دخل ملف إيران النووي أروقة السياسة الدولية من باب التناقضات في التحالف الأطلسي بين الولاياتالمتحدة من جهة، ودول الاتحاد الأوروبي من جهة أخرى"إذ صار برنامج التكنولوجيا النووية الإيراني أحد أهم العوائق أمام انسجام هذا التحالف في المستقبل المنظور. ومرد ذلك الانقسام أن التضارب في مصالح طرفي التحالف الأطلسي يجد أقصى درجات التعبير عن نفسه في مسألة إيران وكيفية التعامل مع طموحها النووي. ومنذ الانقسام في صفوف التحالف الأطلسي إبان حرب احتلال العراق وجهود الترميم الذي بذلها لاحقاً طرفا التحالف في أميركا وأوروبا، يتبدى الملف النووي الإيراني مستعصياً على الاتفاق بينهما. صحيح أن دول الاتحاد الأوروبي تتفق مع الولاياتالمتحدة على منع إيران من امتلاك السلاح النووي، لكن الرؤى والطرائق التي يتبناها كل من الطرفين للوصول إلى هذا الهدف تتباين بشكل يجعلها تقف على طرفي نقيض. وفي حين تريد أوروبا الوصول إلى هذه النتيجة عبر المفاوضات وتقديم مزايا اقتصادية وسياسية وأمنية لإيران كي تتخلى طواعية عن برنامجها النووي، تتشدد أميركا في مطالبها تجاه إيران وتفرض المزيد من القيود على الطرف الأوروبي المفاوض مع إيران، ألمانيا وفرنسا وإنكلترا. إذ ترفض واشنطن بإصرار تسهيل مهمة المفاوض الأوروبي وتلح على تحويل الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن، في استباق واضح لنتيجة المفاوضات. أعطى الرئيس جورج بوش خلال جولته الأوروبية الأخيرة تعهداً للدول الأوروبية الثلاث التي تقود المفاوضات مع إيران، يقضي بمنح المفاوضات مهلة حتى نهاية حزيران يونيو المقبل، وذلك لتسهيل الوصول إلى نتيجة سلمية مع إيران في شأن ملفها النووي. وتعود "المرونة" الأميركية الطارئة إلى رغبة واشنطن في إظهار نفسها راغبة في الوصول إلى نتيجة إيجابية سلمية أمام حلفائها الأوروبيين، وهو ما يبرر لها لاحقاً الضغط عليهم لاتخاذ إجراءات أكثر صرامة حيال إيران، في حال لم تلتزم بالتنازل طوعاً عن التكنولوجيا النووية. ويرجع تحديد المهلة الزمنية وتوقيتها بشهر حزيران إلى الانتخابات الرئاسية الإيرانية، وما ستسفر عنه من انتخاب رئيس جديد لجمهورية إيران الإسلامية خلفاً للرئيس محمد خاتمي المنتهية ولايته ولا يجوز له الترشح مرة ثالثة طبقاً لنصوص الدستور الإيراني. تهدئة معلنة وتصعيد مستتر ازداد التكتيك الأميركي مع المفاوضين الأوروبيين وضوحاً عندما ألقى الرئيس بوش بميزتين اقتصاديتين إضافيتين في سلة الحوافز الأوروبية لطهران، بتعهده عدم تعطيل الانضمام الإيراني لمنظمة التجارة العالمية"وعدم معارضة تزويد إيران بقطع الغيار اللازمة لتحديث أسطولها الجوي المدني، لأن الميزتين السابقتين تشددان على "المرونة الأميركية" المطلوب إظهارها أمام الأوروبيين تحديداً وليس الإيرانيين. فإيران الراغبة، عبر إشارات لم تنقطع، في حوار مباشر مع واشنطن، لم تجد أمامها سوى الطرف الأوروبي شريكاً بالمفاوضات بعد انسحاب واشنطن من الحوار المباشر مع طهران منتصف العام 2003. وظلت المحادثات الرسمية بين واشنطنوطهران متركزة على الشأنين الأفغاني والعراقي"من دون التطرق أبداً لموضوع الملف النووي الإيراني، وذلك خلال فترة رئاسة بوش الأولى"وبالتحديد أثناء الفترة الواقعة بين احتلال أفغانستان نهاية العام 2001 وحتى ما بعد سقوط نظام صدام حسين واحتلال العراق في العام 2003. فواشنطن التي اعتمدت سياسة التعاون المحدود مع طهران في أفغانستانوالعراق خلال ولاية بوش الأولى لم ترغب في توسيع رقعة المفاوضات لتطال الملف النووي، لأن الثمن الذي تريده طهران مقابل تخليها عن قدراتها النووية هو الاعتراف بشرعية النظام الإيراني والسماح لإيران بلعب دور إقليمي في منطقتها، وهو ثمن أكبر بكثير مما تريد إدارة بوش دفعه. وهكذا وابتداء من العام الأخير لولاية بوش الأولى، قطعت واشنطن مفاوضاتها مع إيران، وأخلت موقعها للطرف الأوروبي الذي مازال يدير المفاوضات مع إيران من ساعتها وحتى هذه اللحظة. وكان طبيعياً على رغم ذلك ألا تنقطع محاولات واشنطن للتأثير على المفاوضات الأوروبية - الإيرانية، ولكن ليس عبر المفاوضات المباشرة بين واشنطنوطهران، لأن الأخيرة تعني اعترافاً ضمنياً بشرعية الطرف المفاوض، أي النظام الإيراني، وإدارة بوش تتجه منذ الولاية الثانية للرئيس الأميركي إلى مزيد من التصعيد مع طهران. والحال أن إدارة بوش الإبن وخلال فترة رئاسته الأولى لم تكن قادرة داخليا على تأمين إجماع حول إيران، إذ تراوحت مواقف أجنحة الإدارة وتبلورت حول فريقين: فريق يؤيد تعاوناً أميركياً - إيرانياً محدوداً في العراقوأفغانستان"مقابل فريق آخر أكثر نفوذاً وتأثيراً على الرئيس ينادي بإسقاط النظام الإيراني. وكان أن أعاق الفريقان بعضهما بعضاً، وأعاقا بالتالي قدرة إدارة بوش ككل على تبني سياسة واضحة حيال إيران، فبقيت سياسة "الاحتواء" المعتمدة منذ إدارة بيل كلينتون هي السياسة الأميركية المعلنة، حتى أثناء الحوار المباشر بين واشنطنوطهران حول أفغانستانوالعراق. وتغيرت الصورة إلى حد يرقى لمستوى الإنقلاب في الولاية الثانية، إذ يبدو الميل الأميركي للتصعيد مع إيران أكثر تصميماً عما قبل، خصوصاً مع بداية العام الحالي وانكشاف الأجنحة المؤيدة لتغيير النظام الإيراني داخل إدارة بوش، أي البنتاغون ومكتب نائب الرئيس ديك تشيني. ولا تفوت المتفحص ملاحظة أن "المهلة الأميركية" حتى حزيران - مثلها مثل أي مهلة- لوصول المفاوضات الأوروبية - الإيرانية إلى نتيجة، هي بالمنطق مقدمة لتصعيد محتمل عند انقضائها، والتهديد في هذه الحال متعدد الاحتمالات والأشكال، بحيث يتراوح ما بين تحويل الملف إلى مجلس الأمن لفرض عقوبات اقتصادية، أو الاستحصال على نص يدين إيران بشكل من الأشكال، وهو ما يمكن استخدامه لاحقاً لشن عمليات عسكرية ضدها. الأسقف المتغيرة في بازار المفاوضات وصل الطرفان الأوروبي والإيراني في نهاية العام 2004 إلى تفاهم مبدئي يقضي بوقف إيران عمليات تخصيب اليورانيوم، كبادرة لحسن النية طوال فترة المفاوضات، في مقابل تقديم "ضمانات واقعية متبادلة" بحسب التعبيرات التفاوضية بين الطرفين. وبمقتضى التفاهم حصل الأوروبيون من إيران على ضمانات بأن طهران ستستخدم مفاعلاتها حصراً في الأنشطة النووية السلمية، وقي المقابل غنمت طهران من الأوروبيين التعهد بتعاون مشترك في المجال النووي وإبرام اتفاقات تجارية ونقل التكنولوجيا وضمانات في مجال الأمن. وتحت العنوان الأخير بالتحديد أقر الأوروبيون بحق إيران في استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية، وهو أهم الغنائم الإيرانية من المفاوضات حتى الآن. ولكن مع بداية العام الحالي تعقدت مسارات التفاوض بين الطرفين، لأن الأوروبيين أرادوا أن توقف إيران عمليات تخصيب اليورانيوم نهائياً، وليس أثناء فترة المفاوضات فقط، في تصعيد للمطالب يبدو انعكاساً لضغوط إدارة بوش. كما أن الأوروبيين وصلوا إلى أفق مسدود بسبب عدم قدرتهم على إعطاء الثمن الذي تطلبه إيران مقابل التخلي عن برنامجها النووي. وبمعنى آخر استنفد الأوروبيون قدرتهم على النفاذ إلى معادلات الربح والخسارة الإيرانية لأن العروض الأوروبية لا ترقى إلى المستوى المطلوب إيرانياً، وأصبح لزاماً على الأوروبيين أن يطلبوا من شريكهم الأطلسي أن يتدخل مباشرة في المفاوضات. فلم تعد "لعبة المفاوضات" ممكنة طالما أن إيران تفاوض الأوروبيين وعينها على واشنطن"تلك التي تستطيع وحدها تقديم الضمانات التي تطلبها طهران, وطالما ظل الأوروبيون من دون "صلاحيات" خصوصاً في ما يتعلق بأمن النظام الإيراني والسماح له بدور إقليمي. ودلل على هذه النتيجة موضوع أخف وزناً نسبياً وهو انضمام إيران لمنظمة التجارة العالمية، إذ لم تستطع الدول الأوروبية ضمان إنضمام إيران للمنظمة، وهي من "المزايا" التي لوح بها الطرف الأوروبي لإغراء الإيرانيين بالتخلي عن التكنولوجيا النووية، وذلك بسبب الحضور الأميركي الطاغي في هذه المنظمة، والذي يمكنه عملياً من منع إيران من الانضمام أو تسهيله. حكم الموقف الأوروبي في مفاوضاته مع الإيرانيين اعتبار أساس وهو الحفاظ على مستوى العلاقات داخل التحالف الاطلسي بعد ترميمه من النتائج المترتبة على احتلال العراق، وبالتالي كان الأوروبيون وفي النقاط المفصلية لمسار مفاوضاتهم مع الإيرانيين يصعدون من مطالبهم لضمان الحد الأدنى من وحدة المواقف الأطلسية. وعلى رغم ذلك أخذ الفريق الأكثر تشددا داخل الإدارة الأميركية -يتزعم هذا الفريق نائب الرئيس ديك تشيني-، ينتقد التفاهم الأميركي - الأوروبي حيال إيران وينعى على رئيسه بوش أنه قدم "مزايا" ولم يقرنها بإلتزامات أوروبية، لجهة اعتماد خطوات أكثر صرامة تجاه إيران في حال فشل المفاوضات. عندها سارع الطرف الأوروبي، حفاظاً على التقدم الطفيف المتحقق في الموقف الأميركي، بالتصريح بأن المفاوضين الأوروبيين سيدعمون قرار تحويل ملف إيران إلى مجلس الأمن في حال فشلت مفاوضاتهم معها. ولم تقتصر الضغوط الأميركية عند هذا الحد، إذ ترافقت اللفتة الأميركية حيال الأوروبيين مع أنباء تفيد باستنفار أميركي لتحديث المعلومات الاستخبارية حول إيران، وهو ما يشي برغبة واشنطن في استباق نتيجة المفاوضات وشن عمل عسكري محتمل ضد الجمهورية الاسلامية. وبتقليب النظر في الإطار الذي يحكم مسار المفاوضات الأوروبية - الإيرانية ويتحكم بإيقاعها وأفق نجاحها، يتضح أنها تعاني من معضلة بنيوية مفادها أن موضوع المفاوضات وهو الملف النووي الإيراني ينهض وكيلاً عن مطالب أخرى للطرفين المفاوضين. فالمطلوب من إيران أكبر بكثير من إيقاف أنشطة تخصيب اليورانيوم، والإيقاف النهائي للتخصيب -كما هو معلوم- يقفل الباب نهائياً أمام تطوير برنامج نووي قادر في وقت ما على انتاج أسلحة نووية. ومرد ذلك أن الإيقاف النهائي للتخصيب يضع سقفاً أمام المعارف الإيرانية التكنولوجية، ويثبتها عند درجة أقل من مستوى القدرة النظرية على امتلاك أسلحة نووية. وبالإضافة إلى ذلك فالمطلوب من إيران منطقياً يمتد ليشمل موضوعات التسلح غير التقليدي ومحاربة الإرهاب والعلاقات مع إسرائيل، أما المقابل المعروض أمامها من الطرف الأوروبي من تيسيرات اقتصادية ونقل تكنولوجيا، فهو أقل بكثير من الثمن الذي تطلبه إيران وتطمح للوصول إليه. استناداً إلى هذه الخلفية يلح الطرف الأوروبي على إدارة بوش تقديم "صفقة متكاملة" وليس حلولاً مجتزأة كما تقدم واشنطن الآن، ويعتقد الطرف الأوروبي أن أسلوب الصفقة المتكاملة هذا هو الأسلوب الأنجع للوصول إلى نتيجة محددة في المفاوضات مع إيران. وتشمل الصفقة الأوروبية المقترحة الاعتراف بشرعية النظام الإيراني من واشنطن وتطبيع العلاقات معها ورفع الحصار الاقتصادي المضروب عليها والإفراج عن الودائع الإيرانية في أميركا والمجمدة منذ انتصار الثورة الإيرانية تتراوح تقديراتها الواقعية ما بين ثمانية وعشرة بلايين دولار. ولكن إدارة بوش تصم الأذان عن هذه المطالب الأوروبية لأنها تبدو غير مهتمة بإنجاح المفاوضات بين الأوربيين والإيرانيين كي تفتح المجال أمام احتمالات التصعيد العسكري. وينظر الأوروبيون بمرارة إلى موقف الإدارة الأميركية من المفاوضات لأنهم يعتقدون أن بوش يستطيع تمرير صفقة متكاملة مع إيران في الكونغرس بغالبيته الجمهورية، حتى وإن تم تغليف هذه الصفقة بموقف متشدد للاستهلاك المحلي الأميركي، كأن يربط بوش الصفقة بعقوبات أشد صرامة في حال فشلت المفاوضات. * خبير مصري في شؤون ايران وتركيا.