في وقت تسعى الحكومة العراقية الى تكريس المصالحة بين مختلف الفئات في البلاد العراقية لبناء دولة العدالة والمساواة التي تتسع للجميع، بدا أن المشكلة المطروحة الآن ما زالت تكمن في تطبيع الأوضاع وملء الفراغ في مواقع القرار، حتى على صعيد تسيير الحياة اليومية في اشكالها الأكثر بداهة التي لا ترتبط بقيادات ولا بتعددية الآراء والطروحات التي تتفاعل في اوساط العراقيين، بل تتعلق مباشرة بالخطط الأميركية المبيتة للعراق. ولا غرو، هنا، اذا لجأنا الى مفردات القاموس الماركسي، وتحدثنا عن خطط امبريالية أميركية في العراق، محورها النفط وعوائده وآباره وأسعاره وخطوط انسيابه وأسواقه. وما ظهر حتى الآن من تعاقدات واتفاقات، كانت من نصيب شركات تملكها جهات شديدة الارتباط ووثيقة التحالف مع أركان الإدارة الأميركية، وعلى حساب"كارتلات"نفطية أخرى، أميركية وبريطانية، تؤكد أن حرب بوش وإصراره على القيام بها وتسويغها بشتى المبررات، كان النفط هدفها الأول والأكبر. ويبدو أن كل الذرائع التي ساقتها الإدارة الأميركية، كانت هوليوودية ومركبة. فأين هي أسلحة الدمار الشامل؟ ولماذا لم يعثر على شيء منها نحو ألف من الخبراء الأميركيين، قاموا بكل حرية بتقليب الحجارة في كل المواقع المشتبه فيها، مثل منشأة"التوتية"و"المثنى"و"التحدي"؟ أين أصبحت الآثار العراقية التي يعود بعضها الى زمن حمورابي؟ ولماذا يسقط كل يوم حوالي 50 عراقياً وتبحث جثث عن هوياتها؟ لماذا وزارة النفط وحدها سلمت من عبث الغوغاء، فيما المتاحف والمكتبات والمؤسسات الأخرى، وصولاً الى المختبرات النووية والكيماوية والبيولوجية نُهبت تحت أنظار رجال المارينز؟ ثمة عشرات الأسئلة التي تبحث عن أجوبة. وكلها تقود الى"الجائزة النفطية الكبرى"التي هي من نصيب الرئيس بوش ونائبه ديك تشيني ومدنيي وزارة الدفاع وبقية أطراف المجمّع الصناعي العسكري، من خلال عقود أبرمت مع شركة"بكتل"التي يديرها عضو مجلس إدارتها وزير الخارجية السابق زمن رونالد ريغان جورج شولتز، وشركة"هاليبورتون"التي يمسك بخيوطها تشيني. وهذا ما أفقد الحرب على العراق أية أبعاد اخلاقية لها، وتحولها عملية نهب مسلّح. وهنا يمكن التقاط ملامح المأزق الأميركي في العراق، كما في افغانستان. واصبح هذا المأزق بمثابة سيف دميقليس فوق رأس إدارة بوش، وكابوس الانتخابات النصفية في الخريف المقبل لتجديد نصف نزلاء تلة الكابيتول، أي مجلسي الشيوخ والنواب. هذا الجانب من الدراما الإغريقية على ضفاف دجلة، وفي بغداد والرمادي والفلوجة والموصل وبعقوبة وكركوك، صار من يوميات المشهد. كما أن العراق لم يعد دولة، إلا بالمعنى المجازي. ولا تهم هنا تصريحات المالكي حول المصالحة. كما لا يهم ما يقوله عبدالعزيز الحكيم المسكون بمشروع"فيديرالية الجنوب"، ولا جلال طالباني الذي استقل بكردستان مع غريمه مسعود البرازني، وهو ما زال رئيساً للبلاد، بعون أميركا. وإذا كان لا بد من اللجوء الى جهاز"سكانر"لتشخيص دقيق لنقطة العطب في جسم السياسة الأميركية، فنقول إنه الانحياز الى اسرائيل التي روجت - من خلال رموزها في البيت الأبيض - الى أن سقوط صدام حسين يضع نقطة على السطر. وفاتهم أن العراق ذو تركيبة طائفية وإثنية معقدة، بشهادة مستشار الأمن القومي السابق برنت سكوكروفت الذي لاحظ أن المنطقة برمتها تعاني من التآكل الاستراتيجي على كل المستويات. وكل خطوة أميركية الى الأمام، هي خطوة إضافية نحو المجهول. وفي وقت تبدو حسابات بوش العراقية مشدودة الى مصالح اسرائيل، فإن مجرى التطورات يحسب أيضاً في مصلحة ايران وعلى حساب المصالح العربية الغائبة. وقد باتت التطورات من أبرز أوراق القوة في يد طهران، وبلغ الدهاء الإيراني حداً جعل أثمان الاحتلال وفواتيره فوائد لرأسمال ايراني غير مسدد. وكلام وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل في هذا الإطار بليغ ودقيق، عندما قال في"مجلس العلاقات الخارجية"في نيويورك:"لقد دخلنا حرباً لنمنع الايرانيين من دخول العراق، وها أنتم تسمحون لهم بدخول هذا البلد العربي من دون حرب". لا شك في أن الوضع في العراق هو أكثر تعقيداً مما هو في أفغانستان بالنسبة الى الأميركيين، ليس على مستوى التركيبة الديموغرافية الفسيفسائية بكل فئاتها الإثنية - العرقية، بل على صعيد الهدف الأميركي نفسه. فإدارة بوش لم تطرح البرنامج الديموقراطي للأفغان. ولم تطمح الى ذلك. وهي براغماتية في هذا المجال حتى تخوم"المكيافيلية". وتعرف أن تأهيل القبائل في خوست وقندهار، عملية خاضعة لتطورات تاريخية. ويجب أن تضطلع بها النخب الافغانية نفسها العائدة من الغرب. ولذلك شدد رامسفيلد على الانتصار العسكري، بعد إطاحة"الإمارة الطالبانية". وأسند الى إدارة الرئيس حميد كارزاي مهمة تطبيع الحالة السياسية، فيما تكون قوات"إيساف"للدعم والمساندة. من هنا، لا يمكن مقارنة الثلاجة الافغانية ب"المضخة"النفطية العراقية حيث الاميركيون يسعون الى إقامة نموذج ديموقراطي وليبيرالي تعددي قابل للتصدير الى العالمين العربي والاسلامي. يعني ذلك أن الحرب العسكرية فصل في كتاب إعادة تأسيس الدولة العراقية الجديدة، وطي اتجاهاتها الصاخبة والدموية منذ إنشاء الكيان الحديث عام 1921 وتعاقب الملكية والبعثية حتى انهيار النظام الصدامي في 9 نيسان ابريل 2003. غير أن المشروع الأميركي لم ولن يحالفه النجاح. والسبب الأبرز هو أن خلية التخطيط السياسي في البنتاغون ومجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية لم تكن تعرف كثيراً عن التركيبة الثقافية والإثنية للعراق، ولا عن نسيجه الاجتماعي ودينامياته الخاصة. قد تكون الإدارة جمعت معلومات كثيرة عن أسلحة صدام وجيشه وأجهزة مخابراته وشرطته السرية، لكنها أهملت البنية العشائرية للبلاد ولعبة الولاءات والنفوذ والزعامات. وخلال ال 35 الماضية، لم تفتح السفارة الأميركية في بغداد إلا مدة ست سنوات، خلال حقبة الثمانينات. ولم تقم أي روابط بين الجامعات الأميركية والعراقية. كما أن طبيعة النظام الصدامي والحياة الحزبية البعثية كانت تعتبر من أسرار الدولة، يُعاقب من يقدم أي معلومات عنها. ويرى برنارد لويس الذي يؤرخ في كتاباته السياسية أن عدم معرفة إدارة بوش بالبنية التحتية العراقية، تشكل عاملاً سلبياً في سنوات الاحتلال الأميركي للعراق، ما يشير الى أن بوش لم يمارس الديبلوماسية في منطقة السراب الشرق الأوسطي. وأطلق الديبلوماسيون الفرنسيون على المأزق الاميركي في مستنقع الرمال العراقية المتحركة، عبارة"موسم بوش الأسود في بلاد الرافدين". وبقدر ما ينطوي هذا الوصف على حرص على"الاتيكييت"واللياقة التقليدية في القاموس الديبلوماسي الفرنسي، ينطوي في الوقت ذاته على نوع من التشخيص الدراماتيكي لمأزق أميركي تولد من حسابات خاطئة ومتهورة واكبت كل معادلات المشروع الاستراتيجي على ضفاف دجلة، اذ كانت الحرب سهلة جداً واحتلال الارض اكثر سهولة، وما لم يكن في الحسبان هو صعود المقاومة العراقية حتى بدت كأنها كرة ثلج متدحرجة جعلت الاحتلال صعباً وباهظاً بفواتيره البشرية والسياسية والمالية. وقد تجبر بوش، اذا تواصل ايقاعها التصعيدي الملتهب، الى سحب قوته قبل دخول معركة انتخابات الكونغرس النصفية في الخريف المقبل. واذا كان الانسحاب غير مطروح الآن، فإن البقاء اصعب واكثر فداحة، وهذا ما يسميه صاحب كتاب"ما بعد الامبراطورية"الفرنسي ايمانويل تود:"مرحلة القبض على الجمر". * كاتب سوري