يعيش الشارع العربي في حال غليان لم يشهده من قبل. فصور المواجهات العنيفة في الأراضي الفلسطينية المحتلة التي تبث مباشرة عبر الأقنية الفضائية العربية والدولية أدخلت انتفاضة الأقصى الى منزل كل عربي وألهبت مشاعره الى حد بات بعض الأنظمة العربية يشعر من العجز في السيطرة على الشارع. ودفع هذا التوتر الشعبي بعض القادة الى اطلاق تحذيرات الى اسرائيل وصل بعضها الى حد اعلان الجهاد. واغتنم "حزب الله" فرصة انشغال اسرائيل داخلياً لينفذ عملية في مزارع شبعا اللبنانية التي لا تزال محتلة. وأدى اختطاف الجنود الثلاثة الى اعادة السخونة الى الجبهة اللبنانية - الإسرائيلية بعد هدوء نسبي شهدته منذ الانسحاب من منطقة الحزام الأمني في نهاية أيار مايو الماضي. ويخشى المراقبون من تصعيد اسرائيلي للوضع يهدف في الدرجة الأولى الى اعادة هيبة الردع الإسرائيلية التي تصدعت بفعل المواجهات الداخلية وعملية "حزب الله" وما رافقها من تهديد بالرد على أي عدوان. وتسعى اسرائيل منذ قيامها الى فرض نفسها ووجودها على العرب. وهدفت عبر ضرباتها الاستباقية العدوانية في حربي 67 و82 الى بث روح الهزيمة في صفوف العرب واقناعهم بأنهم غير قادرين على دحرها عسكرياً. ويتفق القادة الإسرائيليون على أهمية صون هيبة الردع من أجل ضمان أمن الدولة العبرية. وهم مقتنعون ان هيبة الردع هذه أحد أهم العوامل التي دفعت بالعرب الى طاولة المفاوضات، بحسب قول بعض الباحثين العسكريين الإسرائيليين أمثال افرام انبار واسرائيل تال وأهارون لفران. ولا شك في ان القيادة العسكرية الإسرائيلية تعيد تقييم الأوضاع وتدرس أفضل السبل لاعادة هيبتها، وهي عادة تجد الخيار العسكري أفضل وسيلة لتحصين حاجز الردع. ولذلك، يبدو ان خيار الحرب غير مستبعد لتل أبيب. وتجد اسرائيل بآلتها العسكرية المتفوقة والهيمنة الأميركية، عوامل تمكنها من شن حرب أو حروب محدودة ضد العرب بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وغياب حليفهم التقليدي. كما ان تسليح العرب محدود ولا يضاهي تسلحها ولذلك تعتبر اسرائيل العرب غير قادرين على دخول مواجهات عسكرية طويلة الأمد، اضافة الى رهانها على المجتمع الدولي وتدخله السريع لفض النزاع بسرعة. وعليه فإن اسرائيل ستكتفي ببضعة أيام تشن خلالها غارات جوية مكثفة على أهداف استراتيجية داخل لبنان، ربما طالت مواقع سورية، رداً على عملية أسر جنودها. وتراهن اسرائيل على لسان بعض سياسييها على عدم عزم سورية التورط في مواجهة عسكرية حالياً، بسب مشاكل داخلية، وهذا يدفعهم للاستنتاج بأن دمشق ستمتنع عن الرد. ولكن إذا كانت التحليلات الإسرائيلية هذه صحيحة، ماذا عن حال الغليان الشعبي العربي نتيجة ما يجري في الأراضي المحتلة. فهل ستستطيع الحكومة أن تتجاهل النقمة الشعبية وتمتنع عن الرد على اعتداءات اسرائيلية على أهداف سورية؟ بعض المراقبين يعتقدون ان سورية لن تسكت وسترد على أي هجوم اسرائيلي على أهداف سورية حتى ولو كانت داخل لبنان. ويقول المراقبون انها سترد هذه المرة مستخدمة على الأرجح صواريخها الباليستية. وتعتبر ترسانة سورية من الصواريخ الباليستية، مثل سكود.ب وسكود.س واس اس - 21 وفروغ - 7 السلاح الأمثل لتهديد العمق الإسرائيلي. ويذكر ان سورية تتعرض لحصار غربي غير معلن يمنع عنها السلاح منذ ما يقارب ثماني سنوات. وزاد هذا من اختلال موازين القوى لصالح اسرائيل. ويذكر ان سورية تملك 589 طائرة حربية، الا ان غالبيتها قديم ولم يعد يوازي الطائرات الحربية الإسرائيلية من طراز أف - 15 - 16. وأفضل ما تملكه اليوم حوالى 30 مقاتلة طراز ميغ - 29 و24 قاذفة طراز سوخوي - 24. ولن يكون سهلاً على طائراتها اختراق الدفاعات الجوية الإسرائيلية المجهزة بصواريخ هوك وباتريوت. لذلك، فمن البديهي ان تعتمد سورية على صواريخ السكود. ويذكر ان سورية أجرت حديثاً تجربة اطلاق صاروخ جديد سكود.د. ونقلت مجلة "جينس" الدفاعية عن مصادر في البنتاغون قولها ان مصانع سورية قامت بتطوير سكود - د بمساعدة تقنية من كوريا الشمالية. ويبلغ مدى الصاروخ الجديد 700كلم، في حين يبلغ مدى السكود - س 500 كلم. وهذا يعطيها قدرة على نشر صواريخها على منصات متنقلة في عمق أراضيها لتجنب أي ضربات استباقية للطيران الإسرائيلي. وكانت سورية اعتمدت في حرب تشرين 73 استراتيجية معاكس القوى عندما استهدفت صواريخها فروغ - 7 أهدافاً استراتيجية قرب بحيرة طبريا. ومن غير المعروف ما إذا كانت ستعتمد الاستراتيجية ذاتها أم انها ستلجأ الى استراتيجية معاكس المدن. ويبرز هنا السؤال عن طبيعة الرد الإسرائيلي. فإسرائيل ستحاول تطبيق ما كان يدعو اليه العديد من الصقور داخل القيادتين العسكرية والسياسية منذ سنوات وهو توجيه ضربات جوية موجعة لتدمير البنية التحتية والآلة العسكرية السورية، وخصوصاً مصانع السكود ومراكز تقول اسرائيل انها تستخدم لتصنيع أسلحة كيماوية وبيولوجية. وهذا بالطبع سيؤدي الى ردود فعل سورية وعربية واقليمية. فعلى الصعيد السوري، ستكثف دمشق هجماتها الصاروخية وتقدم الدعم ل"حزب الله" الذي سيفتح جبهة في جنوبلبنان بعد أن باتت مدافعه وصواريخه تغطي كماً كبيراً من المستوطنات الشمالية. عربياً، تعهدت عدة دول عربية، وفي طليعتها مصر والمملكة العربية السعودية، بعدم السكوت أمام اي اعتداءات اسرائيلية على سورية. وقد تلجأ مصر الى تدخل عسكري محدود يستهدف السيطرة على قطاع غزة أو تقديم مساعدات عسكرية الى دمشق، ولكنها ستتجنب دخول حرب مباشرة مع اسرائيل بسبب اعتمادها الكبير على الولاياتالمتحدة في التسلح. كما ان سلاح الجو المصري لا يزال دون المستوى المطلوب من حيث نوعية تجهيزاته وطائراته وهو غير قادر على تهديد اسرائيل بشكل جدي. وطبعاً ستجد مصر نفسها مضطرة لتجميد علاقاتها الديبلوماسية مع اسرائيل. أما بالنسبة الى السعودية، فهي تستطيع تأمين دعم دولي كبير للعرب في الأممالمتحدة وغيرها من المحافل ومنح سورية هبات مالية تمكنها من تسديد ديونها وتغطية نفقات أسلحة روسية جديدة كانت موسكو امتنعت حتى الآن عن بيعها بسبب نقص العملة الصعبة وعدم تسديد دمشق ديون تعود الى حقبة الحرب الباردة. وعلى رغم امتلاك السعودية أسلحة متطورة الى مقاتلات حديثة مثل أف - 15 وتورنادو، الا ان عددها يكفي لحماية الأراضي السعودية فقط. ويمكن لطائرات الانذار المبكر أواكس ان تمد الدفاعات الجوية السورية بمعلومات عن تحركات الطائرات الإسرائيلية. أما الأردن، فهو غير قادر على الدخول بأي مواجهة عسكرية مع اسرائيل، الا انه قد يجد نفسه مضطراً لقطع العلاقات مع اسرائيل. اقليمياً، قد تجد ايران نفسها تحت التهديد الإسرائيلي المباشر بسبب تعرض حليفتها الاستراتيجية سورية لاعتداءات من الدولة العبرية. وقد تعمد اسرائيل الى شن ضربات استباقية ضد ايران بذريعة دعمها ل"حزب الله". وسيكون هدف اسرائيل الرئيسي في ايران تدمير مصانع الصواريخ الباليستية والأسلحة الكيماوية والبيولوجية، وهو هدف تسعى اسرائيل لتحقيقه وتحث الإدارة الأميركية على تنفيذه منذ انتهاء حرب الخليج الثانية. وعلى رغم نشاط الصناعات الحربية الإيرانية وحصولها على أعتدة جديدة إلا ان قواتها لا تزال تفتقر الى سلاح جو قوي وفعال. فغالبية الطائرات الإيرانية قديمة وتنقصها قطع الغيار. لذلك، فإن السلاح الوحيد الذي تستطيع بواسطته ايران أن تهدد اسرائيل هو الصواريخ الباليستية وخصوصاً صاروخ شهاب - 3 الذي يصل مداه الى 1300 كلم. امكانات تدهور الأوضاع لتتحول الى حرب اقليمية محدودة أو شاملة أمر وارد. ونظرية شيمون بيريز بأن انتهاء الحرب الباردة وغياب أقطاب دولية يقلل من احتمالات الحرب هي نظرية غير دقيقة إذ ان غياب هذه الأقطاب سيجعل دول المنطقة خارج نطاق السيطرة. وهذا بدوره سيعزز فرص انجرار هذه الدول الى مواجهات عسكرية في ظل تشنجات سياسية واقتصادية ودينية خطيرة تعيشها منطقة الشرق الأوسط. وتأخر المجتمع الدولي عن التدخل ستكون له نتائج وخيمة وخصوصاً إذا ما وصل تبادل الضربات الجوية والصاروخية الى حد اللجوء الى أسلحة الدمار الشامل. ولذلك، يجب حصول ضغوط دولية للجم التصعيد الإسرائيلي الذي سيسعى لتعزيز هيبة الردع الإسرائيلية. فإسرائيل، وبحسب استراتيجيين اسرائيليين أمثال افرام كارش وانبار، يجب أن لا تتوانى عن حماية هيبة الردع حتى ولو أدى ذلك الى حرب شاملة مع العرب. * خبير لبناني في الشؤون الاستراتيجية مقيم في بريطانيا.