تأخر الاعتدال العربي كثيرا في إظهار قدرته على التحرك في أزمة تنطوي، في أحد جوانبها الأساسية على اختبار جدواه. بدا المعتدلون العرب في حال ارتباك شديد على مدى أكثر من 20 يوما. وهذه فترة طويلة للغاية عندما يكون في كل يوم من هذه الأيام، باستثناء يومين اثنين، قصف همجي يقتل ويدمر ويحول مناطق بكاملها في لبنان إلى ركام تتناثر في ثناياه أشلاء بشر أبرياء تصادف أن يكون أكثرهم أطفالا ونساء. فكان كل مشهد من مشاهد الدمار المؤلمة يثير السؤال عن سياسة الاعتدال العربي ودورها وجدوى مرتكزاتها السلمية في مواجهة من لا يعرف إلا القوة العمياء. وكان السؤال أكثر إلحاحا في الأيام التي أدى القصف الأهوج فيها إلى مجازر، خصوصا في ذلك اليوم الذي أصبح فيه الناس، أو أمسوا حسب موقعهم على خريطة العالم، على مشاهد أطفال يتم إخراج جثثهم من تحت الأنقاض في بلدة قانا الموعودة بالمذابح الإسرائيلية. فيا لها من معضلة واجهت، وما زالت تواجه، سياسة الاعتدال العربي التي نشطت أخيرا عبر ترتيب اجتماع لوزراء الخارجية في بيروت في السابع من آب أغسطس، أي في اليوم السادس والعشرين للعدوان الإسرائيلي على لبنان. ولا يعني ذلك أن الدول العربية المعتدلة كانت غائبة تماما في الفترة السابقة، أو أنها وقفت متفرجة. فقد تحركت هذه الدول، وخصوصا مصر والسعودية، سعيا إلى إنهاء العدوان واستصدار قرار من مجلس الأمن يطالب بوقف فوري لإطلاق النار. وشملت هذه الجهود محاولة عقد مؤتمر دولي عاجل للبحث في عناصر الحل السياسي للأزمة بعد وقف إطلاق النار لإتاحة الفرصة للتفاوض حول هذه العناصر. ولكن عندما امتنعت واشنطن عن الالتزام بضرورة أن ينتهي المؤتمر بإعلان وقف فوري لإطلاق النار، رفضت مصر طلبها عقد هذا المؤتمر في القاهرة أو شرم الشيخ، ما أدى إلى نقله إلى روما. كما ساندت هذه الدول رئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة وخطته ذات النقاط السبع التي طرحها في ذلك المؤتمر. وهذا فضلا عن الدعم المالي السريع الذي قدمته السعودية، ثم الكويت، إلى لبنان. وجاء هذا الدعم في وقته، فكان له أثره في حماية الاقتصاد اللبناني من انهيار تام كان متوقعا. وعندما توجه وزراء الخارجية العرب إلى بيروت، في الوقت الذي أعلنت مصر تحفظها على مشروع القرار الذي كان قيد التصويت في مجلس الأمن ومساندتها للحكومة اللبنانية في موقفها تجاهه، بدا أن الاعتدال العربي يستعيد شيئا مما فقده في بداية الأزمة. غير أن هذا كله جاء متأخرا كثيرا. قد لا يكون الوقت فات لتعويض الخسارة التي لحقت بالاعتدال العربي وأظهرته في صورة كان يجدر بأصحابه أن ينأوا به عنها. فقد أتاح الارتباك، الذي أصاب سياسة الدول المعتدلة في بداية الأزمة، فرصة لقوى التشدد صاحبة المصلحة في تشويه معنى الاعتدال السياسي والإيحاء بأنه ينطوي على ضعف بل سعي البعض إلى المرادفة بينه وبين التخاذل حينا، وبينه وبين الانصياع لأعداء الأمة حينا آخر. وفي هذا السياق جاء اتهام دول عربية معتدلة بأنها قدمت غطاء للعدوان الإسرائيلى. وعلى سذاجة هذا الاتهام وتهافته، فهو يجسد المعضلة التي تواجه الاعتدال العربي، وتخلق أرضية لانتشار نزعات راديكالية متفاوتة في حجمها ومداها ولكن يجمع بينها انفلات من أي قواعد منطقية في حساب المكاسب والخسائر، وفي تعريف النصر والهزيمة. وهكذا أصبح الاعتدال العربي محشورا في زاوية يواجه محنة غير مسبوقة. وعلى رغم أنه بدأ في تعويض بعض ما فقده، فالمحنة التي يواجهها أكبر في هذه المرة لأنها ليست من صنع قوى التشدد والراديكالية بمقدار ما هي نتيجة ارتباك الدول المعبرة عنه، أو التي يُنظر إليها باعتبارها كذلك. وليس صعبا بطبيعة الحال فهم الظروف التي أدت إلى تأخر هذه الدول في بلورة موقف قوي ضد العدوان الإسرائيلي. فمن خصائص السياسة المعتدلة أنها تحرص على أن تكون في موقع الفعل أكثر من موقع رد الفعل كلما كان هذا ممكنا، حتى لا يسهل استدراجها إلى معارك لم تستعد لها حتى على المستوى السياسي، وليس فقط على الصعيد العسكري. ومن خصائصها أيضا أنها تؤمن بأنه لا حل عسكريا ممكنا للصراع العربي-الإسرائيلي سواء في مركزه الفلسطيني، أو فى أي من جوانبه. فأي مواجهة عسكرية، وفق الرؤية المعتدلة، ستنتهي إما إلى حالة لا غالب ولا مغلوب، أو إلى حالة غلبة جزئية لا ترتب نتيجة حاسمة أو حتى شبه حاسمة. هذا المنطق المعتدل أزعجه قيام مقاتلي حزب الله بعملية"الوعد الصادق"التي لا يمكن إلا أن ترتب عدوانا إسرائيليا واسعا قابلا لتفجير حرب إقليمية لا نتيجة لها إلا دمار هائل يصيب كل أطرافها. ومن هنا كان الموقف النقدي الذي اتخذته عدة دول عربية تجاه عملية حزب الله، مع تفاوت المدى الذي بلغه هذا النقد في الصياغة والمضمون. وكان الأفضل إرجاء الإعلان عن هذا الموقف إلى مرحلة تالية مثلما فعلت قوى لبنانية تتبنى الموقف نفسه، أو الجمع بينه وبين موقف أقوى ضد العدوان الإسرائيلي مصحوبا بإجراءات احتجاجية، أي اتخاذ موقف يتجاوز الإدانة اللفظية والشجب الكلامي. وكان في إمكان مصر والأردن أن تتخذا إجراء يظهر قوة الاعتدال العربي ومبدئيته من دون أن يؤدي إلى مواجهة من النوع الذي يحرص الاعتدال العربي على عدم استدراجه إليه من دون أن يكون مستعدا له. واستخدمت الدولتان هذا الإجراء من قبل احتجاجا على تصعيد العدوان الإسرائيلي ضد الفلسطينيين عقب نشوب انتفاضة الأقصى في أيلول سبتمبر 2000. قررت مصر في 22 تشرين الثاني نوفمبر من ذلك العام استدعاء سفيرها لدى إسرائيل احتجاجا على عدوان إسرائيل وتجاهلها التفاهمات التي سبق الاتفاق عليها في شرم الشيخ في الشهر السابق على هذا القرار. وكانت تلك التفاهمات تقضي بإعادة انتشار القوات الإسرائيلية وإعادتها إلى مواقعها التي كانت فيها يوم 28 أيلول سبتمبر 2000 عندما اندلعت الانتفاضة اثر زيارة زعيم المعارضة حينئذ آرييل شارون المسلحة إلى المسجد الأقصى في ذلك اليوم. كما نصت تفاهمات شرم الشيخ، التي وافقت عليها إسرائيل ثم خرقت التزامها بها، على رفع الطوق الأمني عن الأراضي الفلسطينية وإعادة فتح المعابر وتشغيل مطار غزة وتشكيل لجنة تقصي حقائق. وأعلنت مصر وقتها أن سفيرها سيبقى في القاهرة ولن يعاد إلى تل أبيب إلا عندما تتراجع إسرائيل وتوقف اعتداءاتها الوحشية على الشعب الفلسطيني وتلتزم بتفاهمات شرم الشيخ. واتخذ الأردن موقفا مماثلا، مع اختلاف بسيط لأن سفيره لدى إسرائيل كانت فترة خدمته انتهت، فقرر عدم إرسال السفير الجديد إلا بشروط مماثلة لتلك التي حددتها مصر. ومن الطبيعي أن يكون هناك خلاف على جدوى مثل هذا الإجراء وحدود تأثيره الفعلي. ولكن يصعب إنكار أن لهذا النوع من الإجراءات أهميته خصوصا حين يتعلق بمسألة تدخل في صميم الشرعية الإقليمية للدولة العبرية، وهي الشرعية التي ظلت تبحث عنها منذ الاعتراف الدولي بها. ولذلك فإن معاودة اتخاذ هذا الإجراء بعد نحو عام ونصف العام فقط على إعادة السفيرين الأردني ثم المصري إلى إسرائيل في شباط فبراير وآذار مارس 2005 تؤكد جدية الدولتين في مراجعة علاقاتهما مع إسرائيل، الأمر الذي يجعل شرعيتها الإقليمية المستمدة من المعاهدة الموقعة بينها وبين كل منهما موضع تهديد. أما أثر مثل هذا الإجراء في تأكيد أن للاعتدال العربي قوته، وأنه لا ينطوي على ضعف أو تخاذل، فهو ما قد لا يكون موضع شك. وهذا هو ما كانت سياسة الاعتدال في أشد الحاجة إليه حتى لا تُحشر في زاوية لا تحسد عليها. وليس في تكرار استخدام سحب السفيرين المصري والأردني ما يضعف هذه الورقة أو يبدد قيمتها، بل قد يكون في هذا التكرار ما يقويها، وخصوصا أنها ليست الورقة الديبلوماسية الوحيدة في هذا المجال. فثمة إجراء ثان أقوى يمكن اللجوء إليه عند الحاجة، وهو خفض مستوى العلاقات الديبلوماسية من سفير إلى قائم بالأعمال. وليس في هذا الإجراء الأقوى إخلال بالتزامات مصر والأردن لأن معاهدتي السلام اللتين وقعاها مع إسرائيل تنصان على إقامة علاقات ديبلوماسية من دون تحديد مستوى هذه العلاقات. ويعني ذلك أن الاعتدال العربي يمتلك أوراق ضغط وأدوات تأثير، وأن من الظلم وصفه بالضعف والتخاذل. ولعل المعتدلين العرب يستوعبون درس هذه الأزمة، فلا يضعون سياسة الاعتدال في مثل هذا الوضع في أية أزمة مقبلة.