقاؤنا في لبنان، مرتين: المرة الاولى يوم جرى تفجير لبنان من الداخل في"حرب منهجية"على ثقافته وحضارته وانسانه، ووضع كل شيء فيه ضمن"كانتونات"اتاحوا لها ان تقسم الارض تمهيداً لتقسيم كل ما عليها، مادياً كان ام ذا وجود ذاتي- معنوي، بهدف الوصول به الى حياة اهم سماتها الانقسام على نفسها والتمزق من داخلها. وكانت الحرب الاولى على العراق 1991 حرب تدمير اخرى اجتاحت كل ما كان على ارضه، فضلاً عن بناه التحتية، فكان اقتلاع البناء والبشر من على وجه الارض خطوة اولى لما سيعقبها... وما اعقبها كان افدح: تعطيل الحياة في بلد عرف تاريخياً وحضارياً انه من منابع الحياة. وكما كان هناك"فينيق"كان هنا"تموز"، ففي الوقت الذي انبعث لبنان من رماده كان"تموز"وادي الرافدين يحاول استعادة موقعه على الارض التي لم يبق له عدوان ثلاثين دولة عليها شيئاً سوى الدمار والخراب. وجاءت الحرب الثانية 2003 في العراق، واليوم في لبنان لتعيد هدم ما اعيد بناؤه فيهما. فهنا، في العراق، كانت دعوى"اسلحة الدمار الشامل"- التي لم يقفوا لها على اثر، ولم يحاسب المجتمع الدولي اميركا على كذبها - سبباً في اعادة تدميره. وفي لبنان كانت الخطة معدّة وليس هناك سوى موعد تنفيذها، وكان... فبدأت الحرب على كل ما على الارض: من الأثر الى البشر. وفي البلدين: لن تتوقف الحرب على لبنان حتى تحقق"كامل اهدافها"... ولن"تنسحب"قوات الاحتلال من العراق حتى"تنجز كامل مهماتها"! ولا عجب في هذا التوافق، ففي الحرب على البلدين اتبع الاسلوب ذاته: ففي العراق لم تُبق اميركا في حربها عليه شيئاً قائماً على الارض: من معالم الحياة والثقافة والحضارة، الى احراق المؤسسات والمكتبات ودور الكتب والجامعات، الى نهب المتاحف وجعل المواقع الاثرية فيه، من سومرية وبابلية وإسلامية، الى"مواقع عسكرية"لقواته، امعاناً في تدميرها وتخريبها... وفي لبنان تأخذ الصهيونية في حربها عليه الحركات ذاتها، وتتبع النهج نفسه: فلبنان الذي نهض من جديد ليمارس دوره الثقافي العربي المتقدم لا بد من اعادته الى حالة الانكسار، وذلك بتدمير كل شيء فيه، وعدم الابقاء على شيء فيه... وأهم ما استهدف، كما في كل مرة، هو الانسان. وكما فتح"باب الهجرة"امام العراقيين، من علماء وأساتذة جامعات ومفكرين - فضلاً عن"عمليات التصفية"في الداخل - لإفراغه من العقول التي يمكن ان تسهم في اعادة بنائه... أتوقع ان تفتح الابواب امام اللبنانيين، كما فتحت قبل اليوم، لإفراغ هذا البلد من"عقوله الحية". فالثقافة، والحضارة، والانسان الحضاري هي مما لم يعد مسموحاً ان ينهض في كلا البلدين: لبنانوالعراق تمهيداً لتمرير مشروع"ِشمعون بيريز"عن"الشرق الاوسط الكبير". وكما تجري اليوم محاولة احتلال لبنان، تتم التهيئة لإعادة احتلال العراق، وستكون البداية من بغداد. اما الذين يتخذون"موقف التغافل"، او يظهرون في"ثياب المغفلين"فلهم كراسيهم. ولكن من يضمن لهم"عدم تحريكها"في وقت قريب... بعد الانتهاء من"المهمات الحالية"؟!