في كانون الثاني (يناير) الماضي، كتبت جريدة «جيروزاليم بوست» الإسرائيلية موضوعاً صحافياً عنوانه «ترامب في الإعلام العربي». تناول الموضوع ما يبثه الإعلام العربي حول الرئيس الأميركي دونالد ترامب وما تردد حينئذ عن نية نقل السفارة الأميركية إلى القدس وردود الفعل الروسية المتوقعة. جاء المقال عبارة عن لوحة موزاييك متنافرة بمواقف وتوجهات بينها ما يفرق أكثر مما يجمع. وقد جمعت عشرات الشاشات قبل أيام بثاً موحداً تم بالتنسيق مع اتحاد إذاعات الدول العربية تحت مظلة جامعة الدول العربية تحت شعار «يوم الإعلام العربي». الهدف كان مساندة الشعب الفلسطيني ومدينة القدس التي تعيش ومعها ملايين العرب لحظات هي بين الأسوأ في تاريخ العالم العربي. تواترت التصريحات وجاءت التنويهات لتشير إلى ضرورة تفعيل الإعلام العربي باعتباره صوت الشعوب العربية ونبضها، وحتمية وقوف هذه القنوات وقفة قناة واحدة رفضاً للقرار الأميركي وشجباً للعالم الصامت إزاء ضياع القدس عربياً. العودة الموحدة للوحدة العربية لنصرة القدس ورفض إعلان ترامب دامت 24 ساعة. تغطيات خبرية، وتقارير وثائقية، وأغنيات تراجيدية، ونقاشات نارية، وحوارات سياسية، وجدليات حقوقية، واستعراضات تاريخية، وتأكيدات على مدار اليوم على عروبة القدس وحق العرب التاريخي في المدينةالمحتلة ورفض بكل شكل تلفزيوني ولون إعلامي لضياع القدس وتبخر القضية. كل ذلك دارت رحاه بلهجات عربية شتى تجسدت في أوبريتات عربية وطنية في الفواصل حيث المصرية والفلسطينية والأردنية واللبنانية والعراقية والسعودية وغيرها. لكن في غير يوم البث الموحد، قبل استلاب القدس وأثنائها وبعدها بدت الشاشات أقرب ما تكون إلى المواقف العربية غير الموحدة. الشاشات العربية ظلت على مدار سنوات عمرها التي قارب أقدمها على إطفاء شمعته الستين جزءاً لا يتجزأ من القضية الفلسطينية قضية كل العرب. كل العرب عبر شاشاتهم التي شهدت انتعاشاً ودخلت عصر السمات المفتوحة من أوسع أبوابه يقفون اليوم موقف اللاعب المؤثر الذي لعب دوراً لا يمكن إنكاره في ضياع القدس أو الإبقاء عليها أو تجميدها لتصبح بين بينين. وبين ظهور للمرة الأولى في تاريخ الشاشات العربية لضيوف إسرائيليين على شاشة عربية إخبارية لتحليل الأوضاع وتقويم الأحوال العربية من وجهة نظر إسرائيلية، ورفض وشجب وشتم لهذا الظهور واستضافة محللين وخبراء مهمتهم تصويب سهام الاتهام وتوصيف شكل الإعلام المرحب ب «العدو» و «الكيان الصهويني» باعتباره «خائناً وعميلاً»، وتأرجح بين استمساك بمقاطعة الجار الإسرائيلي وعدم الاعتراف به تلفزيونياً، على أن تتم الإشارة إلى ما قاله المحلل بنيامين أو الخبير نافون أو الكاتب الصحافي ليفي والقائمة طويلة على الشاشة الجريئة. لكن لا «جرأة» الشاشة العربية في استضافة «العدو» ولا إقدام الشاشات العربية الأخرى في «مقاطعة» العدو، ولا تجاهل فريق ثالث لهذه وتلك واعتبار المسألة لا تخصها، ولا رفع فريق رابع وهو الغالبية لراية التعامل الموسمي مع القضية أسفرت عن تغيير مسار حقيقي. حقيقة مسار الشاشات التلفزيونية العربية، لا سيما في زمن السماوات المفتوحة، تأرجحت بين نقل الانتفاضة وإرهاصاتها إلى ملايين البيوت العربية. وبات المواطن العربي ملماً بما يجري على بعد كيلومترات ضئيلة على فترات متقطعة. كلما اشتعلت غضبة الفلسطينيين اشتعلت التغطيات، ثم تخفت وتخفت معها التغطية وينصرف بعدها المشاهدون إلى حال سبيلهم. السبيل إلى القضية الفلسطينية كان يفترض أن يقف على أرضية عربية موحدة منذ عقود، وهو ما لم يحدث لأسباب عدة. ظلت القضية وكيفية التعامل معها انعكاساً لسياسة كل دولة عربية على حدة، فإن تواءمت مصالح الدولة والدفاع عن القضية، دافعت الشاشات عنها، والعكس صحيح، فإن تناقضت أو تنافرت، تجاهلتها الشاشات أو اتخذت منها موقفاً حيادياً وكأنها شأن لا يعنيها. الشأن الفلسطيني ظل خلال العقود الماضية حاضراً في الأذهان الشعبية في شكل أكثر حماسة من الشاشات المسيسة. صحيح أن عمليات التسييس الممنهجة لمأساة الشعب الفلسطيني والتي ظلت تتلون بألوان السياسات العربية وألوان جماعات المصالح المالكة للقنوات أثرت على الرأي العام العربي سلباً وإيجاباً، لكن تظل المشاعر العربية تحمل تعاطفاً فطرياً مع كل ما هو فلسطيني. لكن كل ما هو فلسطيني على الشاشات العربية يبث بالعربية للجماهير العربية. تشجب نشرات الأخبار أنباء أفعال قوات الاحتلال ووقوع الشهداء وحدوث إصابات بالعربية، ويتواتر الضيوف والخبراء العرب لينددوا بالأحداث وتتلقى البرامج مداخلات المسؤولين العرب ليهددوا ويتوعدوا ويعدوا بالرد على العدوان بالعربية. على مدار سنوات الصراع الفلسطيني/ العربي – الإسرائيلي المتلفز، لم تسلم الشاشات من الوقوع في مغبة الصراعات العربية البينية. فأثناء مواسم الهبات المناصرة للقضية يسطع نجم دولة ما باعتبارها الأنشط والأصدق والأكثر وطنية في الدفاع عن القضية، فتصطف وراءها الدول الصديقة وشاشاتها مؤيدة القرارات ومثنية على الخطوات. وفي المقابل، تسارع الدول المنافسة لها إلى تغطيات مناوئة تكون ضحيتها القضية ذاتها. التناحر العربي عبر الشاشات على جثمان القضية، والنضال العربي الكلامي باللغة العربية على متن الفضائيات، والتغطية الموسمية للصراع كلما قامت انتفاضة أو تأججت غضبة، عوامل ساهمت في ما وصلت إليه حال القضية. وعلى رغم ذلك، يظل البث العربي الموحد بالعربية من أجل القضية علامة مضيئة في قضية غير مضيئة.