من بين الحبر الأسود المسكوب فوق ورق الصحف، وهتافات القضاة والصحافيين ضد الضرب والحبس، من بين الدم الأحمر المراق في العراق وفلسطين ولبنان، توقفت عند خبر صغير عن طفل يموت، في القوصية بأسيوط، أثناء عملية ختان. لم ينتبه أحد الى هذا الخبر المنشور، وتساءلت: أليس الدم هو الدم وموت الأطفال هو الموت، بالمشرط أو بالحرب؟ أليس موت الأطفال في قرية مصرية، مثل موت الأطفال في ساحة القتال؟ وخبر آخر عن طفلة في السادسة يضربها أبوها حتى الموت، لأنها خرجت لتلعب أمام البيت مع الأطفال! هل هناك علاقة بين قوى المعارضة السياسية في مصر وبين موت طفل في القوصية بأسيوط أثناء عملية ختان؟ أو موت طفلة ضربها أبوها في نزلة السمان؟ من تجربتي الحياتية خلال العقود الثلاثة الماضية يمكنني القول ان غالبية القوى المعارضة السياسية المصرية، على رغم كفاحها المستمر وإخلاصها لأهدافها ومبادئها، لم يكن لها التأثير ولا الفعالية التي تمكنها من أن تصلح نظام الحكم أو تقضي على الفساد، أو تدفع نحو مزيد من العدل الاقتصادي أو الاجتماعي الذي يقلل الفوارق بين الطبقات أو بين الرجال والنساء أو بين الكبار والأطفال، أو يؤدي الى مزيد من الحرية أو الديموقراطية الحقيقية، أو التخلص من الاستبداد الداخلي والهيمنة الخارجية. لماذا؟؟ أهم أسباب فشل غالبية القوة السياسية المعارضة في مصر: 1 - انها اقرب الى أصحاب السلطة والنفوذ والمال منها الى جموع الشعب نساء ورجالاً وشباباً وأطفالاً. ولهذا، فإن نقدها لا يستمر طويلاً، احتجاجها وغضبها يزولان سريعاً، ما ان يلقى اليهم بالفتات من الديموقراطية أو التعديلات الجزئية، للقانون أو بند من الدستور، حتى يهللوا ويكبروا ويرسلوا البرقيات شاكرين اللفتة الكريمة. مثال واحد من معركة المعارضة المصرية الأخيرة ضد المادة المستحدثة في قانون الصحافة والتي تقضي بالحبس أو الغرامة لأي صحافي أو كاتب يشكك في الذمة المالية لأي مسؤول. هذه المادة التي تحمي الفساد فعلاً بحيث لا يمكن أحداً أن يتساءل عن مصدر ثروة أحد أو يحاول تطبيق قانون من أين لك هذا؟ ليس سهلاً على المرء في بلادنا أن يعرف المعارض للحكم والمؤيد له، وكان مشهد عجيب في البرلمان المصري حين صفق نواب الحكومة والمعارضة لقرار الرئيس بالغاء فقرة حبس الصحافيين، وتبارى الجميع في اللهج بآيات المدح. من دون ادراك لبقية القرار أو رؤية الفخ المفتوح الذي يحول شكل العقاب من دخول السجن الى عقاب آخر يبدو أخف، وإن كان أشد وطأة، لأن دخول السجن أخف من دفع غرامة مالية تصل الى 40 ألف جنيه مصري ولا تقل عن 15 ألف جنيه، خصوصاً للمعارضين الكادحين من الطبقة الوسطى المنقرضة أو الذائبة في الطبقة الدنيا. وقعت غالبية فصائل المعارضة المصرية في الفخ لأنها متسرعة في قراراتها ولأنها تقف على الحافة، ذلك الموقف البين بين، الذي يمكنها من انتهاز أية فرصة للقفز على مقاليد الامور في الحكم أو المعارضة. 2- المشكلة الثانية هي غياب الوعي لدى غالبية النخب المعارضة وانشغالها بأمور السياسة اليومية عن أمور الفكر ورفع الوعي لنفسها وللرأي العام المصري. ان انخفاض الوعي العام في بلادنا ليس الا نتيجة انخفاض الوعي لدى النخب التي تلعب دوراً رئيساً في تشكيل الرأي العام لدى الجماهير نساء ورجالاً وشباباً وأطفالاً.... 3- المشكلة الثالثة هي العجز عن الرؤية الشاملة الكلية للمجتمع بنسائه ورجاله وشبابه وأطفاله، أو العجز عن ربط المشاكل السياسية بالمشاكل الاجتماعية، العجز عن ربط الحياة العامة بالحياة الشخصية الخاصة في البيت. وهل يمكن أن تكون ديموقراطية حقيقة من دون نصف المجتمع من النساء؟ هل تكون ديموقراطية تحت قبة البرلمان وديكتاتورية في البيوت والمدارس والاحزاب؟ هل يصبح الرجل ديموقراطياً فجأة بخروجه من بيته الى البرلمان؟ أليست الديموقراطية هي السلوك اليومي وفي كل مكان؟ كيف تتجاهل المعارضة المصرية بطش الآباء بأطفالهم ونسائهم تحت اسم التأديب؟ كيف يتم التغاضي عن عذابات الملايين من الاطفال وأمهاتهم بخاصة المحرومين من الشرف ولقمة العيش ومن الوعي والتعليم؟ لقد تم اختزال المجتمع المصري الى قلة غالبيتهم رجال كهول يملكون قوة الحكم أو قوة المعارضة والكتابة في الصحف والتظاهر أو الاضراب، الى جانب السلطة الأبوية المطلقة في البيت. لقد انشغل المجتمع المصري في الشهور الاخيرة بمشكلة القضاة ومشكلة الصحافيين، ومع أهمية هذه القضايا الا انها تطغى على القضايا الاخرى التي تمس حياة الملايين نساء ورجالاً وأطفالاً، هذه القلة المحظوظة من طبقة القضاة والصحافيين تستطيع دائماً بقوة نفوذها أن تفرض مطالبها على الشعب كله وعلى الحكومة. وهناك مثل يقول الطفل الاعلى صراخاً يوضع على الثدي ليرضع قبل غيره من الاطفال الساكتين. معظم الشعب المصري من هؤلاء الساكتين الذين لا صوت لهم ولا حول ولا قوة ولا قدرة على الكتابة في الصحف او الصراخ في الفضائيات والإذاعات وليس لهم نواد قوية مثل نادي القضاة او نقابات ذات نفوذ مثل نقابة الصحافيين يمكن ان تقلق النظام الحاكم. في قاع المجتمع المصري يرقد ملايين الأطفال المضروبين بقسوة الأب او المحرومين من شرف اسم الأب او من الطعام الكافي او السكن الصحي او التعليم أو الأمان، او المعرضين لمخاطر عمليات الختان واستئصال جزء من لحمهم الحي في الأيام الأولى من العمر. وترقد في القاع ايضاً بنات وأمهات صغيرات يتعرضن للاغتصاب الجنسي والإنساني ويتحملن وحدهن وزر التنفيس عن الإحباط والفشل واليأس والحرمان الجنسي لملايين الرجال والشبان. تعجز غالبية النخب المعارضة المصرية على مدى العقود عن إدراك مشاكل هذه الغالبية الساكتة العاجزة عن التعبير، والتي ان عبرت تم زجرها لأنها تتكلم في امور حساسة تندرج تحت الجنس او الدين. لقد هللت المعارضة الحكومية وغير الحكومية للطفلة"آلاء"التي تبارت الأقلام في الكتابة عنها لأن مشكلتها شقت طريقها الى الرئيس عبر الصحافة فمنحها اللفتة الكريمة، وانحلت مشكلتها في سرعة البرق، كأنما عثرت وهي تنبش التراب على خاتم سليمان فقال لها: شبيك لبيك انا بين ايديك؟ تلعب هذه النخبة المصرية المعارضة دوراً في خفض الوعي لدى الأطفال ذكوراً وإناثاً، وخلع البطولة الزائفة على أي واحد منهم يصل الى خاتم سليمان. لماذا تعجز النخب المعارضة في بلادنا عن اعتبار مشاكل الأطفال وأمهاتهم مهمة مثل مشاكل القضاة والصحافيين؟ وعدد الأطفال وأمهاتهم المظلومين بالملايين المحرومين من لقمة العيش أو الشرف أو كليهما، خلاف الضحايا منهم لعمليات استئصال اجزاء من لحمهم. في مصر مليونا طفل وطفلة ضحايا الفساد الأخلاقي السائد بين الآباء الذكور من امثال الأب النذل في قصيدة نزار قباني، الذي يعطي نفسه حق المتعة الجنسية من دون تحمل المسؤولية تجاه طفله الناتج من هذه المتعة. هؤلاء الأطفال غير الشرفاء غير الشرعيين، الذين نعاقبهم وحدهم او مع امهاتهم البائسات، المغتصبات بالقوة او بالخداع، ولا نقدر على عقاب آبائهم الأقوياء ذوي المكانة او ذوي العضلات. لماذا يعتبر حق مئات القضاة او بضعة آلاف من الصحافيين في الحرية اهم من حق ملايين الأطفال في الحياة والشرف والطعام والتعليم والصحة واكتمال اجزاء الجسد؟ هل لأنهم ليس لهم قوة القضاة والصحافيين السياسية على رغم انهم اكثر عدداً؟ بالملايين؟ أهي فلسفة القوة التي تحكم عقول المعارضة كما تحكم عقول الحكومة؟ هل يمكن هذه النخب المعارضة ان تسعى لتنظيم هؤلاء الأطفال ليصبحوا قوة سياسية منظمة مثل نقابة الصحافيين او نادي القضاة؟ وقد اصبح هذا السؤال وارداً: لماذا لا يكون في بلادنا تنظيم سياسي من الأطفال مثل تنظيمات الرجال والنساء والشباب؟ من دون تنظيمات الأطفال لن تهتم المعارضة أو الحكومة بمشاكلهم لأن الحقوق لا تمنح بل تؤخذ وهذا يسري على الصغار مثل الكبار. القاهرة - 14 تموز يوليو 2006 * كاتبة مصرية، والنص مقاطع من مقال طويل