بمزيج من الترحيب والاستياء والتشاؤم والتفاؤل، اتسمت ردود الأفعال الإيرانية والدولية على إعلان إيران والسداسية الدولية (الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، إضافة إلى ألمانيا) مساء يوم 24 تشرين الثاني (نوفمبر) المنقضي، على تمديد المفاوضات الخاصة بالملف النووي الإيراني لسبعة أشهر إضافية تنقضي بنهاية شهر حزيران (يونيو) المقبل. وربما تكون إيران أكبر مستفيد من استمرار تلك المفاوضات وتمديدها على رغم إخفاقها في التوصل الى اتفاق نهائي يطوي صفحات أزمتها النووية. فبينما لا تفضي تلك المفاوضات إلى تجميد الأنشطة النووية الإيرانية كلية بمقدار ما تهدئ فقط من وتيرة تطورها، إذا بها تحيِّد الخيار العسكري، الذي طالما لوّحت به تل أبيب وواشنطن لتقويض قدرات إيران النووية، في الوقت الذي تقلص من حدة العقوبات الفردية والأممية المفروضة على طهران تدريجاً. ففي ما يخص تقليص العقوبات، ومع استئناف المفاوضات قبل نيف وعام مضى، تم إبرام اتفاق في تشرين الثاني 2013 يقضي بتعليق فرض عقوبات جديدة على طهران، فضلاً عن الإفراج عن بعض الأرصدة الإيرانية المجمدة مقابل تخفيض طهران مستوى تخصيب اليورانيوم من نسبة 20 في المئة إلى نسبة 5 في المئة فقط. وفي العشرين من تموز (يوليو) الماضي، وعلى رغم فشل المفاوضات في إدراك اتفاق نووي نهائي وفق ما كان مقرراً في اتفاق جنيف المرحلي، واتفاق الوفدين على تمديد المهلة حتى 24 تشرين الثاني 2014، أعلنت واشنطن الإفراج عن 2.8 بليون دولار من الأموال الإيرانية المجمدة لديها، مقابل تحويل إيران قسماً من مخزونها من اليورانيوم المخصب بنسبة 20 في المئة إلى وقود. وفي مساء يوم 24 تشرين الثاني المنصرم، وبعد انقضاء المهلة الثانية من دون إبرام اتفاق نهائي في هذا الخصوص ليتم الإعلان من فيينا عن تمديد مهلة التفاوض بين إيران والدول الست حتى نهاية شهر حزيران المقبل، أملاً في إدراك هذا الاتفاق، أعلن الاتحاد الأوروبي تمديد تجميد العقوبات والتدابير المقيدة التي نصت عليها خطة العمل المشتركة وأقرتها السداسية وإيران في اتفاق جنيف المرحلي إلى 30 حزيران 2015، وهي العقوبات التي تشمل حظر تمويل الصفقات مع طهران، حظر الاستثمار في صناعاتها النفطية، حظر تأمين ناقلاتها النفطية وحظر التجارة مع إيران في مجال الأحجار والمعادن الثمينة. كما اتفق على الإفراج عن 700 مليون دولار شهرياً من أرصدة إيران المجمدة في الخارج مع فوائدها، ما يتيح لها خلال الشهور السبعة المقبلة استرداد نحو خمسة بلايين دولار من تلك الأرصدة. وفي ما يتعلق باعتماد المفاوضات خياراً استراتيجياً أوحد، واصل وزير الخارجية الأميركي سياسة تجاهل خيار الضربة العسكرية ضد منشآت إيران النووية، إذ صرح يوم 24 تشرين الثاني بأن أفضل سبيل لمنع إيران من امتلاك السلاح النووي هو المفاوضات وصولاً إلى إبرام اتفاق. ورحب الرئيس الإيراني بقرار تمديد المفاوضات معتبراً أنه يؤكد اقتناع الأطراف كافة بأن السبيل الوحيد لحل الأزمة النووية الإيرانية يكمن في الحوار والتفاوض وليس في فرض العقوبات أو التهديد بالعدوان. ومع إخفاق العقوبات الفردية والدولية المفروضة على طهران في تحقيق مراميها، المتمثلة في إجبار النظام الإيراني على التراجع عن المضي قدماً في تحدي المجتمع الدولي وتطوير برنامج بلاده النووي، عبر تحويل الاستياء الشعبي المتنامي داخل إيران نتيجة تلك العقوبات إلى قوة ضاغطة تدفع بالنظام إلى التهاوي أو التراجع عن سياساته في هذا المضمار، عمدت واشنطن إلى المضي قدماً في سياسة «الإدارة» الممكنة للأزمة النووية الإيرانية بدلاً من «الحسم» المستعصي، ومن ثم ستبقي على سياسة المسار المزدوج حيث المزاوجة بين المفاوضات والعقوبات حيال طهران، فإما أن ترضخ الأخيرة وتتنازل عن طموحاتها النووية، أو تنجح في مباغتة المجتمع الدولي بالإعلان عن امتلاكها السلاح النووي بطريقة أو بأخرى. وبناء عليه، لم يتورع الإيرانيون عن استخدام أسلوب التحدي عبر التأكيد أن فريقهم المفاوض سيبقى متمسكاً بحقوق بلادهم النووية وسيصر على إلغاء العقوبات. وعلى رغم إعلان وزيري الخارجية الأميركي والبريطاني أن الدول الست ستلتزم منع طهران من استغلال تمديد المفاوضات لمباشرة أنشطتها النووية الحساسة توطئةً لإنتاج أسلحة نووية، أكد الرئيس الإيراني أن بلاده لن توقف عجلة أجهزة الطرد المركزي، كما لن تجمّد أنشطة تخصيب اليورانيوم طوال مدة المفاوضات. ولعل المفاوض الإيراني ارتكز في تشدده خلال المفاوضات النووية على ركائز شتى أبرزها: أولاً، الدعم السياسي والشعبي للنظام واستراتيجيته التفاوضية. فسياسياً، التأم البرلمان الإيراني وشدد على ضرورة التزام الوفد الإيراني المفاوض بالحقوق النووية لبلاده والمتمثلة في مواصلة الأبحاث النووية، واقتناء أكبر عدد ممكن من أجهزة الطرد المركزي المتطورة، وتحقيق أعلى مستوى ممكن من تخصيب اليورانيوم حيث منح المرشد وزير الخارجية تفويضاً للتفاوض، عدا تقليص نسبة تخصيب اليورانيوم، والإبقاء على نشاط مفاعل «آراك»، وعدم تقديم أي تنازلات تنال من تلك الحقوق أو تمسّها. وعلى الصعيد الشعبي، تظاهر الآلاف أمام الوكالة الإيرانية للطاقة الذرية ومفاعل طهران للأبحاث لوضع خطوط حمر للتنازلات الإيرانية خلال المفاوضات، ومطالبة الوفد الإيراني المفاوض بعدم التفريط بحقوق إيران النووية مهما كانت الضغوط، وعدم القبول بأي اتفاق يحجّم برنامج إيران النووي أو يعطّل رفع كل العقوبات بغير مماطلة أو إرجاء. ثانياً، ارتباك وسيولة المشهد الإقليمي والدولي، حيث تعاني المنطقة اضطرابات شاملة على خلفية التداعيات السلبية الخطيرة للثورات العربية والحرب على تنظيم «داعش» وأعوانه، وهو ما يدفع واشنطن إلى الاستعانة بالدور الإيراني في هذا المضمار استناداً إلى نفوذ إيران السياسي والعسكري الإقليمي الهائل، خصوصاً في سورية والعراق حيث معاقل تنظيمي «داعش»، و «جبهة النصرة» وغيرهما. ثالثاً، نجاح طهران في كسر جدار العزلة جزئياً وتدريجاً على نحو خوّلها تحقيق انتعاش تدريجي للاقتصاد الإيراني خلال العام المنقضي على أثر انتخاب روحاني رئيساً، ثم توقيع الاتفاق النووي المرحلي بين طهران والدول الست في تشرين الثاني 2013. فقد كان من شأن تلك الانفراجة أن أتاحت للنظام الإيراني مساحة، لا بأس بها، من الثقة وحرية الحركة على الصعيدين، الإقليمي والدولي. رابعاً، تراجع الحديث عن الخيار العسكري ضد إيران حال فشل استراتيجية المزاوجة بين المفاوضات والعقوبات، وذلك بعد تكاثر التعقيدات السياسية والقانونية وتفاقم التحديات الاستراتيجية التي من شأنها إعاقة ذلك الخيار حالياً أو ربما جعله ضرباً من المستحيل. لذا، لم يكن مستغرباً ألا يجد المجتمع الدولي بديلاً من اللجوء إلى تمديد المفاوضات النووية مع إيران بعد انقضاء المهلة التي كانت مقررة من دون التوصل الى اتفاق نهائي وشامل، على رغم أن المفاوضات مستمرة منذ ثلاثة عشر عاماً ولم تضع نهاية للكابوس النووي الإيراني، وعلى رغم أن اتفاق جنيف الإطاري الموقع قبل عام مضى، والذي انتهى من الناحية القانونية لأنه كان اتفاقاً مرحلياً لمدة سنة واحدة، لم يكن يسمح بتمديد المفاوضات إلا لمرة واحدة فقط انتهت بحلول الرابع والعشرين من تشرين الثاني 2014. وبشيء من التمحيص، يتضح جلياً أن الاستراتيجية التفاوضية للمفاوض الإيراني مع السداسية الدولية حول البرنامج النووي لطهران تكاد تتلاقى مع تلك التي تتبناها إسرائيل إزاء العرب في شأن السلام في المنطقة، حيث يبدي المفاوضان الإيراني والإسرائيلي استعداداً دائماً لمواصلة المفاوضات إلى آجال ممتدة من دون تحقيق مقاصدها، وذلك من خلال اختلاق مشاكل وقضايا خلافية فرعية لتحويل الاهتمام عن المسائل الرئيسة، فضلاً عن افتعال أزمات جانبية من شأنها أن تفضي إلى تجميد المفاوضات مع إبقاء الباب موارباً لاستئنافها كلما لاحت في الأفق نذر إجراءات عقابية تصعيدية موجعة من جانب المجتمع الدولي كالحديث عن تشديد العقوبات أو اللجوء الى الخيار العسكري، مع اشتراط ألا تبدأ من حيث انتهت والحرص على العودة بها إلى نقطة الصفر كلما أوشكت على الاقتراب من نهايتها. وبدورهم، وبعدما وصفوا تمديد المفاوضات بأنه «خطوة عقلانية ومنطقية»، شكك مسؤولون إيرانيون في إمكانية أن تفضي جولتها المقبلة إلى اتفاق نهائي يجمّد نشاطات بلادهم النووية، حيث أكد رئيس البرلمان الإيراني علي لاريجاني عدم انكشاف أبعاد المفاوضات كافة على رغم أربعة عشر عاماً من المحادثات السرية والعلنية وأربع رسائل مِن الرئيس الأميركي باراك أوباما للقيادة الإيرانية، ولفت إلى وجود خلافات في وجهات النظر تحتاج الى وقت لإجراء نقاشات أكثر دقة. وبينما شنّ المحافظون الإيرانيون هجوماً عنيفاً على الرئيس روحاني عقب الإعلان عن تمديد المفاوضات، إذ سخروا من فشل «مفتاحه السحري» في تغيير سياسة الولاياتالمتحدة، وافق مرشد الجمهورية الإسلامية ضمنياً على متابعة المفاوضات، مشدداً على استحالة نجاح مساعي الغرب المستعمر لتركيع إيران خلال المفاوضات النووية أو حرمانها من حقوقها النووية. ومن رحم تلك المراوغة الإيرانية، تنبلج حزمة من التحديات السياسية التي في مقدورها إعاقة الاتفاق النهائي، أولها: تشدد الوفد الإيراني المفاوض بغية استرضاء الجناح المحافظ الذي يهيمن على السلطة والملف النووي كما للشارع الإيراني الذي يرى في تحدي واشنطن وتل أبيب ومواصلة البرنامج النووي مفخرة ومجلبة للعزة والمكانة لإيران في مواجهة أعدائها. وفيما كانت السداسية الدولية تتطلع إلى أن تكون مدة سريان أي اتفاق نووي جديد بينها وبين طهران 25 عاماً من أجل بناء الثقة بين الطرفين، تصر الأخيرة على ألا تتخطى تلك المدة خمس سنوات فقط. وثانيها، رفض الغرب وإسرائيل إبرام اتفاق بروتوكولي لا يراعي تقويض نشاطات إيران النووية والحيلولة دون اقترابها من إنتاج السلاح النووي. الأمر الذي بدا جلياً في ترحيب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو بقرار تمديد المفاوضات تلافياً لاتفاق لا يلبي مصالح بلاده الأمنية. وأكدت مصادر إيرانية مسؤولة أن مشاركة إسرائيل في المفاوضات الحالية في شكل غير مباشر من خلال نقل وزير الخارجية الأميركي جون كيري لمطالبها التعجيزية كان أحد الأسباب الرئيسة لعجز تلك المفاوضات عن إدراك اتفاق نهائي. أما ثالث التحديات، فيتمثل في عودة الحديث عن احتمالات تشديد العقوبات الأميركية على إيران إلى الواجهة، مع تأهب الجمهوريين لمباشرة هيمنتهم على مجلسي الكونغرس في العشرين من كانون الثاني (يناير) المقبل، وتطلعهم الى خوض مواجهات قانونية وتشريعية مع أوباما لا تستبعد توظيف ورقة العقوبات ضد إيران لانتزاع تنازلات من رئيس أضحى بطة عرجاء في أمور داخلية خلافية مثل قانون الهجرة والإصلاح الضريبي والتأمين الصحي. وفي أول بادرة في هذا الصدد، رد الكونغرس على تمديد المفاوضات النووية مع إيران بدعوة بعض البرلمانيين إلى التصويت على عقوبات جديدة ضد طهران بذريعة حملها على تفكيك برنامجها النووي والحيلولة دون منحها مزيداً من الوقت لامتلاك القنبلة النووية. * كاتب مصري