أخيراً فعلها الرئيس الأميركي جورج بوش، وغيّر عدداً كبيراً من طاقم إدارته ومساعديه وأصدقائه المقربين. وهو الذي تردد كثيراً في إنجاز هذه التغييرات أملاً في تحقيق إنجاز داخلي أو خارجي، يمكن أن يلطف أجواء الاحتقان الداخلي، ويرفع من نسبة قبوله لدى الشعب الأميركي التي تدنت إلى مرتبة لم يصل إليها أي رئيس أميركي من قبل. دوافع التغيير معروفة، ولم يكن لبوش أن يبادر به لولا موجات الضغط المتتالية التي تتعرض لها إدارته منذ بداية ولايته الثانية، وهو الذي تذرع دوماً بانسجام طاقمها وقدرته على تحقيق المعجزات، على غرار ما جرى في العراق وإسقاط نظامه السابق. تغييرات بوش لم تكن مفاجئة، وهو الذي حاول تأخيرها أو التملص منها، أملاً في تحسن مركزه داخلياً، وطمعاً في إحراز تقدم في وضعه في العراق. بيد أن المغزى هو في توقيت التغيير، وهو الذي يتزامن مع استعداد الحزب الجمهوري لانتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأميركي المقرر إجراؤها في تشرين الثاني نوفمبر المقبل. سقطات بوش الداخلية ربما تفوق في تأثيرها، وضعه الضعيف خارجياً، وذلك بدءاً من فضيحة التنصت التي شكلت العصب الحقيقي في هبوط شعبيته، كونها مست جوهر الديموقراطية الأميركية التليدة وتكييفها النفسي لدي الأميركيين، ومروراً بفضيحة"فاليري بلايم"أو ما يطلق عليها"بلايم غيت"، والتي تسربت في شأنها أنباء تفيد احتمالات تورطه بوش في كشف هوية العميلة السابقة لوكالة الاستخبارات المركزية سي آي أي فاليري بلايم، وذلك للاقتصاص من زوجها الديبلوماسي السابق جوزيف ويلسون بسبب معارضته الحرب في العراق. وهي الفضيحة التي لو أثبتتها التحقيقات، ستمثل نقطة سوداء في سجل بوش الرئاسي، وذلك على رغم سعي إدارته الى إيجاد مخرج لها تحت ادعاءات حق الرئيس الأميركي في رفع السرية عن أي وثيقة قد تفيد أوقات الحرب. بيد أن الانعطافة الحقيقية في سلسلة الضغط الداخلي على الرئيس بوش جاءت عقب تصاعد المطالبة باستقالة وزير دفاعه دونالد رامسفيلد، وذلك في إطار يطلق عليه البعض"انتفاضة الجنرالات"، وهي الحملة التي تقودها مجموعة من الجنرالات المتقاعدين المطالبين بخروج رامسفيلد من منصبه، ووصفها البعض ب"تمرد العسكر"، وقد زادت وتيرتها أخيراً وباتت على وشك الخروج عن القاعدة الأميركية المعروفة ببقاء العسكر تحت إمرة قرارات السلطة المدنية، بعد تقاعدهم. وشكلت"أزمة"رامسفيلد، القشة التي توشك أن تقصم ظهر بوش، لذلك لم يكن أمامه من خيار سوى الانحناء حتى تمر عاصفتها، والتخلي عن استراتيجية الممانعة التي ظل يتنباها في مواجهة الرفض الصامت الذي بدأ يتعرض له شخصياً. كرات المسبحة بدأت في الانفراط، ولن توقفها استقالة سكوت ماكليلان المتحدث باسم الرئاسة، وتحجيم دور كارل روف المستشار السياسي للرئيس بوش، وكاتم أسراره، وذلك تمهيداً لإقصائه، وكانت بدأت بإزاحة لويس ليبي الشهير بپ"سكوتر"، الطفل المدلل للرئيس بوش، فضلاً عن استقالة أندرو كارد، كبير موظفي البيت الأبيض، الذي خلفه جوشوا بولتون، الذي كان مديراً لمكتب الموازنة، كل هذا جاء في مقابل الاحتفاظ برأس رامسفيلد وضمان بقائه إلى جوار الرئيس. الإبقاء على رامسفيلد، دليل قوته، وضعف بوش أمام خيارات التخلي عنه، على رغم تململ هذا الأخير من الأداء السيئ للقوات الأميركية في العراق، إلا أنه لم يقو على انتقاد رامسفيلد أو"تعنيفه"على الأقل، على رغم اعترافات هذا الأخير، ومن قبله وزيرة الخارجية كوندليزا رايس، بپ"الأخطاء الأميركية في العراق"، وهي الاعترافات التي وفرت غطاء جيداً للانتقادات العنيفة التي تعرضت لها الإدارة الأميركية طوال الأسابيع الماضية، وزادت من شكوك الأميركيين في جدوى بقاء القوات الأميركية في العراق، ناهيك عن قرار الغزو ذاته. وعليه، فإن السؤال المنطقي هو: لماذا يصر بوش على التمسك برامسفيلد؟ وهو سؤال قد تشتق إجابته من رحم آ: ولماذا يصر بوش على امتطاء أجندته الأيديولوجية في التعاطي مع العالم الخارجي؟ ذلك أن إصرار بوش على عدم التضحية بثوره الأبيض، منبعه الإصرار على التمسك بأيديولوجية المحافظين الجدد، التي تقوم على ضمان استمرارية التميز والتفوق الأميركي، والتي يجيد رامسفيلد ومن خلفه نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني، اللعب على أوتارها والإيهام بتحويل أحلام الإمبراطورية"الموعودة"إلى واقع محقق اعتماداً على استراتيجيات الهجوم"الوقائي"والفوضى البناءة. التضحية برامسفيلد، بالنسبة الى بوش، قد تعني النهاية الحقيقية للمحافظين الجدد، واندثار أفكارهم وتصوراتهم وأحلامهم إلى الأبد، ومن ينسى اللهجة"التبشيرية"التي طالما تبناها بوش في خطبه حول إقرار الحريات وتخليص العالم من الأنظمة الديكتاتورية. بكلمات أخرى، بات رامسفيلد، الضمانة الوحيدة المتبقية لبوش من أجل تحقيق إنجاز قد يُحفظ في سجله الرئاسي، وذلك على غرار ما فعل والده من قبل في حرب الخليج الثانية قبل عقد ونصف العقد، وهو"بوش الإبن"الذي يتوق، بتركيبته السيكولوجية والعقائدية، إلى التفوق على أقرانه من المحافظين التقليديين والجدد، فيما يخص تحولات السياسة الخارجية الأميركية. لذلك فقد بدت إقالة رامسفيلد، أو استقالته، وكأنها خيار غير مطروح لدى بوش، على الأقل في المرحلة الراهنة وقبل إنجاز مشروعه في العراق، باعتباره ركيزة أساسية لمشروعه"الأصيل"ممثلاً في"الشرق الأوسط الكبير". على أن تضحية بوش بكتيبته المقاتلة التي ساندته في حرب العراق، ودعمته بقوة في حملته الانتخابية للولاية الثانية، لا تؤشر إلى تغير حقيقي في الأيديولوجية"البوشية"أو ما يطلق عليه البعض"عقيدة بوش"، ولا تعدو التغييرات أن تكون مجرد جراحة تجميلية لإصلاح ما أفسدته أحداث الأعوام الثلاثة الماضية في الخطوط الأساسية لأيديولوجية المحافظين الجدد. وهي التي بدأت تفقد بريقها بعد حالات الانسلاخ"التدريجي"التي قام بها منظروها ودعاتها الأساسيون، بدءً من ريتشارد بيرل"أمير الظلام"ومروراً ببول وولفوفيتز، وانتهاء بفرانسيس فوكوياما الذي أعلن ردته عن الخط السياسي لإدارة بوش الحالية. لا غرو إذاً في القول إن تخلي هؤلاء عن بوش ومشروعه"أو حلمه"العالمي، لم يكن سوى دليل مؤكد على قرب أفول شمس"البوشية"، ودخولها في مرحلة الخفوت والعودة الى ما قبل أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001، وهو ما لا يأمله بوش بالطبع، لذا يبدو تمسكه برامسفيلد، كما لو كان تمسكاً بأدنى أمل لإنقاذ مشروعه الخاص، والاحتفاظ بشرعية إنجازه الخارجي حتى آخر رمق. يدرك بوش جيداً، أن المقصود من حملة الضغط الحالية ليس وزير دفاعه، بقدر ما هو الرئيس الأميركي ذاته، أو نائبه على أقل تقدير، وعليه يصبح الإبقاء على رامسفيلد بمثابة انتصار"خاص"للرئيس في مواجهة الضغوط التي تستهدف شخصه، وضمانة جيدة للتذكير بإنجازه في مسألة الحرب على الإرهاب، وفي مقدمها إزالة النظام العراقي السابق. قد يكون من المبكر الحكم على تغييرات بوش، وتأثيرها في موقف الحزب الجمهوري في مواجهة الديموقراطيين في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأميركي، بيد أنها كشفت بوضوح عن حجم"المأزق"الذي تعيشه إدارة بوش في مواجهة الشعب الأميركي.