ما تسرب من معلومات حتى الآن حول عناصر الصفقة الغربية التي قدمت لإيران يوضح أنها تضمنت بعض الحوافز والمكاسب، وأخرى تشكل تهديدات وعقوبات. إلا أنه يبدو أن هذه الصفقة مجملها تغلب عليه الحوافز الجزر على العقوبات العصي، الأمر الذي يضفي نوعاً من المرونة على المواقف مما يمكن أن يساعد على الاقتراب من حل وسط سياسي، ويحمل على الافتراض إجمالاً أنها تمثل صفقة ذات محصلة جاذبة لإيران، أو صفقة واعدة. والشرط الرئيسي يتمثل في التوصل لصيغة قبول إيراني مسبق لإيقاف عمليات التخصيب طوال فترة المفاوضات، التي قد تستغرق وقتاً طويلاً، وتعمدت واشنطن وضعه لتجنب ما حدث من ثغرات خلال تجربة المفاوضات الأميركية مع كوريا الشمالية. فالمطلوب من إيران كبح طموحها النووي على نحو يمكن التحقق منه. ويلاحظ أن الرئيس الأميركي جورج بوش حرص على أن يعلن بنفسه هذا الشرط المتصلب بهدف: - تبرير موقفه بقبول التفاوض المباشر مع طهران، داخلياً على أنه يتم من منطلق القوة وفرض الإرادة. - وقد يكون الدافع أيضاً وراء اللجوء الاميركي الى استخدام التصريحات العلنية وعلى هذا المستوى، تعقيد موقف القيادة الإيرانية في الداخل، ودفعها للرفض، مما يعطي واشنطن في المستقبل المبرر أو الغطاء الدولي للجوء لخيارات أخرى من بينها الخيار العسكري. وعلى أية حال نحن لسنا أمام حالة من المساومة التي تجري بالتراضي ويتم من خلالها التوصل إلى قاعدة مقبولة يستند إليها الجانبان لتوزيع المزايا والمنافع والالتزامات، وذلك بالتراضي بين أطرافها. بل نحن أمام صفقة تقترب مما يسمى بالمساومات القسرية Coercive Bargaining، بمعنى القبول بها ككل أو تركها بالكامل. ولعل من المفارقات أن تضخيم الرئيس الأميركي لمخاطر الجهود النووية الإيرانية الراهنة، رغم أنها ما زالت في مرحلة أولية، جعل الجانب الإيراني يتطلع لمقابل يوازي رؤية الغير لهذه المخاطر. وإذا ما تفحصنا عناصر الصفقة التي تم تسريبها، نجد أن فيها نقاطاً يمكن اعتبارها مكسباً لكل جانب. فبالنسبة الى طهران، ستتيح لها هذه الصفقة فرصة التفاوض المباشر مع واشنطن، وهو مطلب إيراني طال انتظاره، فالتفاوض عبر وسطاء كان يتم استخدامه أحياناً لصالحهم، ولتحقيق جداول أعمالهم الخاصة. فالحوار الإيراني- الأميركي المباشر سيمهد طريق التوافق وتسوية عدد من القضايا ذات الاهتمام المشترك، والحصول على مزايا تكنولوجية نووية وغيرها، واختراق الحصار الاقتصادي والسياسي. وكل ذلك وغيره يعكس اهمية الاعتراف الأميركي بدور ايران الإقليمي، ويجنبها مخاطر مواجهة عسكرية ذات تكلفة باهظة، أياً كانت قدرة إيران على الرد والإيذاء وإلحاق بعض الضرر بالمصالح الأميركية، كما ستتيح هذه الصفقة لإيران فرصة المشاركة في صياغة مفهوم جديد للأمن الإقليمي الخليجي، وغير ذلك من مكاسب سياسية واقتصادية. كما ان قبول هذه الصفقة من جانب إيران سيساعد واشنطن على إيجاد المخرج المناسب لحرب بلا أفق في العراق، ويجنبها التكاليف الباهظة لأي مواجهة عسكرية مع إيران، والتي يعتبرها مستشار الأمن القومي الأميركي السابق زبغنيو بريجنسكي"جنوناً سياسياً"يسيء إساءة بالغة للمصالح الأميركية على المدى البعيد. فخيار الضربات الجوية"الجراحية"للمواقع الإيرانية، لن يكون كامل الجدوى، وقد يؤدي إلى انفجار الموقف على المستوى الإقليمي والدولي، وإنهيار الأوضاع التي استقرت في مناطق أخرى. كما أن هذه الصفقة ستسمح بعودة الشركات الأميركية واستثماراتها النفطية والغازية في إيران، وتحجيم تطلعات منافسيها، مع الأمل في محافظة اسرائيل على احتكار السلاح النووي في المنطقة. هذه الدوافع وغيرها هي التي جعلت واشنطن تبدي استعدادها للمشاركة في التفاوض المباشر مع طهران بعد أن ظلت لسنوات طويلة تعتبر ذلك خطأً سياسياً بل وأخلاقياً، باستثناء حالة لجنة الستة زائداً اثنين المعنية بأفغانستان، التي جلست فيها إيران إضافة لدول الجوار العام 1997، على المائدة نفسها مع الولاياتالمتحدة، في نيويورك. وبطبيعة الحال فإنه بعد قبول إيران لهذه الصفقة من ناحية المبدأ، ستبدأ المفاوضات بين الجانبين لاستجلاء طبيعة الغموض المتعمد في بعض بنودها، وإدخال بعض التعديلات، أو طرح مجموعة اقتراحات مضادة، لتحقيق نوع من التوافق حول الضمانات، وحدود الالتزام، وسيستغرق ذلك وقتاً، تراه واشنطن محدوداً بأسابيع، بينما ترى طهران أنه قد يتطلب أكثر من ذلك، للتوصل في النهاية الى تنازلات متبادلة. ويلاحظ أن الرئاسة الأميركية بذلت جهداً مكثفاً وأجرت اتصالات على أعلى مستوى لبناء موقف توافقي بين أعضاء مجلس الأمن إضافة الى المانيا حول مضمون هذه الصفقة، وركزت بصفة خاصة على روسيا والصين، المعروف عنهما عدم الرغبة في توريط مجلس الأمن في القضية النووية الإيرانية أو اللجوء للعقوبات لحلها. والهدف هو منع إيران من حيازة برنامج دورة إنتاج الوقود النووي الكاملة تحت أي ذرائع، عبر اقتراح تزويدها بمفاعل نووي، وباحتياجاتها من الوقود النووي، ووضعها تحت رقابة دولية محكمة للتأكد من طرق استخدام هذا الوقود واستعادة المستنفد منه. وقد حرصت واشنطن على وضع هذا الشرط المسبق لبدء مسيرة التفاوض، حتى تتجنب ثغرات مفاوضاتها السابقة مع كوريا الشمالية. وإذا كانت تجارب الماضي تشير إلى اتسام المفاوض الإيراني بصفة عامة، بالمهارة والقدرة على تبني مواقف متضاربة أحياناً هدفها إرباك الطرف الآخر، فإن هذا المفاوض هذه المرة سيواجه موقفاً صعباً ومعقداً. فنحن أمام حالة تطالب ايران بالتراجع عن إجراء أو التوقف عن الاستمرار في عملية بدأت بالفعل تخصيب اليورانيوم، وتحولت إلى رمز للاعتزاز الوطني لدى الإيرانيين، وتبلور حولها توافق وطني إيراني. لكن التزام إيران في إطار هذه الصفقة لا يعني عمليا فقدانها لهذا الإنجاز الذي تحقق. وفي التقدير أن هناك ميلاً من الجانب الإيراني لقبول هذه الصفقة لتجنيب إيران مواجهات غير محسوبة. ومن هنا فإن القرار النهائي سيتوقف على قدرة ايران على تحسين شروطها وتحمل تكاليفها، إذا وجدها مستساغة سياسياً ويمكن تسويقها داخلياً. وقد أدلى وزير الخارجية الإيراني منوشهر متقي بتصريح له دلالته في هذا الشأن بقوله:"إن الجانب الإيراني يفضل التعاون على المواجهة"، ثم عبر في تصريح لاحق عن"رغبة إيران في إجراء حوار عادل من دون شروط مسبقة عبر الطرق الديبلوماسية". وتشير التوقعات الى أن الجانب الإيراني سيميل في النهاية إلى إعلان القبول الأولي بهذه الصفقة من ناحية المبدأ، ثم يتبع منطق التعاقب في التنفيذ. فكلما حققت ايران كسبا ما، تبدي الاستعداد للتخلي عن مرحلة من عملية التخصيب أو غيرها، وكلما أدت المفاوضات المتعلقة بالجوانب الأخرى الاقتصادية والتجارية والتكنولوجية إلى نتائج محققة، قابلت ذلك مقاربة إيرانية إيجابية، والمراهنة ستكون في النهاية على عامل الوقت والتطورات اللاحقة. والسؤال المطروح هو لمصلحة مَن يلعب عنصر الزمن؟ في التقدير أن عنصر الزمن لا يميل إجمالاً لصالح إدارة أميركية وضعها في المنطقة في حالة تدهور مستمر، وفقدت الكثير من مصداقيتها داخلياً، ولم يبق على وجودها في السلطة سوى قرابة عامين. اما في حالة إيران، فقد حصدت كل المكاسب في العراق من دون إطلاق طلقة واحدة، وحصلت نتيجة ذلك على ورقة مهمة وضاغطة على واشنطن، كما أن إيران في حاجة الى الوقت لاستكمال الاستحواذ على باقي عناصر التكنولوجيا النووية. وربما تؤدي الصفقة المعروضة على إيران إلى إبطاء جهودها العلمية، لكنها لن تستطيع منعها. إن قبول ايران لمبدأ التفاوض سيمثل مخرجاً سياسياً ليس لطهران وحدها فحسب بل ولواشنطن أيضاً. وبالتالي فالصفقة بما حوته من عناصر تتجاوز الملف النووي الى قضايا إقليمية أخرى لا تقل أهمية في نظر الجانبين. وقد يتطلب الأمر في مرحلة ما قيام أطراف ثالثة، مقبولة من الجانبين، بمساع لتقريب المواقف بينهما، وحثهما على إتمام الصفقة السياسية، من اجل التوصل إلى تسوية تمكن كل جانب من الإدعاء بأنها تحمي مصالحه القومية. * مساعد سابق لوزير الخارجية المصري.