أثارت قمتا العقبة وشرم الشيخ عاصفة قوية من ردود الفعل في المنطقة، ومن الواضح أنها لن تهدأ في وقت قصير. واندلع صراع ايديولوجي وسياسي في الساحتين الفلسطينية والإسرائيلية في شأن خطة "خريطة الطريق" لتسوية النزاع وفق "رؤية" الرئيس جورج بوش التي طرحها في 24 حزيران يونيو 2002. وأكدت التطورات الدراماتيكية التي شهدتها الأراضي الفلسطينية فور انتهاء القمتين أن ما حدث فيهما كان دون المستوى المطلوب لمنع تدهور الوضع الأمني على الأرض بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وكرس انفجار الوضع بعد العقبة انطباعاً بأنها تسببت في تأجيج الصراع بدلاً من تهدئته. وباتت التوجهات الأميركية الجديدة التي بلورها بوش شخصياً في مهب الريح، ولا أحد يضمن أن يكون مصيرها أفضل من مصير الخطط والتوجهات القديمة التي بلورها في العامين الماضيين رسله ومبعوثوه باول وميتشل وتشيني وبيرنز. وعلى رغم وضوح الصورة في قمة العقبة وقبلها، أظهر أركان الإدارة الأميركية شعوراً بالمفاجأة من جراء تدهور الوضع في قطاع غزة بعد العقبة، وبخاصة نقض شارون التزامه وقيام أجهزته الأمنية يوم 10/6/2003 بمحاولة اغتيال الدكتور عبدالعزيز الرنتيسي، الشخصية البارزة في قيادة حركة "حماس". وكانت التقديرات الأميركية والأردنية وتقديرات رئيس الوزراء الفلسطيني محمود عباس والوفد المرافق له والمراقبين تتجه نحو اعتبار تفاهمات الغرف المغلقة في العقبة كافية لتأسيس أرضية تصلح للبناء عليها في عملية تنفيذ، المرحلة الأولى من خطة "خريطة الطريق" كحد أدنى. لكن محاولة الاغتيال وردّ "حماس" بتفجير باص في مدينة القدس وما تلاهما من أعمال حربية، بيّنت خطأ هذا التقدير. وأكدت أن الموافقة النظرية على التوجهات الأميركية لحل النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي كما وردت في "الخريطة"، لا تعني بالضرورة التزام تنفيذها. أما تحفظات شارون ال14 على الخريطة فهي قابلة للتحول بسرعة إلى غارات جوية واغتيالات ومداهمات. وتلقت الجهود الأميركية صفعة على يد المتطرفين في الجانبين، قبل أن يرتاح بوش من عناء رحلته الطويلة، وتبيّن للجميع أن المعارضين والمعترضين سراً وعلناً على الخريطة ليسوا ضعفاء ولديهم القدرة على "خريطة" الحركة حسب خطة يرسمها سيد البيت الأبيض بنفسه. والتدقيق في رد الفعل الأميركي و"انزعاج" الرئيس بوش علناً من محاولة اغتيال الرنتيسي يبيّن أنه غير مسبوق في عهد هذه الإدارة الرد، ويحمل في ثناياه اتهاماً مبطناً لشارون بالإقدام على محاولة الاغتيال عن سابق قصد وإصرار لتخريب نتائج قمة العقبة التي لم تعجبه ولم تعجب وزير دفاعه شاؤول موفاز. صحيح أن "حماس" وقوى المعارضة الفلسطينية عارضت خطة "خريطة الطريق" بصورة أوضح من شارون، ورفض قادتها الالتزام، من دون مقابل، بفترة التهدئة التي اقترحها رئيس الحكومة الفلسطينية، لكن أركان إدارة بوش وجميع المعنيين بتسوية النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي يعرفون أن قيادة "حماس" لم تغلق باب الحوار مع "أبو مازن" وحكومته، والحوار يتواصل بين الطرفين من دون انقطاع، وهما يقتربان بمساعدة الأشقاء المصريين من الاتفاق على هدنة طويلة في إطار اتفاق يمكن تسميته "غزة أولاً"، توقف بموجبه حركة "حماس" العمليات العسكرية ضد إسرائيل، وتوقف إسرائيل الاغتيالات وتسحب جيشها من مدن وقرى ومخيمات القطاع إلى مواقعه السابقة قبل انفجار الانتفاضة في أيلول سبتمبر 2000، وتأخذ حكومة "أبو مازن" فرصة انتزاع، بمساعدة أميركية، ما يمكن انتزاعه من حكومة شارون من الحقوق الفلسطينية الكبيرة والصغيرة الكثيرة المغتصبة. وبغض النظر عن الدوافع والأسباب التي قدمها شارون للإدارة الأميركية والرأي العام الإسرائيلي والعالمي في شأن محاولة اغتيال الرنتيسي، فإن نوع العملية وتوقيتها يبينان، لمن يبحث عن الحقيقة، أنها تمت في إطار سياسة هجومية قررها شارون بعد العقبة آملاً بتحقيق أهداف داخلية وخارجية عدة في غارة جوية واحدة، أولها تفجير الوضع وتخريب نتائج قمة العقبة وقطع الطريق على "خريطة الطريق" التي تحفظ عنها، والتخلص من أحد رموز حركة "حماس" المتشددين واستفزاز قيادة الحركة وجهازها العسكري واستدراجهم الى الميدان الذي يريد كذلك دفعهم الى تصعيد عملياتهم ضد المدنيين الإسرائيليين في الوقت الذي يريده، وبالتالي استثمار التصعيد في تخريب "خريطة الطريق" أو تأجيل تنفيذها. ويبدو أن شارون استنتج من محادثات العقبة أن الجانب الأميركي نصب شركاً لإسرائيل اسمه خطة "خريطة الطريق"، خصوصاً أن الرئيس بوش طالب الطرفين بتنفيذ التزاماتهما بصيغة أقرب إلى التنفيذ بالتوازي منه إلى التوالي، ولم يلتفت للتحفظات ال14 التي سجلها شارون وضمنها التأكد أولاً من نجاح "أبو مازن" ودحلان في محاربة الإرهاب قبل شروع إسرائيل في تنفيذ التزاماتها الواردة في الخطة. وثاني أهداف شارون من محاولة اغتيال الرنتيسي وتفجير الوضع هو احباط التفاهم الأميركي - الفلسطيني الأولي الذي نشأ في العقبة ومنعه من التواصل والتطور، خصوصاً أن شارون ومساعديه شاهدوا ولمسوا آثار نجاح "أبو مازن" في عرض وجهة نظره ب"العربية" وكسب ثقة الرئيس بوش والوفد المرافق له. إذ مسح في لقاء دام ساعتين معظم التشويهات التي لحقت بالموقف الفلسطيني على مدى عامين، على حد تعبير أعضاء في الوفد الأميركي، واقنع الرئيس بوش بوجهة النظر الفلسطينية المتعلقة بتهدئة الوضع وعمل هدنة مع حركة "حماس" وقوى المعارضة بدلاً من الدخول في صدام دموي معهم وتفجير حرب أهلية يصعب التكهن بنتائجها كما يتمنى شارون. وخلق الوفد الفلسطيني في العقبة تبايناً في الموقفين الإسرائيلي والأميركي في مسائل عدة، منها مسألة الحرب على الإرهاب والاجراءات الإسرائيلية غير الإنسانية وسياسة الاستيطان وبناء الجدار الفاصل وتحرير أموال السلطة، وتعزيز دور "أبو مازن" وحكومته… الخ. وتمثل هدف شارون الثالث من محاولة الاغتيال في اشباع قناعته الشخصية المعادية للحقوق الفلسطينية، وارضاء قواعد وكوادر وجمهور حزب "ليكود" الذي ينتمي له، الذين اتهموه بخيانة مبادئ الحزب وعارضوا خطة "خريطة الطريق" التي "وافق" عليها، وطمأنة المستوطنين الذين قرروا الشروع في نضال ضده وضد حكومته، وأيضاً صيانة وحدة حكومته وارضاء شركائه من اليمين المتطرف الذين رفضوا فكرة تقسيم "أرض الميعاد التي منحها الله لبني إسرائيل"، واتهموه بالضعف والاستسلام في مواجهة الضغوط الأميركية، وبالتخاذل والتفريط أمام الإرهاب الفلسطيني، وهددوا بالخروج من الائتلاف الحكومي. لا جدال في أن قراءة مقدمات ومجريات ونتائج قمة العقبة تستحق أن يختلف الفلسطينيون حولها، خصوصاًَ أنهم لم يلمسوا قبلها وخلالها شيئاً ايجابياً، ولمسوا بعدها تشديداً في الحصار الإسرائيلي وزيادة في القصف البري والجوي وتطوراً في الاغتيالات والاجتياحات والتدمير. ومن حق المعارضة أن تشتم "خريطة الطريق" صباحاً ومساءً، وترى النصف الفارغ من الكأس فقط، وتقول إن قمة العقبة لم تحل المشاكل العالقة بين الطرفين، بل زادتها تعقيداً، وتعتبر ان إزالة كرفان هنا وآخر هناك لا يعني شيئاً، كما قال عرفات… الى ما هناك من ملاحظات لإبداء الرفض والتحفظ. ولكن لا يحق لأحد أن ينكر أن ثمة مكاسب حققها الفلسطينيون من الموافقة على "خريطة الطريق" "السيئة"، ومن المشاركة في قمتي العقبة وشرم الشيخ. من هذه المكاسب: تجديد الدعم العربي للحقوق الوطنية الفلسطينية وبخاصة حقه في دولة مستقلة، وتجدد زخم التحرك الدولي لحل القضية الفلسطينية، واعتبار حلها مفتاح إعادة الاستقرار للمنطقة. وتبني الولاياتالمتحدة موقفاً جديداً شبه متوازن وتحول شعار قيام الدولة الفلسطينية قبل عام 2005 إلى نقطة محورية في سياستها في الشرق الأوسط، وتفهم الرئيس بوش تمسك الفلسطينيين بحل خلافاتهم الداخلية بالحوار بدلاً من تفجير حرب أهلية داخلية. إلى ذلك، لا يجوز أيضاً التقليل من قيمة اضطرار شارون إلى الموافقة على "خريطة الطريق" حتى لو كانت موافقته ملتوية ومشروطة بعدم تنفيذ "الخريطة" قبل عام 2005. فالموافقة سببت له مشاكل داخلية وخارجية. وتضمنت اعتراف أسوأ وأكثر حكومة يمينية متطرفة في إسرائيل بالفشل في كسر الإرادة الفلسطينية وحل النزاع بالقوة وفق رؤيتها. وأظن أن الاستخفاف بما سمعه الوفد الفلسطيني من بوش مباشرة يقلص إمكان التقاط الفرص واستثمارها، وبخاصة تصميمه، كما قال، على تنفيذ رؤيته وتخليص الفلسطينيين من الظلم والعيش في دولة "كما خلّص الشعبين الأفغاني والعراقي"… وقوله أيضاً: "ذهبت إلى العراق على رغم معارضة الجميع وسألزم شارون بتنفيذ التزاماته على رغم شك كثيرين بقدرتي على إلزامه وضمنهم والدي". وإذا كانت هذه المكاسب تبدو للبعض قليلة وصغيرة، فهي تنطوي على أهمية في مسيرة الصراع الطويلة، خصوصاً في مرحلة تداعيات الحرب على العراق. ويمكن استثمار كلام بوش في الحد من اعتداءات شارون وتقليص الخسائر الفلسطينية إذا كان البعض يعتبره كلاماً "فارغاً" غير ملزم ولا يوفر أرضية لتطوير العلاقة الفلسطينية - الأميركية. لا شك في أن قيادة الرئيس بوش شخصياً للحركة الأميركية الجديدة لتسوية النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي وعقده مؤتمرين متتاليين في شرم الشيخ والعقبة يعطي الحركة بعداً خاصاً، ولكن يخطئ من يعتقد أن هذا البعد كافٍ لتنفيذ "خريطة الطريق" بمراحلها الثلاث، ويصعب رؤية الطرفين في عهد شارون يتقدمان بسرعة ويجتازان المرحلة الأولى من "الخريطة" قبل انتخابات الرئاسة الأميركية أواخر العام المقبل، وأشك في قدرة المبعوث الأميركي جون وولف وفريقه على انجاز هذه المهمة وارغام شارون على سحب جيشه إلى مواقعه القديمة قبل انفجار الانتفاضة في أيلول 2000. ولعل يفيد القول أيضاً ان الاستمرار في مجاراة شارون والسكوت على جرائمه كفيلان بتحويل الرئيس بوش الناجح في العراق… إلى رئيس فاشل في القضية الأهم، قضية السلام في الشرق الأوسط. وفي كل الحالات الاتفاق على هدنة توقف الخسائر الفلسطينية خير من استمرار النزيف. * كاتب فلسطيني، رام الله.