فوجئت إيران في مطلع العام 2002 بإدراج الرئيس الأميركي جورج بوش اسمها ضمن محور الشر، وساد علاقات الدولتين توتر وتصعيد متبادلان فتحا باب الاحتمالات لمواجهات سياسية - عسكرية. ومع مطلع العام 2003 كشفت واشنطن عن نياتها للقيام بعمل عسكري ضد العراق ما فرض تحدياً من نوع آخر على السياسة الإيرانية أدى الى تعقيد الوضع الإقليمي في شكل لافت. وليس من المبالغة القول ان اللهجة الأميركية المتشددة ضد طهران لم تكن بالخطوة التي كان يعنيها ضرب العراق. فقد كانت طهران في حال شد وجذب مع الولاياتالمتحدة وإن اختلفت التسميات والتصنيفات، من صفة الدولة المارقة الى عضوية محور الشر، كما ان طهران أدركت انها مستهدفة مع العراق مباشرة في المخططات والتصورات الاستراتيجية الأميركية منذ عقود، وأن أي تغيير سيطرأ على وضعية العراق والسياسة الأميركية تجاهه سيمثل بالضرورة علامة فارقة بالنسبة الى طهران حيث تصبح المرشح التالي بعد بغداد. كما ان مواقف واشنطن من العراق كان يعني في الحسابات الإيرانية مكاسب مضاعفة تتجاوز مجرد تفتيت ما تبقى من قوة عراقية واستبعاد احتمالات قدرة بغداد على استعادتها، كما تتجاوز أيضاً القضاء على نظام حاكم أنهك القوة الإيرانية في حرب هائلة استمرت ثماني سنوات، فانغماس واشنطن في الملف العراقي ودخولها في مسار عسكري لإدارة هذا الملف كان يعني مباشرة زيادة أهمية طهران في الحسابات الأميركية وبالتالي مساحة أكبر للتنسيق والتقليل من حدة اختلال ميزان القوة بين الطرفين على الأقل في هذا الإطار. ان القضايا الخلافية بين الدولتين هي ذاتها التي تستلزم التشاور والتوفيق في المواقف بينهما، وخصوصاً القضايا الإقليمية التي لا تتصل مباشرة بالدولتين حتى وإن ارتبطت بالمصالح القومية لهما. فالخلاف الحاد على الملف النووي وكذلك حول العراق أو أفغانستان لم يحل دون إقامة حوار وتبادل للرؤى والتقويمات، بل ربما كان هذا الخلاف ذاته هو الذي دفع الطرفين نحو الحوار وعقد لقاءات استكشافية وأحياناً تنسيقية حول عدد من القضايا في تلك الملفات. إن تفاعل العلاقات بين الطرفين يمكن تشبيهها بخط بياني متماثل على فترات زمنية متكررة صعوداً وهبوطاً، تبدأ بحال من الجذب الإعلامي على خلفية تباين المواقف من قضية معينة، ثم سرعان ما تتقارب المواقف، خصوصاً على المستوى السلوكي أكثر من الإعلامي، وكثيراً ما يتكشف ان حوارات ونقاشات كانت دائرة بين الطرفين مباشرة أو بالواسطة، غير ان التقارب لم يمتد ليشمل العلاقات الثنائية خصوصاً الرسمية، نظراً الى خضوعها لاعتبارات أكثر تشدداً من الجانبين، فتتوقف دورة العلاقات عند حدود التنسيق الى حين بروز قضية خلافية جديدة أو وقوع طارئ. كما يمكن ملاحظة ان التفاعلات بين الدولتين متداخلة في موضوعاتها وقضاياها مثل الملف العراقي والعلاقة مع تنظيم"القاعدة"ووضع منظمة"مجاهدي خلق"والموقف من"حزب الله"وتنظيمات المقاومة، باستثناء الملف النووي الذي يؤثر في مجمل العلاقات، لكنه غير متداخل في شكل مباشر مع بقية القضايا. ان التنسيق والحوار بين الدولتين أجريا حول القضايا الخلافية ذاتها في التطورات التي شهدتها العلاقات في السنوات القليلة الماضية، أي منذ بدأ التصعيد الأميركي ضد العراق. فقد كان التركيز بدءاً من حزيران يونيو 2002 وحتى آذار مارس 2003 على خيار الحرب أو المقابلة بين رغبة واشنطن في تنفيذه ورغبة طهران في استبعاده. وبعد وقوع الغزو وسقوط بغداد في التاسع من نيسان ابريل تغيرت أسس ومنطلقات التفاعل لدى الجانبين وفقاً للمعطيات الجديدة. وشهدت الفترة التالية لانتهاء العمليات العسكرية بضعة أشكال من التفاعل كان معظمها إيجابياً وسلمياً سواء تمت في شكل مباشر أي اتصالات ورسائل متبادلة عبر وسطاء، أو في شكل غير مباشر من خلال لقاءات ومباحثات سرية تمّ بعضها في جنيف وبعضها الآخر في باريس. وكان جوهر تلك الاتصالات التي استمرت أشهراً في شكل متقطع تعبيراً عن اتجاه كل طرف الى التعامل مع الطرف الآخر والوصول معه الى صفقة تحقق مكاسب في مقابل تنازلات متبادلة. وشمل ذلك مختلف الملفات والقضايا المشار إليها، خصوصاً تلك المتداخلة والتي يصعب التعامل مع كل منها في شكل مستقل. وبالفعل أوضحت مواقف الدولتين ان ثمة نقاط تقاطع أمكن التوصل إليها، وهو ما لم يحدث في الملف النووي كونه منفصلاً نسبياً عن بقية الملفات وإن خضع بالطبع للعبة المساومة وأوراق الضغط المتبادلة في المحصلة العامة. وفي ما يخص بعض القضايا فقد تبلورت مواقف جديدة للدولتين تجاهها، ففي مسألة علاقة طهران بتنظيم"القاعدة"تدرج التحول في الموقف الإيراني من الإصرار على التحقيق مع تلك العناصر او محاكمتها داخل إيران الى التلميح الى إمكان تسليم بعضها أو جميعها للأمم المتحدة، الى أن قررت طهران تسليم عدد منها للبلدان التابعة لها، لكنها تمسكت بعدم تسليم أي من هذه العناصر الى واشنطن وهو المطلب الرئيس للإدارة الأميركية في هذا الملف بين الدولتين. كما مر ملف منظمة"مجاهدي خلق"الإيرانية المعارضة بمراحل مشابهة، حيث ظل مطلب إيران تسلميها أعضاء المنظمة والقوات التابعة لها نقطة البداية في التعاطي مع هذا الملف، بينما تدرج موقف واشنطن منه بدءاً بالرفض المطلق لمطلب إيران ثم ممارسة ضغوط أميركية على المنظمة وإغلاق مكتبي منظمتين تابعتين لها في الولاياتالمتحدة، ثم قررت واشنطن إبعاد المنظمة وقواتها من الأراضي العراقية. ودخلت الإدارة الأميركية في مساومة صريحة مع طهران حول مقايضة عناصر"القاعدة"المهمين الموجودين لدى إيران بقيادات"مجاهدي خلق"، لكن لم يتم التوافق على هذه المقايضة بما يلبي المطالب القصوى للطرفين. ثم شهدت العلاقات مرحلة أخرى من التزامن بين تدهور الوضع الأمني في العراق والتصعيد السريع بين قوات الاحتلال الأميركية وبعض القوى الشيعية خصوصاً التابعة لمقتدى الصدر، ثم حال البلبلة التي أثارها اقتراب موعد نقل السلطة الى العراقيين مع نهاية حزيران يونيو 2004، مع استعادة الملف النووي الإيراني سخونته في أروقة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بل ودخول أوروبا على خط المواجهة، على خلاف دورها السابق الذي كان عنصر تهدئة والعامل الرئيس في قبول إيران التوقيع على البروتوكول الإضافي الملحق بمعاهدة حظر الانتشار النووي N.P.T. وفي ما يتعلق بمستقبل العلاقات وآفاقها فهي مرتبطة بالكثير من المسائل المتشابكة والمتقاطعة والمصالح الإقليمية والأوضاع الداخلية في كلا البلدين. فبعدما حصلت إيران على مكاسب مهمة من الولاياتالمتحدة أبرزها القضاء على النظام العراقي وتفكيك منظمة"مجاهدي خلق"، وقدمت في المقابل تنازلاً ليس أقل أهمية في الملف النووي، محطته الأساسية توقيع بروتوكول التفتيش العاجل الملحق بمعاهدة حظر الانتشار النووي وتجميد عمليات تخصيب اليورانيوم، والاضطرار الى تلبية مطالب وإجراءات خاصة بالوكالة الدولية للطاقة الذرية، تشهد العلاقات الإيرانية - الأميركية مرحلة أخرى من الصعود والهبوط المتكرر. فمن ناحية العراق المقبل على مرحلة جديدة يحتاج فيها الى مساندة إقليمية ودولية لتحقيق حد أدنى من الاستقرار السياسي والأمني، وهي مسألة ذات أهمية قصوى للولايات المتحدة ليس بالطبع حباً في العراق ولا العراقيين، ولكن لتخفيف الأعباء والحد من الخسائر البشرية في صفوف القوات الأميركية، من هنا يمثل موقف إيران من الملف العراقي حجر الزاوية في نقطة الصعود أو الهبوط المقبلة في العلاقات بين الدولتين، خصوصاً أن إيران رقم صعب في معادلات الحاضر العراقي، سواء في ما يتعلق باستتباب الأمور سياسياً للحكومة الجديدة، أو على المستوى الأمني من خلال ضبط الحدود، أو من خلال علاقات إيران القوية بالأوساط الشيعية سواء التي ترتبط مباشرة بطهران مثل المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، أو بالقوى والتنظيمات الأخرى الأقل ارتباطاً بإيران لكنها تظل في التحليل الأخير واقعة تحت المظلة الشيعية. ولعل هذه الأهمية المتزايدة للدور الإيراني في العراق تفسر الى حد كبير التصعيد الأميركي في الملف النووي. غير ان مستقبل العلاقات بين البلدين لا يخضع لهذه الحسابات الإقليمية فقط، فمن الواضح ان العلاقات بين طهرانوواشنطن تحتل حيزاً مهماً من الحسابات الداخلية في الدولتين خصوصاً على الجانب الإيراني. فعلى رغم ان العلاقة مع إيران تثير تباينات وأحياناً خلافات داخل دوائر صنع القرار الأميركية إلا أنها تظل محصورة داخل نطاق حدد بالإدارة والكونغرس، فضلاً عن كونها في النهاية مجرد جزء من قضايا السياسة الخارجية التي لا تثير اهتمام المواطن الأميركي، بينما الوضع مختلف الى حد كبير على الجانب الإيراني، فالعلاقة مع الولاياتالمتحدة محل اهتمام مختلف المستويات الشعبية والقيادية. وعلى رغم اتساع نطاق الاهتمام الإيراني بالعلاقة مع واشنطن إلا ان القرارات المصيرية في هذه السياسات الاستراتيجية ذات الصلة بالمصلحة الإيرانية العليا لا تخضع لمقتضيات الصراع الداخلي أو التباين في الرؤى حول جدوى العلاقة وأهميتها، فغالباً ما ينصب هذا التباين على المسار الثنائي للعلاقات، لذا يلاحظ انه لا يزال متعذراً وشبه مجمد تماماً، بل ومرشح لمزيد من التأجيل على ضوء استعادة المحافظين قوتهم السياسية والمؤسسية بعد نتائج الانتخابات التشريعية والرئاسية. أما القضايا والمسائل من نوع الملف العراقي أو العلاقة مع"حزب الله"اللبناني وغيرها، فتخضع لحسابات استراتيجية عملية أو بالأصح مصلحية في المقام الأول. بينما توجد بعض المسائل التي تقع في منطقة وسطى إذ تتأثر بتوازن القوى الداخلي في إيران على رغم أهميتها، مثل العلاقة مع تنظيم"القاعدة". أما في الجانب الأميركي، فالخلاف داخل هذا النطاق أكثر حدة والفجوة أكثر اتساعاً عنها في إيران، في ذلك ما يتعلق بالقرارات المهمة والجوهرية في مسار العلاقة مع إيران، بل وفي موقعها من الاستراتيجية الإقليمية لواشنطن في المنطقة. وهو خلاف لا يقتصر على إيران فحسب، لكنه على مبدأ ونمط إدارة السياسة الخارجية الأميركية وأدوات تحقيق أهدافها. فمن يوصفون بمجموعة الصقور في الإدارة الأميركية يتبنون خطاً متشدداً يعتمد القوة بمختلف صورها وسيلة أساسية في التعامل مع القضايا الخارجية خصوصاً تلك التي تتعلق بدول أو موضوعات تثير هواجس أمنية أو تهدد مصالح أميركية من وجهة نظرهم. بينما ترى مجموعة أخرى أن الوسائل الديبلوماسية ربما تكون أكثر جدوى وقبولاً لدى المجتمع الدولي. ولما كانت التجربة العراقية تشير الى أن تغليب التوجه المتشدد لم يكن خياراً سيئاً خصوصاً أن خيار الديبلوماسية وحشد المجتمع الدولي كاد يجعل زمام الأمور يفلت من يد واشنطن عندما وافق الرئيس جورج بوش على اللجوء الى مجلس الأمن ثم فوجئ بقبول العراق القرار 1483 على غير ما كان متوقعاً. وفي المحصلة تدرك إيران في شكل واضح ان الوجود العسكري الأميركي في العراق سيستمر فعلياً من فترة زمنية متوسطة الى فترة طويلة الأجل، الأمر الذي يعني في حسابات السياسة الإيرانية وضعاً استراتيجياً جديداً على الجانب الغربي من مجالها الحيوي، وإضافة الى الوجود الأميركي العسكري في أفغانستان فإن طهران أصبحت محاطة بحضور عسكري أميركي من شأنه مضاعفة القيود والأعباء المفروضة على الحضور الإقليمي لإيران. إن هذا الوضع سيؤثر في سلوك طهران وإدارتها للعلاقة مع واشنطن، وتدل المؤشرات على ان إيران بصدد التعاطي بمزيد من البراغماتية مع الولاياتالمتحدة على ضوء هذه الاعتبارات والمعطيات مع الأخذ في الاعتبار ان المسائل الناظمة للسياسة الإيرانية تجاه واشنطن تبدو متعارضة، لذا من الطبيعي أن تعالجها طهران بدرجة عالية من الحذر والتردد في آن معاً، إذ ستحاول الحفاظ على معادلة صعبة تجمع فيها المرونة في الاستجابة للضغوط الأميركية بموازاة التشدد في متطلبات أمنها ومصالحها الذاتية. لذا من المتوقع أن تكثف طهران اتصالاتها بفصائل المقاومة العراقية وخصوصاً جماعة مقتدى الصدر. على أمل أن تستثمر هذا التحرك في الحصول على إقرار أميركي بأهمية الدور الإيراني في العراق لضبط الأوضاع والمساعدة على عدم انفلات الأمور خصوصاً في مناطق الجنوب، وبما أنه من المتوقع أن يستمر الوجود العسكري الأميركي لفترة طويلة في العراق فإن طهران ستأخذ هذا الطريق لضمان علاقة توافقية بين الطرفين في الشأن العراقي. مع الأخذ في الاعتبار ان هذا التصور يواجه بقيود داخلية وخارجية أبرزها الوضع الداخلي في إيران بعد نجاح المحافظين في الانتخابات التشريعية والرئاسية التي أعقبها تراجع المرونة في السياسة الخارجية الإيرانية في بعض الملفات، مثل العلاقات الثنائية مع واشنطن، وكذلك العلاقة مع بعض الدول العربية. فضلاً عن تأثر علاقة إيران بالفصائل الشيعية العراقية بهذا التحول. كما لا ترى إيران في سلوك الإدارة الأميركية الحالية سواء في العراق أو في منطقة الصراع العربي - الإسرائيلي، أو من خلال مشروع الشرق الأوسط الكبير فضلاً عن المسار الثنائي للعلاقة، ما يبشر بعلاقات طيبة بين الدولتين في المستقبل القريب، إذ ان مواقف الإدارة الأميركية عموماً، تشكل قيوداً إضافية على احتمالات حدوث تحسن في العلاقات أو على الأقل، تعلق الموقف المتوتر بينهما وتأجيل الملفات والقضايا العالقة في بعض الوقت، فالعودة الى تقليب صفحات الملف النووي والتربص الذي يغلب على التوجه الأميركي الحالي نحو طهران، فضلاً عن التحريض المستمر من جانب إسرائيل، والتصورات الأميركية الجدية لما يجب أن يكون عليه شكل منطقة الشرق الأوسط، كل هذه المعطيات تشكل مؤشرات مقلقة لإيران بالنسبة الى مستقبل علاقاتها مع واشنطن. إن أطرف توصيف يمكن أن يطلق على العلاقات الإيرانية - الأميركية هو تشبيهها بطرفي المقص، فعلى رغم ان البلدين مرتبطان ومتقاطعان على مصلحة قص ما يعترض سبيلهما، فإن مجرد التقاء هذا العلاقات سيكون مناسبة لافتراقها، وهنا تكمن قوة المقص وفعاليته، فهل ان مصلحة الدولتين تكمن في التقائها وافتراقها الدائم على تقاطع المصالح الإقليمية في المنطقة وبالتالي التأسيس لصفقات محتملة؟ سؤال يحتاج الى الكثير من التفكير قبل الإجابة عليه. * أكاديمي لبناني