منذ مدة غير بعيدة انطلق من الغرب - الولاياتالمتحدة - صوتان، بعثا من الصدى وردود الفعل في الشرق والغرب، ما لم يعرف مثله لسواهما. وما أثاره هذان الصوتان لدى كثيرين من المشتغلين بالهم الثقافي في البلاد العربية قد يكون أكثر هذه الردود انفعالاً وأقربها للرفض والمقاومة، إن لم يكن للمصادمة. هذان الصوتان هما مقال كتبه صموئيل هنتنغتون، الاستاذ في جامعة هارفرد، ونشر في مجلة "الشؤون الخارجية الأميركية" في صيف عام 1993، والصوت الآخر أطلقه فرانسيس فاكوياما نائب مدير تخطيط السياسة سابقاً بوزارة الخارجية الأميركية في كتابه ذي العنوان "نهاية التاريخ وتطور البشر". الصوتان ينطلقان من موقفين مختلفين تمام الاختلاف، ويطرحان رؤيتين متغايرتين تمام المغايرة. هنتنغتون يرى ان العالم في وقته الحاضر - بعد اضمحلال الحرب الباردة بين الشرق والغرب - سيُعاد تشكيله في هيئة جزر معزولة تفصل بينها تخوم حضارية بما تحمله هذه الحضارات من ثقافات متباينة، وهذا التباين في الثقافات سيبقي هذه الجزر متفاصلة وربما متقاتلة. وتوقع أنه لن تكون هناك موجة حضارية واحدة ستغمر هذه الجزر ولا ثقافة ستنسخ كل الثقافات. ولأن الثقافات ستتأصل وتتجدد - وقد عدّ سبع أو ثماني حضارات - فقد دعا في نهاية مقاله جميع هذه الحضارات الى التعايش، ودعا الغرب لتفهم الدواعي الفلسفية والنفسية لثقافات الأمم الأخرى حتى يمكن التعايش بينها. أما فوكوياما فيرى ان النظام الغربي الليبرالي بشقيه السياسي والاقتصادي هو نهاية المطاف في تطور التاريخ، وأن البشر يتجهون - وان بدرجات متفاوتة من سرعة الحركة - الى هذا النمط الذي تبين أنه - مع ما يشوبه من شوائب - أصلح الانماط في انشاء البناء الحر السياسي والاجتماعي والاقتصادي للمجتمعات. وعلى رغم ما بين وجهتي هذا النظر من تباين فقد أثار كل منهما أصداءً لم يخفت أثرها في الوقت الحاضر. صموئيل هنتنغتون أستاذ في جامعة هارفرد، وقد يكون من ذوي الرأي المسموع في دوائر صنع القرار في الادارة الأميركية، إلا انه لا يختص بهاتين الصفتين وحده، إذ يشاركه فيهما مئات أو آلاف الأفراد في الجامعات الأميركية وفي مواقع التأثير. ومقاله ليس نموذجاً لعمق التحليل والتعليل، كما أنه ليس مثالاً لبحث الأكاديمي أو احاطة أستاذ جامعي، ومن المؤكد أنه ليس أكثر ما كتب احتفاءً بمادته وتوثيقاً لدعواه. ومن المحتمل أنه قصد من هذا المقال أن يكون انطباع شخص لا بحث عالم، وتوقع حدث لا كشف حقيقة. محور ما كتبه هنتنغتون أن تباين الحضارات بما تحمله من ثقافة وليست الاختلافات الدينية أو المذهبية أو العرقية أو الاقتصادية سيكون سبب النزاعات والاقتتال بين الأمم، ومع ان ما جاء به من مقدمات لا يُسلم له بصحتها، فقد بنى عليها نتائج ليست هي المعطى الضروري لهذه المقدمات. وتهافت أطروحة هنتنغتون يأتي من وجوه عدة: الأول: انها تصادم الواقع في التاريخ القديم والحديث، فحروب المئة عام، والحربان الكونيتان الأولى والثانية، والحرائق المشتعلة بين الطوائف المذهبية والسياسية في أفغانستان والهند وباكستان، وحرب العراق وإيران، ومقاومة الكويت اجتياح العراق، والصراع الذي لا ينتهي في ايرلندا، ومقاومة تايوان الحاقها بالصين، وخذلان العالم الاسلامي بسكانه البليون ودوله التي تزيد على الخمسين، بصمته المذل وشلله المميت في قضية القدس، كل ذلك ينهض شاهداً لا يُدحض على ان أطروحة هنتنغتون ليست دليلاً على صدام الحضارات لكنها نموذج على مصادمة الواقع، وتوقف الحرب الباردة أو انكسار حدتها لمدة لا تزيد كثيراً على عقد واحد أقصر من ان تعطي من النبوءات ما يمكن الوثوق به والركون اليه. الثاني: انها ليست نتيجة حتمية بل ليست منتظرة أيضاً. إن خفوت أو انزواء الحرب الباردة بين الشرق والغرب - وقد يكون خفوتاً موقتاً - ولا حتى انهيار الستار الحديد وسور برلين، يكون مدعاة لاستدعاء عداوات أخرى تُلتمس بواعثها في تمايز الحضارات. الثالث: ان أطروحة هنتنغتون تنطوي على شيء من التناقض، فبينما يقول "إن أهم النزاعات في المستقبل ستحدث على امتداد خطوط التقسيم الثقافية التي تفصل بين الحضارات"، نجده يقول في موضع آخر "إن عملية التحديث الاقتصادي والتغيير الاجتماعي في كل أنحاء العالم تفصل الشعوب عن الهويات المحلية القديمة والراسخة كما تضعف الدولة - الأمة كمصدر للهوية". الرابع: من باب الاستنتاج الخاطئ القول إن الذي جمع بين دول التعاون الاقتصادي العشر هي الثقافة المشتركة، فليست اللغة ولا العرق ولا التاريخ المشترك - وهذه أهم العناصر المكونة للثقافة - هي التي جمعت بين تركياوايران. وما زالت ذاكرة كل من الدولتين مثقلة بذكريات لا تريح، ومن السذاجة أن يدرج هنتنغتون بيع الصين شيئاً من الأسلحة لبعض البلاد العربية في جدول القرابة بين الكونفوشيوسية والاسلام. الخامس: دعوى هنتنغتون ان صيرورة العالم الى حيز تقاربت أبعاده بسبب وسائل النقل والاتصال سيؤدي الى النزاع وصدام الحضارات، يقابلها احتمال أقوى هو ان تلاقي هذه الحضارات، يؤدي الى تفاعلها وتمازجها، والولاياتالمتحدة مثل واضح الدلالة على العملية الفيزيائية من امتزاج أو اختلاط الغازات والسوائل اذا أزيلت الحواجز بينها، واذا وجد تنازع فيجب ان تلتمس عوامله في غير الاختلاف الحضاري. السادس: انطوت أطروحة هنتنغتون على اقرار بعجز حضارة الغرب عن اكتساح الحضارات الأخرى، وأن هذه الحضارات ليست ذات وجود حي فقط بل ذات وجود فاعل سيصوغ العلاقات بينها وبين الغرب، وهذا أمر يتوق الى تقريره وإثباته أصحاب الحضارات الأخرى. ومهما جاءت مقدمات هنتنغتون مشكوكاً في صحتها فقد بنى عليها نتائج لا يخالفه فيها أهل الحضارات الأخرى في كون حضاراتهم ذات حضور وأثر. السابع: مع ما جاء في مقال هنتنغتون وما حشده من ظواهر ظنّها شهود إثبات ما يشي بتقريره للتصادم، فقد ختم مقاله باعتراف ودعوة، اعتراف بأنه "لن تكون هناك حضارة عالمية واحدة، بل عالم يضم حضارات مختلفة، ينبغي أن يتعلم كل منها طريقة التعايش مع غيرها، ووجوب بذل جهد لتحديد العناصر المشتركة بين الحضارات الغربية وغيرها من الحضارات، ودعوة الى الغرب ان يطور فهماً أعمق للفروض الدينية والفلسفية الأساسية الكامنة وراء الحضارات الأخرى والطريقة التي ترى بها شعوب هذه الحضارات مصالحها". مقال هنتنغتون لا يعدو أن يكون - على ما فيه من خطأ أو صواب - رأياً لصاحبه، إذ ليس ما كتب بياناً سياسياً أصدرته الدولة التي ينتمي اليها، ولا موقفاً يتبناه مجلس الكونغرس فيها، ولا شيئاً يماثل ذلك صدر من دوائر الغرب، لذلك فإن ما أثاره هذا المقال من صدى وردود فعل في كثير من الأوساط ولدى كثير ممن يحتلون المقاعد المتقدمة في المنتدى الثقافي العربي، أمر يصعب تحليله أو تعليله. لقد اختزل كثير من الأقلام والأصوات والمحاورات في هذا المقال مواقف الغرب ونياته ودوافعه، وجعلت منه كشفاً عن مستور. ومن التبسيط الذي يبلغ حد الضحالة أن يفسر ما أثاره هذا المقال بنشره في مجلة "الشؤون الخارجية الأميركية"، أو أن الكاتب ممن لهم صلة بدوائر السياسة الأميركية، إذ ان هناك من أمثاله وفي الموقع نفسه ألوفاً. من المرجح أن ما أوجد هذه الإثارة هو ما يسكن بعض النفوس والعقول من تحفز صنعته ونمّته عجرفة القوة لدى القوى، أو مهانة الضعف لدى الضعيف. وهو تحفز يجعل صاحبه يتتبع كل شاردة ويتسقط كل واردة لجعلها لبنة في بناء ما يريد التدليل عليه. من الناحية الفلسفية، لا تمثل أطروحة هنتنغتون قضية في تعريف المنطق القديم ولا في ما يراه الوضعيون المحدثون فضلاً عن الذرائعيين، إذ ان هذه الأطروحة - وهي أن الشيء الذي سيكون سبباً للتصادم أو الاقتتال بين الأمم هو اختلاف حضاراتها بما تنطوي عليه من ثقافة - لا يترتب على صدقها أو كذبها تغيير في الواقع، وإذا وقع صدام أو اقتتال فليس من المحتم أن تختلف حدته أو اتساعه باختلاف بواعثه. وقد عرف التاريخ ان قتل رجل واحد أثار حرباً كونية، أي أن هذا الحادث مصرع الأرشيدوق فرناندز فرديناندز هو الشرارة التي أشعلت النار، مع الاعتراف بما سبق ذلك من أسباب هيّأت للحرب، وأن طموح فرد أو جنونه أشعل حرائق في كل أطراف الأرض، فالأمر تحكمه قاعدة "فطعم المنايا كيفما ذقت واحد"... لماذا - إذاً - احدث مقال واحد كل هذه الضجة وأثار كل هذا الصدى؟ بعد نشر مقال هنتنغتون كتب في الرد عليه أو مناقشته كثير من المقالات والكتب ليس آخرها ما كتبه ألفرد هاليداي عن خرافة المواجهة بين الغرب والإسلام. ومن بين ما كُتب رد فؤاد عجمي الاستاذ في جامعة جون هوبكنز، أكثر هذه الردود مدعاة للإثارة وأجدرها بالمناقشة. تنبأ هنتنغتون بتقسيم الكرة الأرضية تقسيماً حسابياً القى وحدات، القاسم المشترك بينها حضارة كل أمة بما تحمله من أديان وعادات وتقاليد. أما فؤاد عجمي فقد جاء رده المتعالي الضاج معلناً هزيمة كل الثقافات وموتها، وحياة وسيطرة ثقافة الغرب، فهو يُعنف هنتنغتون لأنه "لا يعرف ان الغرب يشكل ويعيد تشكيل أكثر الحضارات نأياً، وهو الذي يُعلم الطريق الجديدة. ويزعجه الاّ يدرك هنتنغتون، ان الحضارات التي تحدث مقاله عنها قد دفنت حية - وهي الحضارات الاسلامية والسلافية والأرثوذكسية... الخ خلال الحرب البادرة - وان الهنود لن يتخلوا عن الدولة العلمانية "الغربية" لمصلحة النقاء الهندوسي. والتقاليد لا تصبح أعلى صوتاً إلا عندما تتحطم. والأصولية الاسلامية ليست سوى علامة ذعر وارتباك وإحساس بالذنب من ان الحدود مع الآخرين قد تم عبورها، أكثر منها علامة على الانبعاث، والاتجار بالتقاليد ليس برهاناً على ان هذه الحضارات الواقعة خارج الغرب باقية لم تمس، أو أن هوساً حضارياً بعيد المدى ضد الهيمنة الغربية مثل الثيوقراطية في ايران قد يفشل في فصل مجتمعه عن حضارة الغرب، وذهبت أدراج الرياح أحلام القيام بثورة للجامعة الاسلامية، ولم تستطع الثورة في السودان أن تحقق سوى المزيد من الافقار والدمار، وتركيا لن تضل الطريق وتعطي ظهرها وتهرع وراء إغواء امبراطوري في الميادين التي تم تدميرها في آسيا الوسطى. فالاشياء والطرق التي نقلها الغرب الى الباقي أصبحت هي أشياء العالم وطرقه، وباتت الفكرة العلمانية ونظام الدولة وتوازن السلطات وثقافة ال"بوب" التي تقفز فوق الأسوار والحواجز الجمركية جزءاً من النسيج الداخلي لأكثر الأماكن نأياً. حاول هنتنغتون أن يرسم عالماً متفاصلاً مكوناً من وحدات، من المحتمل ان لم يكن من المحتم أن تتنازع وتصطرع بسبب مخزوناتها المتباينة من الثقافة. أما فؤاد عجمي فقد أزعجه ان ينفرد نيتشه باعلان موت الله - تعالى الله عما ذكر - فأراد ان ينافسه بإعلان موت الإنسان، كل الانسان عدا إنسان الغرب، وانطفاء كل الحضارات عدا حضارته. وهكذا، وبانبهار المريد بشيخه العارف بالله الذي يراه مستطيعاً صنع الخوارق وآتياً بالمعجزات وتطوى له الأرض كان رد عجمي على صاحبه، وإذا كان في ذلك ما يدعو الى الغرابة والاستشكال، فإن الأغرب من ذلك والأدعى الى المساءلة ألاّ يلقى ما كتبه عجمي سهماً واحداً من السهام التي وجهت الى مقالة هنتنغتون. ولعل ما استدعته هذه المسألة ان ينطلق صوت ثالث غطى مساحة أكبر من المعارف والاستشهاد وان كانت نبرته أقل حدة، ذهب هذا الصوت الى عكس ما ذهب اليه مقال صدام الحضارات ورأى ان كون الحضارات عامل مصادمة أمر قد يجد له مكاناً في بعض العقول ولكن لا يجد له موضعاً في الواقع. هذا الصوت هو صوت أحد أعلام الغرب المشتغلين بالشؤون الشرقية وهو فرد هاليداي أستاذ العلاقات الدولية في مدرسة لندن للاقتصاد. London School of Economy. الشيء الذي يدعو للتأمل والاستشكال أنه لا مقال فؤاد عجمي بما أطلقه من شحنات انفعال الاستلاب ولا كتاب هاليداي بما فيه من شمول للمواقع والأحداث التي جاءت إسقاطاً لأطروحة هنتنغتون، كان لهما من الأثر والصدى ولو جزء يسير مما قوبل به مقال صدام الحضارات. ما كتبه عجمي على رغم ما فيه مما يصدم الحس لا يشعر كثيراً منا بوقع الصدمة به، لأنه وان كان بضاعة صدرت من الخارج فإنه مادة تخلقت في حاضناتنا الداخلية. وما كتبه هاليداي لا يأتي تجاهله من جهة مصدره، ولكن من جهة أن رؤية صاحبه لا تقدم الى من يبحث عن فجاجة المبارزة ما يطمح إليه. وقد يكون كتاب فوكوياما "نهاية التاريخ" أظهر قصائد الغزل التي حُبِّرت في مفاتن النظام الليبرالي الغربي بشقيه السياسي المتمثل في الديموقراطية، والاقتصادي الذي تحكمه حركة السوق، على ان ذلك لا ينفي ان الكتاب غابة كثيفة من النقول والاستشهادات، والاستظهار بآراء الآخرين والنقاش الجاد. ومن بين من ينقل عنهم يظهر هيغل وفلسفته عن التاريخ أبرز من اعتمد عليهم وتأثر بهم. وفوكوياما يرى - كما يرى هيغل - ان حركة التاريخ غائبة ويستدل على ذلك بكشوف العلم الطبيعي، لجهة ان هذه الكشوف ذات طبيعة تراكمية بنائية غير قابلة للعكس، فليس مما يعقل ان ينكص البشر على أعقابهم رافضين ما أفاضه العلم عليهم من هبات، فهذه الكشوف تمثل بيانياً بخط مستقيم ذي ميل موجب، ولأن كشوف العلم وما تسفر عنه وتنتجه من تقنية ذات أثر حاسم في صوغ البناء الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للأمم، فلن يكون المسار العلمي وحده المنفرد بالطبيعة الغائية، بل ان التاريخ البشري نفسه يسير الى غاية. ألح المؤلف وأطال في دافع واحد من دوافع البشر جعله - كما رأى ذلك هيغل وكوجيف - الحاكم للإنسان الصانع لسلوكه، هذا الدافع هو الرغبة في تقدير الآخرين له والاعتراف به، وهو ما سماه الثيموس، أي تقدير الآخرين واعترافهم بموهبته وتفوقه على سواه، وهو يتفق مع هيغل على ان هذا الدافع هو السبب الذي جعل الإنسان الأول يدخل في معارك دموية يخاطر فيها بحياته لإثبات تفوقه على من يقارع. وكما يقع الالكترون في فراغ يحد بين فريقي جهد يتعذر عليه اجتياز أي منهما لم يأت فوكو بجديد سوى أن حصر نفسه بين فريقي ذلك الجهد الذي يمثل احدهما هيغل ويمثل نيتشه الجهد الآخر. ونيتشه في تطرفه الضاج يرى ان غريزة الطموح وعشق التفوق الى "ثيموس" همل المحرك للتاريخ، وان حضارة الإنسان ليست سوى المحصلة النهائية لهذه الغريزة، ويوم تنطفئ سيصل الإنسان الى الموت الحضاري قياساً على الموت الحراري، ويرى نيتشه ان هذه الغريزة لا تقف عند حد لأن صاحبها لا يشعر بالإشباع لاعتراف من دونه به، إذ الذي دونه - اي الشخص المغلوب - ليس مكتمل الإنسانية، والأول يبحث عن الاعتراف ممن يماثله، ولن يصل الى ذلك، إذ لو وصل لسقطت المماثلة، وعلى هذا النسق من الصراع الدائم تتألق - في نظر نيتشه - الحضارات. ومع ان هيغل سبق نيتشه في ما أعطاه لهذا الدافع من قيمة محددة لمنحنى التاريخ، إلا ان ما كتبه هيغل في هذا الشأن يدل على تذبذب رأيه في أنه يمكن اشباع هذه الغريزة إذا وصلت المجتمعات البشرية الى حال الأواني المستطرفة ذات المستوى الواحد - وهذا ما مال اليه فوكوياما ورأى في النظام الليبرالي الغربي التطبيق البشري لهذه الحال - ومن جانب آخر، ألا يرى هيغل للإنسان منفذاً للتضحية والتطهر وتحقيق الذات الا الحرب، لأن الحرب - كما يرى - تحمل على بذل النفس، وإذا كان هذا الرأي لا يستغرب على رجل مثل نيتشه في طبيعته المتشظية القلقة، فإنه أمر يحتاج الى التأمل في ان يغفل هيغل وجوه النشاط الأخرى في الحياة التي يمكن ان يصل منها الفرد الذي يتوهج داخله الطموح الى التفوق الى مبتغاه. ولن يكون الإنسان السوي لين العريكة ساقطاً في مستنقع الملذات التافهة - كما يقول - إذا كف عن قتل أخيه الإنسان، فالحروب ليست شيئاً سوى الإعلان الضاج الذي يذكر الإنسان بما لا يزال يسكنه من بقايا وحشيته، وليست طقوس إعداد الشاي أو تنسيق الزهور عند اليابانيين أو سواهم، ولا تسلق الجبال أو الانزلاق على الجليد، أو المباهج التي تقدمها لبعض النفوس الأقدام المتسابقة للكرة، هي المنفذ الأوجه أو الأقوى جاذبية لمن يقلقه هتاف ال"ثيموس" في داخله، اذ ان هذه الغريزة يمكن ان تجد اشباعها في مجالات أخرى من مجالات النشاط البشري وأرفعه وأعلاه الانتصار على الطبيعة بكشف أسرارها وتطويعها لمنفعة الإنسان، فالعروش التي شادها العقل في نزقه وطفولته لأناس سماهم الأباطرة والقياصرة والفاتحين تهاوت وصارت مدعاة للمسبة والشنار وصارت أدلة التاريخ على هوان الإنسان وتضعضع مداركه، ولم تبق في حال استقرار وثبات سوى تلك العروش التي بناها جلال العقل ووقاره لأفراد جاءت عظمتهم من انتصارهم على الألم لا على الإنسان، ومن كشف أسرار الكون لا كشف عورات البشر، فقمم من أمثال نيوتن وباستور واينشتاين بلغوا أعلى مراتب الاعتراف من المستويات الأعلى للإنسان، وإذا كان الحوار مع الطبيعة شيئاً لا ينتهي، ولكنه يمتد امتداد تراكمات الكشف العلمي الذي يبدو غائباً، فإن القول إن هذه المرحلة - مرحلة النظام الليبرالي - هي نهاية المطاف، فيها شيء من عدم الاتفاق مع غائية الطبيعة التراكمية للكشف العلمي، ولعل هذا ما غاب عن ذهن فوكوياما. * كاتب سعودي.