"شاهد العيان". ثلاثة وثلاثون يوماً من الحرب. أيام قليلة من"السلم". الكاميرا لا تزال تلاحقه. هو نجم الحرب و"السلم". شاهد على القذيفة كما على الدخان الطالع بارداً من بيت مقصوف لا يزال ينزف من أيام، دخاناً. هو"سنّيد"المراسل وسنده. و"اشتهاء"مذيعي الأخبار في الاستوديوات. يختلف وجهه من لقطة الى أخرى. من شاشة الى أخرى. تتبدل الوجوه ويبقى الكلام واحداً. ذاكرتنا التي صنعتها الميديا في الأيام الماضية، ستبقى تحتفظ بنجومها. المراسلون، وأيضاً"شهود العيان"في لقطات صارت"تاريخية". لقطة أولى:"شاهد العيان". طالع من كوم الرماد. من الأشلاء. يبدو متماسكاً أكثر من التوقع."كامل"الجسد، أكثر مما ينتظر المشاهد. كان يحمل هاتفاً خليوياً ويخبر ناساً، ربما من أقاربه، انه بخير لكن العائلة كلها قطعت الأنفاس تحت الحجارة. كان في طور إجراء مكالمة محلية، إلى الضيعة المجاورة... أو دولية، إلى كندا او أفريقيا أو دبي، ربما، قبل أن يدهمه مراسل القناة التلفزيونية ويمطره بسيل من الأسئلة. انه"شاهد العيان"، نجم الحروب والغنيمة الأثيرة لإعلامها. يوجهه المراسل:"اخبرنا ماذا حصل؟". يجيب، بصدمة من لم يستوعب بعد أنه لا يزال حياً، لكي يحكي، وبذلك الخدر غير المفهوم الذي يجعله قادراً على الوقوف والترحّم على مجاميع من البشر، شرب معهم الشاي قبل ساعات، وغطى معدات الصغار منهم، قبل النوم، بخرق قماش تقيهم البرد... لكن، ليس الشظايا. شاهد العيان، يتكلم. ينتظره مراسلون آخرون، ومصورو الوكالات. لكنه، بسبب الخدر الغامض ذاته، ينسى أن يوقف المخابرة الهاتفية. يتحدث الى المراسل لحظة، والى الهاتف الملتصق بأذنه، لحظة أخرى. لا يركز في الأمرين. يبدو كلامه، الى القناة، غير مفهوم. يحاول المراسل، الذي كان يبكي قبل قليل تأثراً بمشهد الجثث المتكدسة، أن"يضبطه"أكثر. فهناك جمهور من ملايين المشاهدين ينتظرون شهادته، على خلفية كلمة"اكسكلوزيف"التي تدلت من الشاشة. كما أن الهواء مفتوح على مصراعيه لكي تتم تعبئته ب"المعلومات". المعلومات الواضحة فقط، حتى لو كان الحاكي، هنا، مشوشاً، عابراً الموت الى الحياة، قبل دقائق فقط. ودفاعاً عن حق المشاهد ب"المعلومات"، لا يتوانى المراسل، الذي كان بكى حزناً على الضحايا، أن يشد، بحركة عصبية، ذراع"الضحية الحية"الى أسفل، بمعنى قف عن الحديث عبر الهاتف و"ركز معنا". شاهد العيان لا ينفعل، بالمقابل. لكنه يستسمح المراسل أن يكون لطيفاً معه، ومقدرا لظروف المكالمة:"معليش، معي خط دولي"، يقول الناجي من المحرقة. مشهد آخر."ما قبل قانا"بأيام قليلة. مدينة صور: يقفز مراسل"الجزيرة"عباس ناصر على الهواء مباشرة بعد ثلاث دقائق، بالضبط، من قصف المبنى السكني في وسط المدينة. الدخان يتصاعد حاراً في خلفية الصورة، وناصر، المطالب من مذيع النشرة في مركز القناة في الدوحة، بالمعلومات الفورية، عليه أن يدلي بالكثير من التفاصيل التي تروي ظمأ المتسمرين قبالة الشاشة، في داخل لبنان قبل خارجه، متلقفين كل خبر جديد، بإحساس الوجع والخوف والقلق أن يكون لهم بيت او قريب او صديق او معرفة، داخل المبنى الذي قصف، أو قريباً منه. لكنّ الدقائق الثلاث لا تتيح دوماً للمراسل أن يكون على أتم الجاهزية. ليست كبسة زر تستطيع أن تصدر تقريراً شاملاً، دقيقاً، وربما مزوداً بصور التقطت من الفضاء لسطح المبنى والغسيل المنشور على حبال شرفاته. المراسل، لا يزال على الارض، خلفه الهواء الاسود المخلخل المخنوق، وأمامه هواء الفضائية الذي يجب تغطيته. يستعين بتحليلاته. تبدو موضوعية غالباً، و"شخصية"في أحيان. في لحظة، يشعر بضرورة الارتكان الى دليل عاجل. انها مقتضيات الموضوعية. واذا كان التعجل قد حوله، هو مراسل الحرب"الحيادي"تلك الكلمة التي يجب ان تلغى من قواميس الاعلام، الى صاحب رأي، فإن الدوحة تفضل، دوماً،"الرأي الآخر". في تلك العجالة، لن يتمكن ناصر سوى من التقاط أول عابر طريق أمامه، من على الرصيف المقابل، كان ماراً بالصدفة، أو تراه يحوم حول الكاميرا والمصور، وفي فمه كلام. يستدعيه المراسل على الفور، ويقدمه الى مذيع النشرة، وجمهور الشاشة، بصفته دليل الموضوعية، ناقل الخبر،"جهينة"التي لديها الخبر اليقين. هو"شاهد العيان". يسأله بالفصحى. فأهالي الخليج والصومال وموريتانيا لا يفهمون اللهجة اللبنانية، فكيف اذا كانت لكنة الجنوبي؟ يرتبك"شاهد العيان"، ويجيب بتخليط بين الفصحى والعامية. يبدو الجنوبي، ودخان أسود يغطي مدينته، غريباً على الفصحى. عاميته أقرب الى واقع محروق غير ممنتج ولا مدبلج. يصر ناصر على الفصحى. يردد الشاهد صياغات الاسئلة، كببغاء. يربكه الامر، فيتخلى عن مهمة الادلاء ب"المعلومات"ويكتفي بتوكيد كلام ناصر أو نفيه. ثم يغادر، ربما، متأففاً. شاهد العيان يكتشف أن من الصعب أن يكون شاهد عيان على عبثية الدمار و..."فصيحاً"في الوقت ذاته. هذا تأثير ارث وثقافة. اذ عودنا العرب، أصحاب اللسان الجزل، أن الفصاحة ضد الضحايا. ضد الشهداء والشهود.