يقول الفيلسوف الألماني كانط"لو كانت سعادة العالم بأسره مرهونة بقتل طفل بريء، لاعتبر قتل هذا الطفل جريمة لا تغتفر". إزاء هذه المقولة الأخلاقية، كم يبدو سيل التعليقات والتحليلات والتنظيرات التي تضخها الفضائيات، سخيفاً، وكم يبدو فيض الشعارات، والدعوات، الصادقة والمراوغة معاً، مبتذلاً ومجانياً. الدماء تسيل، والقذائف تنهمر، والطائرات تغير، وأزيز الرصاص يملأ المكان، فيما المحللون السياسيون منشغلون بالبحث عن الأسباب والمسببات، ومنهمكون بعرض قدراتهم التحليلية، بيد أن الأرقام، والتقديرات، والتكهنات تسقط أمام هول الحقيقة، حقيقة وطن يدمر والفضائيات العربية تشهد على الدمار. ليس مطلوباً من الفضائيات، بالطبع، أن تخوض حرباً ضد العدوان، لكن عليها أن تتمتع بقدر من التوازن يخولها التمييز بين الخبر المؤثر، والمعبر، وبين الخبر غير المؤثر، والنافل. فما كان ينبغي، على سبيل المثال، للخبر الذي قال أن"أطفال إسرائيل يكتبون على الصواريخ الإسرائيلية، المعدة للإطلاق باتجاه الأراضي اللبنانية، عبارة"هدية من أطفال إسرائيل إلى أطفال لبنان"أن يمر سريعاً وخجولاً، فمثل هذا الخبر الثانوي، بالمعايير الفضائية، يعادل آلاف الشعارات، والخطابات، ويمكن توظيفه بصورة تخدم عبرها الفضائيات العربية دورها ووظيفتها، في هذه اللحظة العصيبة، وظيفة التنديد بعدوان يحرق وطناً جميلاً، مسالماً كلبنان. إن هذا الرهط من المحللين السياسيين الذين أصبحوا نجوماً، بين ليلة وضحاها، لا يمكن لهم أن يواسوا، بآرائهم ووجهات نظرهم، المشردين والجرحى، والمنكوبين، وليس في مقدورهم إطفاء الحريق المتأجج في القلوب، فما قيمة الكلمات الباردة وسط دماء حارة تسيل بلا حساب، وما أهمية العبارات المنمقة وهي تغرق، بمجرد التفوه بها، في رائحة النعوش، وتبهت ضمن مشهد يتصدره لون بياض الكفن. الفضائيات التي، بوغتت، بدورها، ربما، بحجم الدمار والقصف تتعثر في كيفية القيام بتغطية مناسبة، فتتعقب المحللين السياسيين، وتذهب إلى عواصم صنع القرار بحثاً عن تصريح أو إعلان طازج، وتلاحق مسار الصواريخ المنهمرة، وهي إذ تقع تحت وطأة الجديد في كل لحظة، تفشل في الاستناد إلى ضوابط لترتيب الأخبار، وقراءة الأولويات. ومن هنا قد نجد أن الفضائيات تتوجه نحو الكنيست الإسرائيلي مثلاً، لرصد تهديدات ايهود أولمرت رئيس الوزراء الإسرائيلي، وتتجاهل، في الآن ذاته، ظروف عائلة لبنانية تفر نحو مجهول قد يكون آمناً. وبعيداً من المواقف السياسية العربية الرسمية المتباينة، فإن التلفزيون، الذي أثبت مقدرة على جعل الحروب مرئية، ومباشرة وحية، وموجعة، يمكن له، أن يراجع أداءه قليلاً، ليتبين مواقع الخلل، والتقصير... ولأن الفضائيات العربية جميعها، كما هو مفروض، تحتج على هذه الحرب"البربرية"، فإن هذا الموقف يتطلب تجسيداً حكيماً بالكلمة والصورة، عبر التركيز على ما يدعم هذا الموقف، وتجاهل ما يناقضه، وبث الأخبار انطلاقاً منه. ولعل المشاهد المغلوب على أمره يهجس بسخرية، ومرارة: لو كنا نملك جيشاً من الجنود مثل هذا الجيش من المحللين السياسيين لما عرفنا الهزيمة، يوماً، ولما شهدنا هذا"الصيف اللبناني الساخن"الطويل، والمريع!!.