ليس كتاب"الأسس الفلسفية للفكر النسوي الغربي"للباحثة الأردنية خديجة العزيزي كتاباً في الفلسفة إنما هو كتاب في الايديولوجيا الليبرالية والماركسية والراديكالية التي نهضت بالانحراف ودافعت عن الإباحية حتى حظيت في العقدين الأخيرين من القرن العشرين ببعض فضول الأكاديميين من علماء التحليل النفسي كجاك لاكان ومن الألسنيين كجاك دريدا، الى ثلاث كاتبات انشغلن بالفكر النسوي الفرنسي هن: لوس اريغاري وهيلين سيكسو وجوليا كريستيفا ممن طالبن بتحرير النساء من سطوة"البطاركة"وهيمنتهم!! والباحثة خديجة العزيزي اذ جاءت بعنوان مبتكر ومضلّل، كان لها أن تكثف العنوان بحذف لفظ"الفلسفة"والإكتفاء"بأسس الفكر النسوي الغربي"!! فهي في الفصل الأول حيث"تغيب الفلسفة"تؤرخ للمذهب النسوي ومدارسه، وفي الثاني تعرض نقد المذهب النسوي للفلسفة السياسية الغربية، إذ أن الفلسفة كانت تقتصر على المفكرين الذكور منذ طاليس، وفيتاغور، وهيراقليط، وديمقريط وبارمنيدس، وسقراط وافلاطون وأرسطو، وأفلوطين ممن لا تشير خديجة العزيزي ولو الى اسم أحد منهم، لأن الامنيات تأخذها الى"لعل النساء يحدثن صدعاً في الصرح الفلسفي"!! فأنى لمن لم يبدع في الفلسفة، فلسفة أو بدعة وجودية أو عدمية أو أخرى سريالية أو سؤالاً في الحكمة أو الاسرار الغنوصية أن يدعي التفلسف أو قلق الحقيقة الغافية في الهرمينوطيقا كيقين مستحيل؟ لذا فإن كتاب"الأسس الفلسفية"الصادر عن دار بيسان في بيروت ينشغل بشرعة حقوق الانسان والتأويلات الاصولية لمبادئ الشرع الديني وأحكامه كما يشير اليها ناصيف نصار في التقديم. وناصيف نصار إذ يستشهد بما أصدره"تجمع الباحثات اللبنانيات"في الكتاب التاسع تحت عنوان"النساء في الخطاب العربي المعاصر"، يؤكد أن الجانب الفلسفي في الخطاب العربي المعاصر عن النساء سواء كان صادراً عن الرجال أم عن النساء انفسهن، لا يحظى بأي اهتمام. فالخطاب السياسي أو التربوي أو العائلي عن المرأة لا يمكن أن يوصف بأنه"خطاب فلسفي"لأنه خلو من المضمون الفلسفي. ثم إن ناصيف نصار ومعه خديجة العزيزي يرداننا الى السؤال عن ماهية العقل وهويته مذ بدأ السجال بين ابداع ذكوري وآخر نسوي، فهل للعقل الذي بدأ بالتفلسف أن يفقد ذاتاً حرة هي منه سؤال لا جواب، يتلبس قناع ذكر أو أنثى، ويصير بالقناع غريباً عن نفسه، يعاني هجنة ليست من طبيعته. ولعل انبثاق الخطاب النسوي إذ بلغ أوج تطوره في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، فالفضل الأول يعود فيه الى آراء ماركس وانغلز المتعلقة بتحرير المرأة، ولو أن ماركس وانغلز في عالمنا العربي هما خارج السياق الحضاري للتراث الغيبي والديني! وإذا كانت الحركات النسوية تعود في أصولها الأقدم الى الفلسفة الليبرالية التي قال بها جان جاك روسو وجون لوك، وهي ترعرعت في تربة الثورة الفرنسية ومبادئ الحرية والعدالة والمساواة فإنها سرعان ما انتقلت الى بريطانيا لتتبناها كل من ماري ولستونكرافت وبعدها هاريت تايلور، ولما بلغت هذه الليبرالية الولاياتالمتحدة الأميركية قالت بها حركة"NOW"أي"الآن"وقامت تطالب بإنهاء التمييز الجنسي وتغيير قوانين العمل، والأجور، والانتخاب، والحقوق المدنية والسياسية! أما التاريخ الطويل في النضال من أجل تحرير النساء فكان لكارل ماركس ألا يميز بين الذكور والإناث في فرص العمل والانتاج، الى ان انبعثت الحركة النسائية الماركسية عام 1920 وقامت بمراجعة النظرية الماركسية التي أغفلت مسألة العلاقات الجنسية، ونموذج الانجاب الذي ينتج منه سلوك استبدادي بين أفراد العائلة الواحدة وفي تسلط الذكر على العلاقات الجنسية. غير ان الحزبيين من الذكور سخروا من اقتراحات الحركة النسائية بمن فيهم لينين الذي حلّ القسم الخاص بالنساء في الحزب الشيوعي في عهد ستالين. وظل صوت الحركة النسوية الماركسية خافتاً حتى عام 1960 الى ان انتعش الفكر الماركسي في الدول الأوروبية والولاياتالمتحدة الأميركية منطلقاً من آراء انغلز في كتابه"أصل العائلة"، وفيه يشير الى تساؤلات النساء عن أوضاعهن! غير أن وجهة النظر القائلة إن الفلسفة برمتها فلسفة ذكورية تبقى ظاهرة معقدة إن لم نقل طارئة لأن الاهتمام الفلسفي بالسمات الذكورية والانثوية حديث العهد، ولم يتجاوز بعد ثلاثة عقود من نهاية القرن العشرين وحتى اليوم. فقديماً اهتم افلاطون وأرسطو بالحديث عن صفات الرجال بغير التفات الى حاجات المرأة العاطفية، حتى اذا كان العصر الحديث ابدى الكثير من الفلاسفة اهتمامهم بالسمات الذكورية والأنثوية وبسيكولوجية العلاقة الجنسية للمرأة فكان منهم كانط، وشوبنهور، ونيتشه، وهيغل وكيركيغارد، وكأن هؤلاء جميعاً تأثروا بالحركة الرومانسية التي جعلت الحب مداراً من مدارات العشاق وشعراء البحيرات وذكرياتهم الحزينة! وإذ حاولت سوزان أوكن وأرلين ساكسونهاوس وكارول بيتمان وليندا لانج وميليسا بتلر اعادة قراءة النصوص الفلسفية بغية رصد الايجابيات التي تناولت المرأة، رأت سوزان أوكن أن افلاطون في كتاب"الجمهورية"ساوى مساواة تامة بين الرجل والمرأة، وأن السعادة تتحقق بممارسة الفضيلة التي يمكن احرازها بتعلم الجنسين من الذكور والإناث، لأن الشر منبعه الأولوية التي تعطى للجسم على الروح. فالمدينة الفاضلة كما رآها افلاطون هي مثل الانسان الفرد، لا يمكن تدمير وحدتها، لأن شيوعية الأملاك وشيوعية النساء والاطفال تساعدان على تحقيق وحدة متينة يتساوى فيها الكل بالكل بعيداً من الامتيازات الخاصة، واستبداد الحاكم بالمحكوم! وقد رأت سوزان أوكن أن افلاطون كان ثورياً في كتابي"الجمهورية"و"النواميس"، إذ قال بمدينة"شيوعية"مثلى تتحقق فيها وحدة سياسية عُقدت بروابط المحبة، وتنظم فيها الحياة بكثير من العدالة بحيث لا تكون ثروة خاصة ولا زوجة خاصة بل يتساوى الجميع نساءً ورجالاً في المكانة، والوظائف، ويتصفون بصفات مشتركة، كالشجاعة والنبل والقدرة على التعلم والإبقاء على التناسل. وقد كان افلاطون يخشى أن تنغمس النساء في الترف مثلما حدث لنساء اسبرطه، فأقر بحق النساء في المواطنية. وترك لتلميذه ارسطو أن يستخدم العقل ليبرر فلسفياً وضع المرأة المتدني. ولاحظت أرلين ساكونهاوس أن ارسطو لم ينحز الى الذكور حين قال:"إذا كانت فضيلة الذكور هي الشجاعة، فمن فضائل الإناث الاعتدال في الروح، وحب العمل غير المستعبد"وهذا ما جعله يشجب الدول التي تسود فيها الروح الحربية. هذا وقد ناقش ارسطو بإفاضة المجتمع"الشيوعي"الذي قال به افلاطون، حتى انتهى الى أن شيوعية افلاطون تهدم العائلة، وتتجاهل الفروق الفردية بين انسان وآخر، وميل الواحد للتملك واهتمامه بما هو خاص. لذا اعتبر ارسطو أن الاناث رمز لما هو خاص، وان الناس يميلون بطبعهم للعيش أزواجاً أكثر من ميلهم للعيش جماعات في المدينة. من هنا صارت العائلة بنظر ارسطو اكثر ضرورة من الدولة". وبعد الاغريقيين العظيمين افلاطون وأرسطو رأت ليندا لانج الى فلسفة جان جاك روسو التي تتلخص بمقولتين اثنتين: الأولى حاجة العائلة للمرأة وخصوصية تأثيرها العاطفي في حب الوطن والانتماء اليه والدفاع عنه وعدم هجرته. والثانية: الحاجة الى تأكيد صلة الأمومة بمتطلبات الملكية الخاصة. واضافة الى ليندا لانج تناولت ميليسا بتلر آراء لوك لتقول انه كان من اوائل الذين ادركوا الانحياز الكاذب في الليبرالية الكلاسيكية التي تقوم على اعطاء الحرية للجنس البشري قاطبة، ثم احجموا عن اعطائهم للمرأة ومساواتها بالذكر. لذا فإن لوك دعا الى تحطيم التقليد البطريركي، وتناول المسألة كما وردت في سفر التكوين. وقد سلم لوك بالحقيقة التجريبية ورأى أن المرأة التي جاءت من الحياة لا من الطين هي في وضع دوني. ومما قاله لوك: إن قوة الرجل تبدو ساطعة كالشمس حين يعطي زوجته الحرية الكاملة في أن تدخر من خلال عملها الخاص، وأن تعقد العقود، وأن تكون لها ملكية منفصلة لا تقع تحت ادارة زوجها. وقد وصف لوك العقل بأنه صفحة بيضاء عند النساء كما عند الذكور حتى ايقن جون ستيوارت ميل في كتابه"تبعية النساء"أن:"اذا كان ما تحرزه المرأة فكرياً أقل من الرجل فالسبب يعود الى عدم تكافؤ فرص التعليم"، ورفض اعتبار المرأة كائناً عقلانياً كاملاً، مع اليقين المبرم بأن"العقلانية هي صفة للأفراد وليست صفة للجماعة"لأن كل كائن حي قابل أن يكتفي بذاته، وبتحديد حاجاته الاساسية من ميتافيزيقية الى اخلاقية الى ثقافية أو ايديولوجية!! وانتقدت على هذا الأساس العقلاني ولتسونكرافت آراء روسو لاعتقاده بأن العقلانية ضرورية للذكور وليست ضرورية للإناث، ولادعائه بأن العلوم تناسب الذكور وحدهم. أما الإناث فعليهن الانصراف الى الموسيقى ومهارات العمل المنزلي. ورأت ولتسونكرافت ان على المرأة المثالية التي تطمح الى تحقيق ذاتها، أن تحرر نفسها من النرجسية والإباحية والصعلكة وذلك بأن تصغي لصوت العقل لأن المرأة ليست مجرد وسيلة لتحقيق سعادة الآخرين انما هي غاية وهي فاعل اخلاقي له كرامته، وسيادته، وحريته، لأن علاقة المرأة بالرجل كانت وستبقى كما قالت سيمون دو بوبفوار علاقة دراماتيكية، إذ ان الرجل يريد أن تبقى المرأة موضوعاً لكي يبقى هو حراً. لذا مجدت دو بوفوار العقل واعتبرت الجسد مظهراً متآكلاً من حياة المرأة، وظلت تقاوم ابتهاج المرأة المفرط بجسدها، وجعلت تحثّ النساء أن لا يجعلن اجسادهن حجة تحررهن. هذه بعض مضامين كتاب خديجة العزيزي في محاولتها الجادة للتعمق بتاريخ طويل من"الإنصراف عن"ما نُعت"بناقصات العقل"واللواتي هن"شر، وشرّ ما فيهن انهن الآخر الذي لا بدّ منه"!!