ردت إيران أخيراً وبإسهاب على"سلة المزايا"التي قدمتها الدول الأعضاء في مجلس الأمن زائد ألمانيا، بحيث لم تغلق الباب أمام المفاوضات ولم تستجب في الوقت ذاته للشروط الدولية الراغبة في إيقاف إيران لعمليات تخصيب اليورانيوم قبل الشروع في المفاوضات. ولأن مطالب ومقتضيات"سلة المزايا"قامت بالأساس على مبدأ تخلي إيران عن امتلاك دورة الوقود النووي، باعتباره المدخل الوحيد القادر على ضمان سلمية البرنامج النووي الإيراني في شكل نهائي، فقد جاء الرد الإيراني"إيرانياً"بامتياز. طويلاً وتفصيلياً، يطرح تساؤلات أكثر مما يجيب، يوارب الباب ولا يغلقه، ولكنه لا يفقد بأي حال التمييز بين الأهداف الرئيسية والثانوية والعوامل الحاكمة لتطور الملف. كان طبيعياً ألا توافق إيران على المطالب الأميركية والدولية القاضية بوقف التخصيب قبل التفاوض، ولذلك عمدت إيران إلى تحديد موعد الثاني والعشرين من أب أغسطس موعداً للرد الذي قدم إليها قبل شهرين. وهذه الإطالة المتعمدة في الرد توخت وضع الأطراف الدولية المفاوضة تحت ضغط"عامل الوقت"الذي يعمل حتى الآن في مصلحة طهران المستمرة بالتخصيب. ولمواجهة هذا الضغط التفاوضي قامت واشنطن، المفتقرة لبعد النظر وطول النفس في مواجهة المفاوض الإيراني، بتصميم القرار الدولي 1696 وفي ظل القصف الإسرائيلي على لبنان، لينزع من إيران"عامل الوقت"المشار إليه. وبموجب القرار أمهل مجلس الأمن الدولي إيران حتى نهاية الشهر الجاري لإيقاف التخصيب، وإلا تعرضت إيران لتدابير بموجب الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة، وبالتحديد المادتين 40 و 41 اللتين تعنيان التهديد بعقوبات اقتصادية ووسائل التدخل العسكري. يعد إيقاف التخصيب بمثابة"الجائزة"التي ستقدمها إيران للدول الست في مقابل ما تضمنته"سلة مزاياها"، ولكن بعد مفاوضات تحدد طبيعة وملامح هذه المميزات وما ستجنيه طهران مقابل ملفها النووي. وتقديم"الجائزة"قبل التفاوض، أو إيقاف التخصيب قبل الحصول على المزايا، هو أمر لا يليق بالمفاوض المتمرس ناهيك عن المفاوض الإيراني. كما أن إيقاف التخصيب قبل بدء المفاوضات كما تطالب واشنطن والدول الأوروبية ستضع إيران في حالة"هزيمة تفاوضية"ستمتد إلى بقية الجبهات الإقليمية والداخلية، وهو ما سيؤدي إلى إحكام الحصار على النظام السياسي الإيراني داخلياً وإقليمياً. فقط في هذا الإطار يمكن فهم تصريح مرشد الثورة الإيرانية السيد علي خامنئي والمتزامن مع تسليم الرد الإيراني على العرض الأوروبي بأن"الاستسلام في الملف النووي هو انتحار سياسي كامل". وعلى ذلك يبدو انتهاء المهلة المقررة لطهران عند نهاية الشهر ونزع"عامل الوقت"من يديها مؤشراً إلى تدهور نسبي في الموقف التفاوضي الإيراني، إلا أن ترجمة هذا التدهور ستبقى مرتهنة بمواقف روسيا والصين حيال واشنطن في مجلس الأمن. كما أن إيران وفي ضوء استراتيجيتها التفاوضية والمستمرة من عام 2003 وحتى الآن غير معنية بإيقاف التخصيب مقدماً باعتبار أن ذلك خطاً أحمر حدده صانع القرار الأول السيد خامنئي للمفاوض الإيراني سواء كان لاريجاني أو متكي. اتساقاً مع هذه القاعدة جاء الرد الإيراني المطول ناهضاً على مجموعة من الاعتبارات القانونية والتقنية تمت هندستها وفقاً لأولويات طهران التفاوضية، التي يمكن قراءتها من ثنايا ردها المذكور. شدد العرض الدولي على مرجعية معاهدة حظر الانتشار النووي ومادتيها الأولى والثانية، وبالمقابل بدأ الرد الإيراني على العرض باستفسار عن المادة الرابعة من ذات المعاهدة والقاضية بحق الدول الموقعة عليها في تخصيب اليورانيوم للأغراض السلمية. وتريد إيران التأكيد على المادة الرابعة من المعاهدة في أي اتفاق مقبل، بما يعني التزام الدول الست بحق إيران الثابت في التخصيب للأغراض السلمية. وفي هذا السياق يعني طلب المفاوض الإيراني اعترافاً واضحاً بحق إيران في تخصيب اليورانيوم للأغراض السلمية، أن إيران تستطيع في ظل ظروف مؤاتية مقبلة وبحساب مؤشرات القوة، أن تقوم بالعودة إلى تخصيب اليورانيوم مرة أخرى. وبعد الاعتراف بحقها المبدئي في التخصيب سيفاوض الإيرانيون وبطريقة الأسقف المتتالية على القبول فقط بتخصيب مكاني محدود وليس التوقف عن التخصيب نهائياً، أي بحصر عمليات التخصيب في أماكن معينة وبأجهزة طرد مركزي محدودة العدد. ويعود ذلك إلى أن إيران لا تريد أن تبدأ من نقطة الصفر وتحتفظ بما حققته تكنولوجياً، إذا ما تعذر الاتفاق بينها وبين الدول الست لأي سبب كان. وفي هذا السياق يتوقع أن تطالب إيران عند بدء المفاوضات بأن يكون التعليق المطلوب للتخصيب مقيداً بفترة زمنية معلومة، وليس تعليقاً إلى الأبد، والأفق الواقعي لهذه الفترة الزمنية يبدو متراوحاً بين عامين إلى خمسة أعوام. ويعتبر الاستمرار في عمليات تخصيب اليورانيوم على الأراضي الإيرانية لأغراض البحث والتطوير ركناً أساسياً في استراتيجية الأسقف المتتالية التي تعتمدها طهران، والهادفة إلى الاحتفاظ بأجزاء من"الجائزة"وعدم التخلي عنها نهائياًً. والسقف التفاوضي الأخير في هذه المتتالية ربما يكون طلب إيران وضع منشآتها النووية في"حالة استعداد ساخنة"warm standby، وهذا المصطلح التقني يعني قدرة إيران على العودة إلى تخصيب اليورانيوم من حيث توقفت، وذلك في حال لم تلتزم الدول الست بالتزاماتها التعاقدية. ولأجل الوصول إلى هذا الهدف التفاوضي يجب الاستعانة بمساعدات تقنية تتمثل في ضخ غازات محايدة التأثير إلى أجهزة الطرد المركزي على مدار الساعة، بدلاً من"هكسافلوريد اليورانيوم"في عمليات التخصيب الاعتيادية، وهو ما يتطلب تكلفة مادية عالية، وهذه التكلفة ستكون بدورها بنداً من بنود المفاوضات المقبلة. ولما كانت"سلة المزايا"قد تضمنت تعهداً دولياً بمساعدة إيران في نقل التكنولوجيا النووية"وبضمنها تزويدها بمفاعل المياه الخفيفة وكذلك تزويد إيران بالوقود النووي، وتعاوناً اقتصادياً وتجارياً فقد تركزت الأسئلة الإيرانية على الحصار الاقتصادي الأميركي عليها ومنعه نقل التكنولوجيا إلى إيران، ومدى استعداد واشنطن لتخفيف حصارها الاقتصادي أو حتى إلغاؤه. وتضمن العرض الدولي أيضاً تعاوناً بين إيران ووكالة الطاقة الأوروبية المعروفة اختصاراً باسم"أوراتوم"، والتي تنقل التكنولوجيا النووية إلى الدول الأعضاء فيها، وهو ما طالبت إيران بإيضاحه أيضاً. وهذا الإيضاح يقوم على فكرة تفاوضية مؤداها أن العرض الأوروبي تضمن تقديم مفاعل يعمل بالماء الخفيف وليس الثقيل ضماناً لسلمية استخدامه. ولكن إيران بالمقابل ستطالب بطراز متقدم تكنولوجياً من المفاعلات له قدرة عالية على انتاج الطاقة، وهو طراز يتوافر لدى ألمانيا وليس غيره من المفاعلات. وعلى ذات المنوال تقوم الاستفسارات المتعلقة بپ"مخزن الوقود النووي"المتوقع تشييده على الأراضي الإيرانية طبقاً للعرض الأوروبي، سواء من حيث قدراته الاستيعابية أو على ميكانيزمات تحويل الوقود النووي إليه وسحبها منه، وبما يضمن أقصى استفادة إيرانية منه. وتضمن الرد الإيراني أيضاً استفسارات عن التفاصيل التقنية المتعلقة بنقل التكنولوجيا النووية إلى إيران مثل إنشاء شركة دولية لتخصيب اليورانيوم على الأراضي الروسية. وبالتوازي مع ردها تخوض طهران الآن، وراء الكواليس، مفاوضات شاقة مع روسيا حول الاقتراح الروسي السابق والقاضي بتخصيب اليورانيوم الإيراني على الأراضي الروسية. وتطالب طهران، التي رفضت الفكرة علناً حتى الآن، برفع حصتها في الشركة المقترحة إلى ما فوق الخمسين في المئة، وكذلك الحصول على ضمانات بنفاذ العلماء الإيرانيين إلى منشآت التخصيب على الأراضي الروسية في كل الأوقات ومن دون قيود. القراءة النهائية للرد الإيراني تلحظ أن المفاوض الإيراني أعلن عن قبوله"سلة المزايا"أساساً للتفاوض، ولكن مع تقديم اقتراحات مضادة واستفسارات حول نقاط بعينها. وبالإجمال يعني ذلك أن إيران وضعت"سلة المزايا"إلى جانبها ولكنها تريد من الطرف الآخر أن يلقي بامتيازات إضافية إلى داخلها حتى تستجيب جزئياً لما يريد، وفي الوقت نفسه تحاول إيران التملص من تقديم كامل"الجائزة"، أي إيقاف تخصيب اليورانيوم. وبعد المطالب الأساسية المتلخصة في عدم التخلي عن التخصيب نهائياً قبل المفاوضات، ستأتي حزمة أخرى من المطالب الأقل مرتبة في الأولويات الإيرانية ولكن المهمة في عملية التفاوض المقبلة. والجدول الزمني الذي طالبت إيران به في ردها يهدف بالأساس إلى عدم تقديم إيران لكامل المطلوب منها مقدماً، أي التوقف التام والنهائي عن تخصيب اليورانيوم في مقابل وعود غير محددة. كانت طهران قد وفرت لنفسها غطاء معقولاً يحميها من ضربات عسكرية محتملة، وهي تدير أزمتها النووية باستخدام مجموعة معلومة من الأوراق الإقليمية، ولكن من دون أن تفرط في استنطاق قيمة أكبر لهذه الأوراق أو تتورط في حرب مباشرة مع واشنطن. ومسؤول الملف النووي الإيراني علي لاريجاني قال لسفراء الدول الست عند تقديمه لرد إيران أن بلاده"عامل استقرار"في المنطقة ويمكنها أن"تساهم في إنجاح عملية تبادل الأسرى بين حزب الله وإسرائيل"في استعراض إيراني مكرر لأوراق بلاده التفاوضية. وعلى رغم تبدل الساحات وأشكال الصراع على الملف النووي الإيراني فما زالت المعضلة الاستراتيجية الأساسية أمام صانع القرار الإيراني واحدة، وهي أن المستهدف سواء بالتصعيد أو بطلب الضمانات والمزايا لقاء التوقف عن تخصيب اليورانيوم، هو بالتحديد الجالس في البيت الأبيض، الذي يستطيع وحده فرض الاتفاقات النهائية وضمان ترجمتها على الأرض. ولما كان الطرف الأميركي قد لوح على لسان رموز إدارته أكثر من ثلاثين مرة بتنفيذ عمليات عسكرية ضدها خلال الشهور الماضية"فقد مثل الانضمام الأميركي المباشر قبل شهرين إلى المفاوضات مع إيران نصراً ثانوياً للأخيرة. ولكن حرب لبنان التي نفذتها تل أبيب لحساب واشنطن، أظهرت أن الإدارة الأميركية عازمة على التصعيد مع إيران عبر كل الساحات الإقليمية والدولية. ومن لبنان وحتى مجلس الأمن تبدو واشنطن عازمة على حصار إيران ونزع أوراقها التفاوضية والإقليمية، بما ينسف عملياً امكانات الوصول الى اتفاق يضمن مصالح الطرفين الإيراني والأميركي. يعلم المفاوض الإيراني أنه فقد القدرة على فرض الإيقاع الآن بسبب قرار مجلس الأمن الدولي 1696، ولكن أوراقاً كثيرة، إقليمية ونووية ونفطية، ما زالت بحوزته. ويعلم"تاجر البازار"الإيراني التواق للربح حدود امكاناته ورقعة حركته جيداً ويناور ويداور ببراعة مشهودة استناداً إلى معرفته بتركيبة منطقته وبالتالي استثمار تناقضاتها لمصلحته. أما"رامبو"الآتي من بلاد بعيدة فلا يبدو متحققاً إلا على خلفية قرقعة السلاح ومشاهد الدمار والتفجير الممتدة بطول المنطقة من أفغانستان 2001 والعراق 2003 وحتى لبنان 2006 والتي صبت كلها سياسياً في غير مصلحته. ستذهب المواجهة المحتدمة تفاوضياً بين"تاجر البازار"الشاطر و"رامبو"المتهور كقصة خرافية جديدة من قصص .. ألف ليلة وليلتين. * خبير في شؤون إيران وتركيا. رئيس تحرير مجلة "شرق نامه"- القاهرة.