توالي رواية "كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضك"للجزائري عمارة لخوص الاشتغال الروائي على إشكالية الشمال / الجنوب، وذلك في الفضاء الإيطالي. تنبئ الرواية في بدايتها عن جريمة قتل الإيطالي الغلادناتور واختفاء الشخصية المحورية أمديو الذي سينجلي أخيراً في أنه أحمد السالمي الهارب من الجحيم الجزائري إلى روما. ومن هذه البداية إلى النهاية تسم البوليسيةُ الروايةَ في سر الجريمة والاختفاء، وفي الجلاء المتدرج والمشوق عن السر. وإلى ذلك وظفت الرواية اللعبة القديمة الجديدة في سكنى شخصياتها في عمارة واحدة، وأفسحت لكل شخصية فصلاً تقدم فيه"حقيقتها"وتضيء ما سبق سواها إلى سرده، حيث تتركز الإضاءة دوماً في أمديو الذي تفصل يومياته بين الفصول. وقد تعنونت هذه اليوميات بالعواء الأول فالعواء الثاني وصولاً إلى العواء الحادي عشر الذي يختم الرواية. وكل منها يضيء أيضاً ما تعاقب الآخرون والأخريات على سرده، مثلما يضيء شخصية أمديو وتجربته في وعي الذات والعالم، وبخاصة وعي الآخر الإيطالي الذي ترمز له الذئبة في علم"لا روما"وهي ترضع التوأمين رومولوس وريموس. في فصل"حقيقة عبدالله قدور"يروي هذا الجزائري المهاجر أيضاً أن الإرهابيين قتلوا خطيبة أمديو، وهي التي تحمل واحداً من الأسماء التي تطلق على الجزائر العاصمة:"بهجة". ولا يخفى هنا التمحّل في الترميز بالاسم، لتكون بهجة الأنثى والوطن. وللاسم بعامة فعله في الرواية. فقد بدّل أحمد اسمه إلى أمديو لأن ذلك يخفف من أعباء الذاكرة ويساعد على العيش أفضل في المهجر. ويرى أحمد أنه في مأمن من"الانفصام"بسبب اسمه الإيطالي أمديو. إلا أن هذه الإشكالية التي يعاني منها المهاجرون تظل قائمة. فأمديو يتساءل إن كان ثمة نزاع صامت بين اسميه: أحمد وأمديو، وفي العواء يبحث عن جواب يلوّح لذئبة روما ورضيعيها:"هل أنا لقيط مثل التوأمين رومولوس وريموس أم ابن بالتبني؟ السؤال الجوهري هو كيف أرضع من الذئبة من دون أن تعضني؟ الآن على الأقل يجب أن أتقن العواء كذئب أصيل". وعلى هذا النحو يبلور الفنّ أطروحةَ الرواية، فالعواء بحسب أمديو نوعان: عواء الألم وعواء الفرح. والأول هو أحياناً كالبكاء، وهو عواء المهاجرين الحزين، لأن عضة الذئبة قاسية. أما أمديو فيمضي في ما يبدو من انتهازية أو تقية أو استسلام، بالعواء كذئب أصيل إلى صيغته الأخيرة:"أنا أعشق الذئبة ولا أستطيع الاستغناء عن الآخر". فأمديو ليس في فم الذئب كما كتب كاتب ياسين، بل هو ينص في العواء الأخير على أنه خرج من فم الذئبة وارتمى في أحضانها. وفي هذا المآل الختامي يرسل أمديو هذا الإيقاع"ذاكرتي هي شهريار"بينما يتساءل:"هل أنا شهرزاد؟ هي تحكي وأنا أعوي"ويناشدها أن تعلمه حرفة التملص من الموت. والذاكرة إذاً هي الموت"الشهرياري". إنها الكوابيس التي تداهم أمديو، ومنها كابوس بهجة الخطيبة / الجزائر التي تحضره ملفوفة بكفن ملطخ بالدم، فيناجيها:"آه يا جرحي المفتوح". وهذه الذاكرة هي جريمة تنزف كما يعبر أمديو في العواء التاسع، وهي الجرح الذي أورثه إياه الطهور في الطفولة، وهي نصيحة جده له بأن يقطع لسانه ويبلعه، بأن يهرب من صدر هذا الزمن الضيق الذي لا يتسع للهرب. لقد هرب أمديو إلى روما حيث عشق الإيطالية ستيفانيا مسارو التي علمته الإيطالية وعشقته. ومن أجلها كما تروي في فصلها تنازل عن وطنه وثقافته ولغته واسمه وذاكرته، فبات كما تراه رحلة مفتوحة على مفاجآت مدهشة. وستيفانيا التي تعمل في وكالة سياحية وتعلّم الأجانب الإيطالية، كانت قامت برحلة في الصحراء فأدهشها الطوارق. وقد نشدت أن تعتزل وأمديو في خيمة في صحراء، فأتى بالخيمة إلى غرفة نومها، مذكراً بمصطفى سعيد في رواية الطيب صالح"موسم الهجرة إلى الشمال". على أن أمديو الذي يشبه ذاكرته بالمصعد المعطل، والماضي ببركان نائم ورمال متحركة، يناشد ستيفانيا أن تعينه على بقاء الماضي نائماً، وهي التي لا تريد منه الماضي، بل الحاضر والمستقبل، لكنه صراع الأزمنة الثلاثة، يعيشه أمديو الذي يعشق ذاكرة ستيفانيا لأنها خالية من الكوابيس. تقلّب الرواية وعي العالم الآخر على أجنابه عبر الشخصيات الإيطالية الأخرى. فإلى الإيجابي الذي تجسده ستيفانيا يأتي السلبي في شخصية بوابة العمارة بنديتا إسبوزيتو التي تنادي بطرد العمال المهاجرين وتعويضهم بپ"أبنائنا المساكين". وعلى رغم ذلك تنفي أن تكون عنصرية. ومثل الشخصيات الإيطالية الأخرى في الرواية تعبر بنديتا عن وعي الآخر لذاته بوصف إيطاليا ببلد العجائب، والإيطاليين بالشعب الغريب. ولأنها ترى إيطاليا من الجنوب وروما مدينة الوافدين تستنكر دعوة حزب رابطة الشمال إلى الانفصال عن الجنوب وتأسيس دولة بدانيا. مع انطونيو ماريني المعيد في معهد التاريخ في جامعة روما، يأتي تجلّ مختلف للآخر ولوعي لذاته. فهذا القادم من ميلانو، وغير المتعود على فوضى روما: روما السياح والمدينة الخالدة الجميلة، روما الحب، وروما الجنوبية التي يهجوها أنطونيو، فأهلها كسالى، وهو لا يثق"أبداً في أبناء الذئبة لأنهم حيوانات مفترسة متوحشة". ولا يرى أنطونيو فائدة من الدين الواحد واللغة الواحدة والتاريخ المشترك والمستقبل المشترك في هذا البلد الغارق في بحر الغرائب: إيطاليا، حيث"يا للعجب! كرة القدم تصنع الهوية". ويتتوج ذلك بما يراه أنطونيو في أمديو كإيطالي فهو يجهل جزائريته جنوبي، إذ يشك في أنه من الخضر: هؤلاء البرابرة الجدد وامتداد الثورة الطالبية 1968 الأخطر من النازية والفاشية والستالينية. على النقيض من انطونيو يبدو سائق السيارة ريكاردو الذي يذهب إلى أن الأجانب صنعوا مجد روما وهم يستحقون التقدير. وكذلك هو مفتش الشرطة ماورو بتاريني الذي ينهي اللعبة البوليسية، كما هو مألوف، بالعثور على أمديو المختفي في مستشفى وقد تعرض لحادث وفقد ذاكرته، وكذلك بالعثور على السكين التي قُتلت بها إلزابتا الغلادناتاور انتقاماً لكلبها. ولعل الرواية لو لم تتقفّ البوليسية التقليدية، لتابعت خروجها على المألوف في بنائها، وبخاصة أن أمديو سيتابع العواء بعد فصل مفتش الشرطة كأنه لم يفقد ذاكرته. ثمة"آخر"أيضاً في الرواية سوى الإيطالي، لكنه مهاجر أو لاجئ. وبهذا الآخر تبدأ الرواية في فصل"حقيقة بارويز منصور صمدي"الذي يرويه إيراني حارب ضد العراق في الصفوف الأولى، وكان لديه في شيراز مطعم عثر فيه على منشورات لمجاهدي خلق كما سيضيء أمديو في العواء الأول وهو الذي لا شأن له بالمعارضة، فبات مهدداً وفرّ. وبارويز إذاً لاجئ وليس مهاجراً، لذلك خاط فمه وأضرب عن الكلام عندما رفضت اللجنة العليا للاجئين طلبه، فمنح حق اللجوء السياسي، لكنه لم يألف عمله المتقطع في المطاعم الإيطالية، فهو وإنْ كان لا يكنّ أي عداء للإيطاليين، إلا أنه يكره البيتزا ويتعجب من قدرة الإيطاليين على التهام هذه الكميات من العجائن في الصباح والمساء. تولى بارويز في فصله الأول تقديم الكثير من شخصيات الرواية في شكل حوار بينه وبين القارئ الغائب، إذ ليس لهذا القارئ إلا الفراغ بين قول لبارويز وقول، وهذا ما ستنتهجه الشخصيات الأخرى في فصولها. وفي هذا الالتفاف على ثقل السرد تنتأ العنصرية في شخصية الإيطالي الغلادناتور الذي يعثر عليه مقتولاً في المصعد، وقد كان يبول فيه يومياً، ويصرخ ببارويز:"إيطاليا للإيطاليين". أما البوابة بنديتا التي تحسب بارويز ألبانياً، وتسأله عما إن كانوا يأكلون القطط والكلاب في ألبانيا، فيندفع:"هل تعرفين عمر الخيام؟ هلت تعرفين سعدي؟ هل تعرفين حافظ؟ لسنا متوحشين حتى نأكل القطط والكلاب. ثم ما علاقتي بألبانيا؟". ولعل السؤال الأكبر هو ما أطلقه بارويز عمن يكون الإيطالي: هل هو من ولد في إيطاليا؟ أم من يتقن الإيطالية؟ أم من يملك جواز سفر بطاقة تعريف إيطالية؟ أم من يسكن في إيطاليا؟ يختتم بارويز سؤاله بنصح القراء أن يبحثوا عن الحقيقة. وسوف يقول مفتش الشرطة في النهاية إن للحقيقة وجهين. وقد جلت كل شخصية في فصلها حقيقتها كما ينص عنوان كل فصل. لكن الحقيقة تظل سؤال الرواية المعلق، والذي يعيد المهاجر تشكيله كما الإيطالي، كلٌّ في ذاته وفي الآخر، فيصير السؤال أربعة. وأما أمديو نفسه فيجيب بازدياد كرهه للحقيقة ونمو عشقه للعواء، ويتساءل:"هل الحقيقة دواء يشفي أسقامنا أم أنه سمّ يقتلنا ببطء؟". وبينما يقرر البحث عن الجواب في العواء، في الذئبنة، في تخوين الآخر للذات، في تخوين الذات لذاتها كلما أمعنت في الانتماء للآخر"تأتي الخادمة البيروفنية مانويلا الممنوعة من استعمال المصعد - بينما يسمح للكلب فالنتينو أن يتبول فيه - فتتساءل هذه التي لا تحمل وثائق:"هل أنا إنسان؟ في بعض الأحيان أشك في إنسانيتي". وتتساءل عن كره الإيطاليين المهاجر، وعما إن كانت الهجرة جريمة، وهذا هو أيضاً البنغالي إقبال أمير الله يتغنى:"ما أجمل أن ترى المسيحي والمسلم كأخوين!"لكن الإيطاليين يعتقدون بأن الإسلام هو دين الممنوعات، وإقبال يعاني من العنصرية التي يضيئها له أمديو في العواء الثالث، فالعنصري لا يبتسم، ومشكلته ليست مع الآخرين بل مع نفسه.