بعد رواية أولى صدرت عن منشورات"أرلام"في روما بعنوان"البق والقرصان"، تجيء رواية عمارة لخوص الثانية"كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضك؟"الدار العربية للعلوم - بيروت، منشورات الاختلاف - الجزائر 2006 في أسلوب سردي مغاير، وموضوع مختلف تماماً. وقد حقق الكاتب تلك النقلة التي تشكل الحلقة المفقودة في الأدب الجزائري الجديد، وهي التحول من الكتابة عن الذات كما في روايته الأولى، الى الكتابة عن الآخرين. تتناول رواية"كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضك؟"موضوعين اثنين هما العنصرية والذاكرة، وتتكون من أصوات متعددة تعيش في عمارة في قلب العاصمة روما، بما يوحي بالمأساة التي يرغب الشاب الهولندي يوهان فان مارتن في تحويلها الى فيلم سنيمائي وفق طريقة الواقعية الجديدة التي صنعت مجد السينما الإيطالية. كل صوت في الرواية يحكي قصته، وقصة الشخص الآخر الذي ارتبط به بعلاقة ما، ويقدم ملامح الشخص الآخر، أو الحقيقة التي قد يخفيها الشخص عن نفسه. إننا في صدد رواية النظرة الى الآخر. تسير الرواية على وقع جريمة قتل جرت في مصعد عمارة السيد كارنفالي. عُثر على جثة لورانزو مانفريدي المدعو الغلادياتور، وهو إنسان قميء، عنصري، فقد المعالم الحضارية، وحتى الإنسانية بسبب سلوكاته السلبية التي أثارت اشمئزاز سكان العمارة. والى جانب جريمة القتل هناك اختفاء الكلب فالنتينو، واختفاء أماديو المفاجئ الشخصية المحورية في الرواية الذي توجه له تهمة قتل لورانزو، فقط لأنه تشاجر معه ذات مرة. تقوم الرواية على ثنائية الهوية والعنصرية الى جانب ثنائيات أخرى تشكل ليتموتيفات تحرك الرواية.، فشخوصها ينقسمون الى صنفين: هناك المهاجرون المسلمون والمسيحيون من جهة، والإيطاليون الأصليون من جهة أخرى. كل هؤلاء يدخلون في علاقات اجتماعية، وكل واحد يقدم الآخر في صورة مغايرة، ويجعلنا نرى هذا الآخر من وجهة نظره. استخدم عمارة لخوص هذه الثنائية لتقديم ملامح عن المجتمع الإيطالي ومكانة المهاجرين بين ظهرانيه، ويظهر هذا المجتمع بتناقضاته وتعدديته الإثنية ونظرته الى الآخر، ومعاناة هذا الآخر، وكيفية تلقيه هذه النظرة العدائية تارة والمتفهمة تارة أخرى. يوجد في الرواية شخصيات عنصرية تقبل الآخر سيلفانيا عشيقة أماديو، صاحب مقهى دانديني، ولا تنظر اليه نظرة عنصرية. وتوجد شخصيات أخرى ترفض هذا الآخر وتعتبره مصدراً للتخلف. حتى لدى أبناء الوطن الواحد نجد النظرة العدائية نفسها، إذ هناك شخصيات ايطالية لا تكن العداء للقادمين من العالم الثالث فقط، بل تكنه حتى لأبناء وطنها، ويجسد هذه النظرة أستاذ التاريخ في جامعة روما أنطونيو ماريني صاحب النظرة العنصرية تجاه الإيطاليين القادمين من الجنوب، فهو يعتبر مدناً مثل نابولي مصدراً للتخلف، ويعتقد أن الوحدة الإيطالية عبارة عن خظأ حقيقي، وهو بذلك يعبر عن الأفكار العنصرية التي يدعو اليها حزب برلسكوني، التي تجد صداها عند شخصيات أخرى مثل الزابتا التي فقدت كلبها فالنتينو، والتي تبدي عنصرية مزدوجة تجاه المهاجرين، وتجاه بعض مواطنيها، بل تفكر حتى في الاستقرار في سويسرا والابتعاد من إيطاليا. تقدم الرواية صورة واقعية عن الكليشيهات التي يملكها الغرب ويكونها عن المهاجرين، ففي ايطاليا كل مهاجر غجري أو ألباني، ولا مجال للنظر الى الإنسان وفق هويته الأصلية. فالإيطالي في هذه الرواية يجرد المهاجرين من أصلهم، من هويتهم، عبر الكليشيهات. وهنا تكمن أهمية هذه الرواية، فالأشخاص يتحركون وفق علاقتهم بمجتمع قاس، عنصري لا يسمح بالمحافظة على الهوية. أشخاص الرواية يجدون أنفسهم أمام خيارين، إما الاحتفاظ بالهوية وتقبل أحكام الآخر وعنصريته بارويز الإيراني، عبو الجزائري، وإقبال القادم من بنغلاديش، وإما التنصل من هذه الهوية والذوبان في ثقافة الآخرأماديو. وتعتبر شخصية أماديو بمثابة الشخصية المحورية التي تربط بين هذه الشخصيات المتصارعة في الأصل. ويختلف أماديو عن بقية الشخصيات، فهو لا يعاني العنصرية مثلما يعانيها بارويز الإيراني مثلاً، الذي لا يحسن الإيطالية، ولا لطبخ الإيطالي ينظر الى الطبخ هنا من زاوية ثقافية مثلما هي الحال في رواية الألماني غونتر غراس"سمك الشبوط"، وتمسك باسمه ولم يفعل مثل أماديو. لكنه في المقابل فقد شخصيته المهنية، فهو لم يعد ذلك الطباخ الماهر الذي كانه في ايران، بل تحول الى مجرد غاسل صحون. وفصل بارويز من العمل بسبب كرهه للبيتزا، أي بسبب رفضه ثقافة الآخر، وعدم قدرته على الاندماج فيها. كيف تمكن أماديو من أن يصبح محور الرواية؟ لأنه تعلم اللغة الإيطالية وأتقنها، وتبحر في الثقافة الإيطالية، يعرف روما جيداً بشوارعها وأزقتها؟ إنه إنساني جداً، يتعاطف مع المهاجرين ولا ينظر اليهم نظرة عدائية وعنصرية، كل هذه القيم جعلت منه إنساناً محترماً كسب احترام حتى أكثر العنصريين. فأستاذ التاريخ أنطونيو ماريني يخبرنا أن أماديو ليس هو قاتل لورانزو، ويتحاور معه في كثير من القضايا التاريخية. هذا الاحترام الذي يحظى به أماديو، تم على حساب قيم أخرى، كما تم على حساب ماضيه. إن أماديو الذي يعيش مع ستيفانيا ماسارو في شقتها في عمارة السيد كارنفالي، يعاني أوجاع الذاكرة، ويتألم بمجرد استحضار صور من ماضيه المثقل بالآلام وتقاليد الدم وهمجية الإرهاب. وندرك أن تحول شخصية أماديو الى شخصية محببة لدى الجميع، تم على حساب اسمه الحقيقي، لذلك فإن الرواية التي كتبها عمارة لخوص بأسلوب شيق وممتع هي في نهاية الأمر رواية عبارة عن رواية الذاكرة والجذور. والقارئ الحذر يدرك في بضع صفحات من الرواية أن أماديو ليس سوى مهاجر مغاربي، عبر إشارات يقدمها الكاتب. فهو يقول أحياناً انه قادم من جنوب الجنوب، وتارة يردد تاريخ يوغرطة ويتبنى مواقفه بحماسة، وبالفعل ندرك في النهاية أن الأمر يتعلق بمهاجر جزائري، أجبرته ظروف الإرهاب القاسية على الهجرة، فهو بالتالي ليس مهاجراً عادياً، بل مهاجر مريض. المهم في رواية عمارة لخوص، ليس أن نكتشف قاتل لورانزو، والعثور على الكلب فالنتينو، بل في ذلك العواء الذي ينتهي الى كشف حقيقة أماديو الذي رضع من الذئبة فعضته. يشبه أماديو مصطفى سعيد بطل رواية الطيب صالح"موسم الهجرة إلى الشمال"الذي غرق في نهر الهدسون، مع اختلاف واحد هو أن أماديو قتل نفسه تجنباً للاستلاب ماضيه وهويته ومصطفى سعيد تحول الى مجرم بعد أن سلبه الغرب.