من يتابع الفضائيات الإخبارية يلاحظ، من دون كثير عناء، أن فعل"قتل"، سواء كان مبنياً للمعلوم أو للمجهول، هو الأكثر استخداماً وشيوعاً، فما من نشرة أخبار تبثها"الجزيرة"أو"العربية"أو"الحرة"أو"أبو ظبي"... إلا ويكون هذا الفعل، وأمثاله"اعتقل، اغتيل، لقي مصرعه، فجّر، خطف..."مبتدأها ومنتهاها... وتترافق بالضرورة، مع هذا الفعل الذي ينبئ بجريمة، مناظر الدماء على الإسفلت والجدران والحقول، وأشلاء الجثث المرمية على قارعة الرصيف والدروب، وحركة القتيل الأخيرة وهو يبحث عن أوكسجين يسعفه لمزيد من الحياة... وأياً كان هدف الفضائيات من وراء بث هذه الصور، فالمؤكد أن الصورة لا تكذب، إنها تقول الحقيقة عارية، جارحة، وواضحة من دون تأويل وبعيداً من التزيين، أو الجماليات المطلوبة. والأكثر إيلاماً، في هذه البانوراما الدموية، هو ان بضع فضائيات تتحفظ أحياناً عن بث الصور، وتوجه لمشاهديها رسالة هي، حتماً، أقسى من الصورة:"نعتذر عن عرض الصور حرصاً على مشاعر المشاهدين"، وهذه الجملة التي دخلت قواميس الفضائيات في عصر العولمة والموت المعولم، تحرض المخيلة وتثيرها إلى حد الرعب، إذ يتساءل المشاهد: هل ثمة ما يؤذي المشاعر أكثر من منظر سمير قصير وهو يحنو، ميتاً، على حديد محترق؟!... ومن منظر المسلمين البوسنيين الستة العزل وهم يتلقون الرصاص الصربي من خلف ظهورهم؟!... ومن منظر الأشلاء البشرية المتناثرة في قيظ بغداد يومياً؟... ومن صيحات الاستغاثة المؤلمة والأخيرة التي يطلقها الرهائن قبيل الموت المحتم المرتسم في عيونهم؟... إنها الصور الأكثر تعبيراً عن تردي الواقع السياسي، والأكثر تجسيداً لما سماه ممدوح عدوان بپ"حيونة الإنسان". هذا عنوان مؤلم بقدر ما هو بديهي، والغريب ان وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد اعترض، أخيراً، على نشر"الجزيرة"للصور المروعة بحجة أنها تحرض على الإرهاب، هو، هنا على الأقل، يتجاهل الواقع ويركز على صورة الواقع، وإذ لا مجال، هنا، للخوض في تحليل السياسات الأميركية، نكتفي بالقول إن هذه السياسة، غالباً، ما تلعب دور البطولة في تلك التراجيديا المرعبة، منها مثلاً صور"أبو غريب"و"غوانتانامو". ولكن لنتجاهل ذلك ونسأل: أليس غريباً أن تغدو صورة الواقع أكثر تأثيراً، وسطوة من الواقع نفسه كما يستنتج من اعتراض رامسفيلد، وبعبارة أخرى أليس غريباً أن يتفوق"الواقع المقيد"على"الخيال الجانح"؟ حتى وقت قريب، قبل انتشار الفضائيات، كانت مخيلة الروائيين والشعراء والسينمائيين والتشكيليين تتباهى بقدرتها على توليف مشاهد تثير الدهشة، لكن الصورة الواقعية تفوقت على الخيال. فلو صور أحد هؤلاء مشهد انهيار برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك عبر عمل فني متخيل، لقلنا إن هذا خيال مبدع، لكن الواقع هذه المرة وصل إلى هذا الحد، وهو الذي صاغ حدثاً أشبه بالخيال، والأمثلة أكثر من أن تحصى... ولا يعني ذلك ان الإنسان كان مسالماً وأصبح قاتلاً، فتاريخ البشرية حافل بالصراعات والحروب، لكن الاختلاف يكمن في الصورة التي صارت توثق الحدث بكل بشاعته وقسوته. وفي ظل التطور التكنولوجي على صعيد وسائل الاتصال صارت تلك الحروب، ومشاهد القتل والدمار والمجاعات والسيارات المفخخة من دارفور إلى العراق وكردستان ومن فلسطين إلى الشيشان... جزءاً عادياً من يومياتنا. صورها تغزو المشاهد في عقر داره... صور دماء تملأ الشاشة من الصباح إلى المساء يتخللها إعلان عن"عطر امرأة"لا نقصد فيلم آل باتشينو الرائع أو سيارة فارهة أو شريط جديد لنانسي عجرم... هكذا صار المشهد مألوفاً حتى الابتذال، ولتطمئن الفضائيات الى ان المشاعر لم تعد تتأثر، فكل شيء يومي يصبح عادياً وكل عادي من الصعب أن يؤذي المشاعر ما دام هو كذلك... لأن من شأن العادة أن تخفف من حدة شعورنا إزاء الوقائع، فما بالك بالصور. المشكلة لم تعد في ثنايا الصورة بل في العقلية التي أسهمت في صناعة الصورة، وعلى رامسفيلد، والسياسيين جميعاً، ألا يعترضوا على الصورة بل عليهم أن يعترضوا على الواقع الذي يصنع الصورة... ليختفي فعل"قتل"ومرادفاته، وليتبدل عين الفعل باء مشددة.