قلّما أحزنني موتُ كاتب لا يقضي انتحاراً أو قتلاً أو جنوناً. والكتّاب"الخافتون"فقط هم القادرون على نزع عينيّ عن صفحات مؤلّفاتهم وزرعها فوق سطور تروي سِيَرهم الذاتية. لذا، فلن يحزنني موتُ نجيب محفوظ وقد قضى في التسعين من عمره، وقد رحل محاطاً مكرّماً معززاً ومعترفاً به عربياً وعالمياً. لكن، طالما كان اسم نجيب محفوظ، في ذاكرتي، مقروناً باسم شخصية روائية. ولا أدري لماذا، كلما تفكّرت به، امتزجت صورته بصورة أحمد عاكف أو أحمد أفندي، بطل رواية"خان الخليلي"، موظف الدولة الأربعيني العازب،"الدرجة الثامنة في محفوظات وزارة الأشغال"، المدمن على القراءة إدماناً قاتلاً وإن كانت"قراءة لا تعرف التخصّص ولا العمق"، المحتمي بيأسه وقنوطه لتصوّره لنفسه عبقرية منعتها ظروفُه العائلية من التفتق، والمصمّم على رغم ذلك وبعناد غريب على اختبار مجالات العلم والأدب والسحر لإثبات عبقريته تلك وبلوغ مراتب الشهرة والمجد... لا ينبغي الخلط بين كاتب وشخصياته، أعرف. لكنني أحبّ أن أتذكّر محفوظ هكذا، شخصية في منطقة الشكّ والقلق والتساؤل والوخز. وأحبّ أن أتفكّر به كاتباً"خافتاً"يؤمّ حياته الوظيفية صباحاً ويكتب بعد الظهر، ولا يحيد عن مسافة رسمها لنفسه فيشبه في ذلك كاتباً برتغالياً أعشقه يدعى بسّوا ظل يكتب حتى مماته، وحيداً ودونما قرّاء. وأحبّ ما يثيره فيّ اسمُ محفوظ من عوالم هي في بؤرة الاختلاط بين الوهم والواقع، الخيال والحقيقة، الحروف والصور والمشاهدات. أحبّ ما يحضر في اسمه من شوارع ومقاه وبشر وممثلين وتاريخ وأفلام وقصص، وما يتزاحم فيه من أناس من أبناء الطبقات الوسطى والحرفيين والبغي والمتسوّلين والمثقفين والموظفين وأرباب السلطة والفقراء والطلاب... ولو قيّض لي أن أقول كلمة وحيدة في نجيب محفوظ لقلت: سعة. بيد أن هذا كلّه ما زال في حوزتي، فلمَ تراني أحزن لرحيل معلّم كبير؟!