سألت الأستاذ نجيب محفوظ: كيف وافقت أخيراً على نشر مقالاتك الفلسفية المبكرة في كتاب؟ ذكّرته بأنه رفض إصدارها وجمعها في كتاب بعد حصوله على جائزة نوبل 1988 وأن رفضه كان قوياً ولا يقبل المناقشة. قال لي بهدوء: الإلحاح الإنساني يفعل المعجزات. كان رفضي نهائياً. ولكنني عندما رفضت لم أعمل حساباً لذلك الاختراع البشري الذي اسمه الإلحاح ومعاودة طرح الموضوع أكثر من مرة. كان نجيب محفوظ قد قال لي ان سبب رفضه إعادة نشر مقالاته الفلسفية المنشورة في صدر شبابه أن الدنيا تطورت وخرج إلى الوجود كتاب متخصصون في الفلسفة. أو كتابات كتبها مشتغلون بالفلسفة. لا بد أنهم تجاوزوا هذه الاجتهادات المبكرة له، التي ربما كانت أقرب إلى اجتهادات الهواة. هل من المعقول إعادة نشر هذه المقالات بعد أن عرفنا إجتهادات زكي نجيب محمود وفؤاد زكريا وعثمان أمين؟ لا أعرف إن كان هذا الإلحاح الذي يقصده نجيب محفوظ هو إلحاح الناشر محمد رشاد أم فتح العشري الذي اعدها للنشر أم محمد سلماوي الذي عرف انه تدخل في الموضوع؟ هذه المقالات الفلسفية التي صدرت في كتاب كان يجب أن تهدى إلى روح الدكتور عبدالمحسن طه بدر. فهو الذي بحث عنها واكتشفها، عندما كان يعد كتابه نجيب محفوظ: الرؤية والأداة. وهو الكتاب الأول من مشروع كبير. لم يمهل القدر عبدالمحسن طه بدر لكى يكمله. وهو أيضاً الكتاب الذي لم يرض عنه نجيب محفوظ رضاً كاملاً. وظلت لديه تحفظات غير معلنة عنه. خصوصاً في حياة صاحبه ومؤلفه. ومن المعروف أن نجيب محفوظ درس الفلسفه في آداب القاهرة. وهناك عبارة مأثورة له يكررها كثيراً، يقول فيها: - مما لا شك فيه، أن الفلسفة أثرت كثيراً في تكويني. وفي أفكاري وفى تربيتي عموماً. وقد اهتممت برؤى الفلاسفة المتعددة للعالم، من دون ان أنتمي لواحدة من هذه الرؤى. وعلى رغم ذلك فلا أقدر أن أنفي تأثري بالكثير من الفلاسفة. وانني أحببت البعض منهم حباً شديداً. مثل ديكارت وكانت وشوبنهور وسارتر وألبير كامو. وإن كان الإنسان لا بد وأن يلاحظ أن الفيلسوفين اللذين كان معنياً بدراستهما في هذه المقالات المبكرة وهما: ارسطو وأفلاطون لا يردان ضمن الأسماء التي أشار إليها. ثم هل يمكن اعتبار ألبير كامو فليسوفاً؟ أم إنه روائي وكاتب مسرحي مبدع كانت له وجهة نظر واجتهاد في الفلسفة الوجودية التي نسبت الى جان بول سارتر. ورتبطت باسمه. ومن المعروف أيضاً أن نجيب محفوظ حاول السفر إلى فرنسا من أجل عمل دراسات عليا في الفلسفة. لولا أن سوء تفاهم مع الموظف المسؤول عن البعثات في جامعة القاهرة أدى إلى عدم حصوله على المنحة لأن نجيب محفوظ ذكر اسمه الثنائي فقط، وهو اسم مركب ولم يكتب بقية الاسم. ما جعل الموظف يعتقد انه مسيحي. ولأن هناك طالباً مسيحياً كان حصل على منحة في اليوم نفسه، سابقاً بذلك نجيب محفوظ، أوقف الموظف منحة نجيب محفوظ! لا أعرف هل كان في ذلك فائدة أم ضرر لمحفوظ: لقد خسرنا باحثاً في الدراسات الفلسفية العليا في فرنسا، ولكننا كسبنا روائياً حصد نوبل. "حول الأدب والفلسفة" كتاب نجيب محفوظ الجديد، يضم 21 مقالاً. المقال الأول "احتضار معتقدات وتولد معتقدات" منشور في تشرين الأول أكتوبر 1930. كان نجيب محفوظ في التاسعة عشرة من عمره وقتها، ولم يكن أصدر كتابه الأول، وهو ترجمة كتاب مصر القديمة. ولا كان أصدر كتابه الإبداعي الأول. وآخر مقال في هذه المقالات هو عبارة عن رسالة مفتوحة إلى سيد قطب حول كتابه "التصوير الفني في القرآن"، منشور في مجله الرسالة بتاريخ 23/4/1945. وكان نجيب محفوظ في الرابعة والثلاثين من العمر. نشر محفوظ من هذه المقالات 12 مقالاً في "المجلة الجديدة"، وثلاثة مقالات في مجلة المعرفة، ومقالين في "السياسة الأسبوعية"، وثلاثة مقالات في "الأيام"، ومقالاً واحداً في "الرسالة". ومن بين هذه المقالات 5 مقالات فقط عن الفلسفة، والمقالات المتبقية عن الأدب والفن وعلم النفس، واعتقد أن من كان يدرس الفلسفة في ذلك الزمان البعيد كان يدرس معها علم النفس. قال لي نجيب محفوظ كنا ندرس علوم الفلسفة ومنها علم النفس والمنطق وعلم الاجتماع. وكل علم من هذه العلوم استقل بقسم خاص به. ولكن في زمنه القديم كانت كلها تدرس تحت مسمى علوم الفلسفة. كل ما يذكره نجيب محفوظ عن المجلات التي نشر فيها مبكراً أن مجلة المعرفة كان يصدرها الأستاذ الاسلامبولى، وإنها كانت مجلة محترمة يكتب فيها الدكتور مصطفى عبدالرازق أحد أساتذة نجيب المبكرين، وشقيق الشيخ على عبدالرازق صاحب "الإسلام وأصول الحكم"، وعمل نجيب محفوظ في مكتبه سكرتيراً برلمانياً عندما أصبح وزيراً للأوقاف. المجلة الجديدة يتذكرها جيداً، كان يصدرها سلامة موسى الذي لعب دوراً جوهرياً وحاسماً في بدايات نجيب محفوظ، بل ويظهر في "الثلاثية"، باعتباره أستاذ كمال عبدالجواد بطل الثلاثية الذي جسد الأزمة الروحية لنجيب محفوظ في مراهقته وشبابه. ولم يكتف بنشر المقالات لنجيب محفوظ بل نشر له أعماله الأولى. وكان من عادة سلامة موسى أن يوقف مجلته في شهرى الصيف "يوليو / تموز وأغسطس / آب" ويصدر بديلاً منها عملاً أدبياً، حتى يحصل على إجازته ويستمر في الصدور في الوقت نفسه، وهكذا أصدر سلامة موسى أعمال نجيب محفوظ المبكرة: ترجمته لمصر القديمة، ورواية تاريخية مبكرة. السياسة الأسبوعية يتذكرها نجيب محفوظ، كان يصدرها الدكتور محمد حسين هيكل، اما جريدة الأيام فلا يتذكر عنها أي شيء. قال نجيب محفوظ من قبل انه كان يكتب المقالة قبل أن يعرف طريقه للرواية، وهذا الكتاب يكشف أن هناك بعض المقالات منشورة عام 1945. وفي هذا الوقت كان نجيب محفوظ نشر الكثير من اعماله الروائية والقصصية المبكرة. كان أصدر كتابه المترجم، ومجموعته القصصية الأولى ورواياته التاريخية الثلاث، وأولى رواياته الواقعية "القاهرة الجديدة". أذكر له تواريخ نشر الروايات الأخيرة، وأقول له إنه في الوقت نفسه كان مستمراً في كتابة المقالات ونشرها، فكيف حدث هذا التناقض؟ بدلاً من أن يقول انه يشك في التواريخ المدونة على المقالات يقول ان المقالات الأخيرة لا بد انها تدور حول الأدب وقضاياه، الذي كان إنحاز له بصورة نهائية. المقالات الأخيرة تدور حول: الفن والثقافة، مقال عن نجيب الهلالي تشرين الثاني نوفمبر 1943، مقال عن العبقرية، ومقال عن الفن والتاريخ 21 كانون الأول ديسمبر 1943، وهو مقال عن أم كلثوم والشيخ زكريا أحمد. والمقال الأخير كما قلنا عن كتاب التصوير الفني للقرآن الكريم لسيد قطب. وهو على شكل رسالة مفتوحة من نجيب محفوظ إلى سيد قطب منشور في نيسان أبريل، ،1945 وكان سيد قطب من أوائل الذين بشروا بموهبة نجيب محفوظ بصورة مبكرة. أم كلثوم نجيب محفوظ كان يبدي دهشته عندما كنت أذكر له عناوين هذه المقالات. دهش عندما قلت له: إنك كتبت عن نجيب الهلالي. وتصاعدت دهشته عندما قلت له ان هناك مقالاً عن أم كلثوم. ووصلت الدهشة إلى ذروتها عندما قلت له ان هناك مقالاً عن الشيخ زكريا أحمد. وحينما سأل عن مقالات نشرها، في هذه الفترة نفسها عن الفن التشكيلي، وعن أعلام هذا الفن سواء فى العالم أم في مصر. قلت له ان هذه المقالات لا وجود لها. وعلى رغم أن هذا الكتاب عبارة عن مقالات جُمعت بعد أكثر من ثلثي قرن على نشرها متفرقة في أكثر من مطبوعة، وقد نشرها نجيب محفوظ على مدى 15 سنة، إلا انه من السهل أن يلمس الإنسان روابط خفية تربط بينها، وخيوطاً لا مرئية تجمع بين ما تقوله هذه المقالات، ذلك ان فيها محاولة مبكرة للربط بين الفلسفة والإبداع الأدبي. وهي المحاولة التي استفاد منها نجيب محفوظ، حتى لو لم يقصد إلى ذلك. جعلت وراء أحداث رواياته أسئلة كبرى عن الوجود والكون. تتبدى وتطرح وتظلل المشهد الروائي، وهو ما ميز إبداع نجيب محفوظ الروائي عن أبناء جيله. وإلى حد كبير الأجيال التي جاءت بعده. خلف الحدث الروائي سؤال كبير من أسئلة الكون الكبرى، وهو ما مكن هذه الروايات من الاصطدام مع ثوابت الموقف الفكري السائد والعام. العقل والفرد والحرية في هذه المقالات اهتمام مبكر بفكرة العبقرية الإنسانية. باعتبارها إمكاناً للفرد في إطار جماعة إنسانية معينة. ثمه تركيز على العقل والإدراك من خلال كتابة تبدأ من الملاحظات الخاصة بالكاتب ثم تعرج على القراءات. إنه يدور حول العبقرية الكامنة في أعماق الفرد، فيكتب عن الحب والغريزة والإدراك. واعتقد انه حتى سيكولوجية الحيوان يتوقف أمامها. أنظر إلى الأدباء المعاصرين له الذين كتب عنهم. العقاد: رجل البداهه. يعود نجيب محفوظ في مقال آخر إلى فكرة العبقرية من جديد. وتحت عنوان حرية العبقرية يكتب: العبقرية قوة سامية تتسم بالخلق والإبداع ولكنها لا تحيا إلا في جو الحرية المطلق. ولا يعنى هذا انها لا تعترف بالقوانين ولكن قانونها مستمد من ذاتها. والواقع ان من التعسف الذميم أن نطالب الكاتب بمعالجة ما نحب من الموضوعات. فهو حر في ما يكتب. والقارئ حر في ما يقرأ. إلا أن حرية الكاتب - كما قلنا - لها قانونها الذاتي، فهو يتلقى بحواسه التيارات التي تعمل في المجتمع الذي يعيش فيه. ما ظهر منها وما بطن، وهو يستهدي بحواس حرة في اختيار موضوعاته. فتأتي معبرة عن واقع بيئته أو آمالها أو أحلامها البعيدة. جملة القول ان الحرية للعبقرية واجبة، وإنها تستهدي بقوانينها الخاصة وإنها لا تضل سبيلها. يكمل نجيب محفوظ كتابته عن أدباء عصره. طه حسين: رجل الذكاء. وسلامة موسى: رجل التفكير العلمي. نجيب الهلالي: رجل النهوض بالشعب. أم كلثوم: حنجرة كاملة المراتب. زكريا أحمد: الوحيد الذي يستحق صفة الفنان بمعناها الدقيق. سيد قطب: ارتفع إلى مرتقى لم يصله ناقد آخر. أما أنطون تشيكوف وهو الأديب غير المصري الوحيد الذي كتب عنه. فهو الكاتب الذي تثير الحياة الواقعية للإنسان سخطه ورحمته. ينقل عن تشيكوف قوله: لست حراً ولست محافظاً ولست مصلحاً. إنني أحب أن أكون فناناً فقط. هذا الكتاب يقول: لا شيء يأتي من الفراغ أبداً. كما أن قانون الصدفة لا يلعب دورة مع الكتّاب أصحاب المشاريع الكبرى. ان درس هذا الكتاب الآتي من ماضي نجيب محفوظ البعيد يقول انه من أجل كتابة جيدة لا بد من قراءة أكثر جودة. وهذه القراءة لا تتوقف عند حدود قراءة الكتاب ولكن قراءة لوحة الفن التشكيلي ووجوه الناس في الشوارع والفيلم السينمائي والعرض المسرحي. هذا الكتاب يطلب من نجيب محفوظ أن ينظر إلى ماضيه البعيد في حب وفي حنان. فقد زرع فيه ما يحصده الآن.