لعل الدكتور جابر عصفور - ربما لأنه حصر نفسه في اطار المماثلة بين شمولية التأسلم والتمركس - تغاضى عن عدد من المتناقضات الاساسية التي ربما اسهمت في حل ألغاز كثيرة اثارها في مقاله. فالماركسية هي، في جوهر الامر، نظرية تستهدف تحقيق العدل الاجتماعي، وتنحاز الى جماهير الفقراء. والفقراء دائماً هم اقل شرائح المجتمعات استمتاعاً بنعمة التعمق في المعارف العلمية. لكن الماركسية تقدم نفسها كعلم يستعصي على فهم الشرائح الوسطى وأحيانا العليا من المثقفين. فهي في جوهرها رؤية فلسفية تستند الى الدياليكتيك، والى انتقادات بالغة التعقيد للفلسفات المثالية - أو المقول بمثاليتها - وبخاصة الفلسفة الالمانية. فالشق الفلسفي في الماركسية هو في الجوهر انتقاد لنظريات هيغل وفيورباخ مع القبول ببعض منها وصدامات حادة مع دوهرنغ وبرونو باور وغيرهما. اما الشق الاقتصادي فهو دراسة متعمقة في اقتصاديات المجتمع الرأسمالي، ولكيفية تبلور وتفاعل التناقض بين قوى الانتاج وعلاقات الانتاج في اطار عملية النمو الرأسمالي في اوروبا. اما الشق المجتمعي فيقوم على اساس المادية التاريخية التي تقدم تصوراً موحداً محدداً لتطور المجتمعات من الماضي الشيوعية، البدائية، العبودية، الاقطاع حتى الحاضر الرأسمالي ثم المستقبل الاشتراكي فالشيوعي. ويجري طرح هذه الرؤى عبر جدل فكري بالغ التعقيد. اما السياسي فهو محاولة اشتقاق موقف من كل ما سبق. واكاد اعتقد بأن أحداً ممن يعنيهم - طبقياً - انتصار الماركسية لا ولن يستطيع ان يصمد امام محاولات تفسير او فهم طلاسم كتاب "رأس المال" او "اصل العائلة" او "دور العمل في تطور القردة العليا" او "الايديولوجية الالمانية" او "ضد دوهرنغ" وكلها من كتابات ماركس وانغلز او "المادية والنقد التجريبي" للينين. فإذا وضعنا في الاعتبار ان احدا من جهابذة الماركسية لم يحدد لنا "ما هي الماركسية؟" تحديداً، وأين وفي أي كتاب يمكن ان نجدها محددة موجزة شاملة، بل تركت هكذا بلا ضفاف... ثم وضعنا في الاعتبار ان هذه الكتابات جميعا كتبت اصولها بالالمانية ماركس وانغلز او بالروسية لينين ثم ستالين، وانه في خصوصنا نحن العرب ظللنا جميعا اسرى للترجمات الانكليزية أو الفرنسية بالنسبة الى غلاة مثقفينا او لترجمات شامية غاية في الرداءة ولا يمكن فهمها، ادركنا السر في هذا الترفع الستاليني الذي ظل مسيطراً على الفاتيكان السوفياتي طوال فترة وجوده من 1917 وحتى انهياره، واعتباره ان الماركسية كهنوت لا يمتلك مفاتيح اسراره الا اهل العلم، وهم السوفيات وبهذا اعطوا انفسهم حق "ارشاد" و"تعليم" الآخرين. وربما يمكن تفسير التمرد الشيوعي الاوروبي المبكر على السطوة السوفياتية تفسيراً متعلقاً بالمحتوى الثقافي المتقدم. كذلك نشير الى تناقض آخر وهو ان ماركس وانغلز استطاعا، وبعبقرية معترف بها من الكثيرين، تمزيق وتشريح آليات المجتمع الرأسمالي والمجتمعات السابقة عليه. اما رؤيتهم الى المجتمع الاشتراكي فقد ظلت غائمة واحتمالية ومستندة فحسب الى تجربة كوميونة باريس حي صغير، دامت فيه سلطة الكوميون بضعة اسابيع فحسب وهي تجربة محدودة ومحددة بحيث يستحيل القول بتعميمها. بل ان فكرة ماركس وانغلز عن "الدولة" تقوم على اساس انها مجرد اداة قهر لمصلحة طبقة ضد طبقات اخرى. يقول ماركس: "إن الدولة السياسية سوف تزول في اطار الديموقراطية الحقيقية" ماركس: نقد نظرية الحق عند هيغل. ويقول انغلز: "ان الحرية الحقيقية، اي الكاملة، تتطلب كي توجد شكلاً آخر غير الدولة" انغلز: مقال "التمركز والحرية". هكذا تلخصت فكرة ماركس وانغلز في ان الدولة سوف تندثر بقيام سلطة لاطبقية. يقول انغلز: "تستولي البروليتاريا على السلطة السياسية، وتحول الانتاج الى ملكية الدولة، ولكنها وهي تفعل ذلك تلغي نفسها كبروليتاريا، تلغي كل الفروق الطبقية والعداوات الطبقية، فتلغي الدولة كدولة. ان ازالة الحكم الطبقي تعني انه لم تعد هناك حاجة للدولة" انغلز: "عن الاشتراكية الطوباوية والعلمية"، الاعمال الكاملة بالانكليزية ج3- ص 146. لكن الفارق واسع بين النظرية المجردة المحلقة في سماوات التأمل وبين الواقع. فالبروليتاريا تصل الى السلطة لكنها تجد نفسها في تصادم مع العدو الخارجي. ويجد ستالين نفسه بحاجة الى تصفية خصومه. ويصرخ ستالين: "ينبغي ان نحطم النظرية الفاسدة التي ترى اننا كلما تقدمنا الى الامام يتلاشى الصراع الطبقي شيئاً فشيئاً. واننا كلما ازددنا نجاحاً كلما اصبح العدو مستأنساً. هذه ليست نظرية فاسدة فحسب بل وهي نظرية خطرة. وعلى العكس من ذلك فإننا كلما تقدمنا، كلما احرزنا نجاحات، كلما زاد حنق الطبقات المعادية وتصاعد تخريبها" ستالين: "في سبيل تكوين بلشفي". واذا اراد ستالين ان يصفي خصومه او منتقديه اكد انهم لم يعودوا تياراً سياسياً من تيارات الطبقة العاملة وانما اصبحوا "عصابة لا مبادىء لها ولا فكر، تضم المخربين والجواسيس والقتلة العاملين في خدمة دوائر التجسس الاجنبية" ستالين، المرجع السابق، ص 42. بل هو يقول: "ان ما يتوجب علينا ازاء هؤلاء ليس استخدام الطرق القديمة في الجدل فقط، وانما الطرق الحديثة التي تقوم على إبادة الاعداء والاطاحة بهم" ص 43. بل هو يصر على ضرورة التخلي عن فكرة "فاسدة" تقول "انه ليس مخرباً هذا الذي لم يشترك في اعمال التخريب، وهذا المجد والمجتهد في عمله ونضاله، بل على العكس ان المخرب الحقيقي ينبغي عليه ان يظهر تفانياً في عمله، وذلك للمحافظة على وضعه كمخرب ولكسب ثقة الجماهير، كي يواصل فعله التخريبي" ص 46... وبهذا سد الطريق امام إفلات اي من خصومه مهما كان مخلصاً وناجحاً. وهكذا نسي ستالين في غمرة حماسه لتصفية خصومه، ليس فقط المعايير الاخلاقية والحزبية والرفاقية، وانما نسي ان يقول رأيه في مقولة ماركس وانغلز "بإندثار الدولة" بينما هو يسعى الى تشديد قبضتها، وبضرورة الديموقراطية الكاملة والحقيقية. ولعل هذا الموقف يقدم لنا صورة أخرى للمماثلة بين التأسلم والتمركس الستاليني الذي ينفي الآخر ويعتبره كافراً، أو ثورة مضادة سيان. وثمة نموذج آخر وتطبيقي للمماثلة. فماركس وقد انبهر، او بمعنى اكثر دقة اخذ بتجربة الكوميون، صاغ من هذه التجربة المحدودة افكاراً تقول بضرورة ان يشارك العمال في العمل ثماني ساعات في اليوم، ثم ان يشاركوا هم انفسهم في التشريع والتنفيذ، وفنّد بشدة فكرة الفصل بين السلطات التي يقوم عليها النموذج الرأسمالي. واستخدم ستالين هذه الفرضية استخداماً فجاً يقوم على اساس فكرة الانابة: الشعب تتلخص ارادته في الحزب الشيوعي، والحزب في مؤتمره، ثم يتمركز كل شيء صعوداً حتى السكرتير العام. ويتجسد نموذج الدولة كما يلي: ستالين - الحزب - الايديولوجيا: التشريع والتنفيذ وكل من يعادي او يخالف او ينتقد السكرتير العام يكون من ثم ضد الحزب ومن ثم ضد الشعب وضد الثورة. ويمكن التأكد هنا من المماثلة مع النموذج المتأسلم الامير، جماعة اهل الحل والعقد، الفقه، التشريع والتنفيذ. وهكذا، في مقابل التصور الماركسي: حرية كاملة تقود نحو تلاشي قبضة الدولة، وحكومة عمالية ينتخبها الشعب وله حق سحب المندوبين، والحكام يتقاضون اجر العامل العادي، والشفافية الكاملة... نشأ النموذج الستاليني: الحرية تتقلص والخصم السياسي يصبح العدو الذي يتعين إبادته، وقبضة الدولة تشتد بحجة الدفاع عن منجزات الثورة، والحكام يبقون كما هم دوماً ولا يمكن سحبهم، وينالون امتيازات تتفاقم في ظل افتقاد الشفافية. والغريب ان كل ذلك كان يجري مع التأكيد، وتكرار التأكيد، على مقولات ماركس التي يجري تجاهلها في الواقع، بل والعمل في الاتجاه المعاكس لها. بل ان الحديث عن حكومة العمال كان مجرد قول مرسل، فلينين نفسه يلاحظ بأسى "اننا وحتى هذه اللحظة بعد الثورة بعدة اعوام لم نصل بعد الى المرحلة التي يمكن للجماهير العاملة ان تشارك في الحكومة. وبغض النظر عن النصوص القانونية التي اعلناها حول ضرورة مشاركة العمال في الحكم، فما زال هناك المستوى الثقافي المنخفض الذي يعوق هذه المشاركة... ان عدد العمال الذين يمارسون الحكم فعلياً قليل للغاية" لينين: "تقرير حول برنامج الحزب"، مقدم للمؤتمر الثامن للحزب الشيوعي الروسي "البلشفي". بل ان النموذج الستاليني يمضي بعيدا عن الحلم الماركسي بفرض نظرية بائسة للحق تقول: "فالدولة تضبط العلاقات الاجتماعية بإقرارها قواعد معينة لسلوك الناس ولنشاط المنظمات، او بالاعتراف بها رسمياً. والذين لا ينفذون هذه القواعد او يخالفونها تجبرهم الدولة بالقوة على الخضوع، وهذه القواعد تسمى معايير الحق" بوريس ستراشون: "التمثيل الشعبي الاشتراكي" ص14. اما الهيئات التمثيلية التي تصور ماركس بأنها تجسد ارادة الجماهير فقد تحولت الى اداة لإملاء ارادتها على الجماهير، وبصراحة تامة يقرر النموذج الستاليني انه: "في اغلب الاحيان تتخذ الهيئات التمثيلية قرارات في مسائل لا تمتلك اغلبية السكان اية فكرة عنها، او على الاقل لم تبدِ رأيها فيها، وفي هذه الحالة تكون الهيئة التمثيلية هي نفسها المعبرة عن ارادة الشعب" المرجع السابق- ص 16. وهنا يتضح تماماً الفارق الجوهري بين الماركسية والستالينية، وأن الستالينية لم تكن بحال تطبيقاً للماركسية بل كانت تحدياً لها وتعدياً عليها. ومنذ البدايات الاولى تفهّم ماركس خطر عبادة النص، او التحايل عليه، او محاولة فرض النص على واقع لا يتقبله. واذا كانت الخطوة الاولى في البناء الماركسي المنظم والمنتظم هي "البيان الشيوعي"، فقد حرص ماركس وانغلز على التأكيد على ان النصوص التي يقدمانها ليست ثابتة ولا هي صالحة لكل زمان ومكان. لقد أكدا ذلك صراحة، لكن البعض صمم مع ذلك على تقديس النص، وعلى ثباته كما هو في كل زمان ومكان. لقد كتب ماركس وانغلز مقدمة لطبعة جديدة من البيان الشيوعي صدرت في العام 1872 أي بعد 24 عاماً من كتابته يقولان فيها "ان التطبيق العملي خاضع دائماً، وفي كل مكان، للشروط الواقعية المعطاة تاريخياً ... لو كان لنا ان نعيد صياغة هذه المقاطع اليوم لكتبناها بشكل مختلف من انواع عدة، لقد شاخ هذا البرنامج اليوم ... ثم انها شاخت ولم تعد صالحة للتطبيق لأن الوضع السياسي تغير كلياً" ماركس وانغلز: "البيان الشيوعي" ص 7. هما يصرخان: بعض النصوص شاخت، لم تعد صالحة للتطبيق العملي، يلحان على ضرورة تمثل الواقع... ويصر الستالينيون على التمسك بالنص وتعميمه على كل زمان ومكان. وهنا تكمن المفارقة التاريخية. فهل كانت وثنية النص مقصودة لذاتها كي يفرض الكهنوت الستاليني قبضته محكمة على اعناق الجميع في كل زمان وكل مكان؟ وهل كان الإلحاح على تقديس كل ما قال ماركس ولينين محسوباً، كي يضفي قدسية على ما يقول الوريث ستالين وعلى ما يفعل؟ ربما. وتبقى التحية واجبة للدكتور جابر عصفور، إذ كان له فضل إثارة الموضوع واكتشاف المماثلة، وكشف النقاب عن عدد من زواياها.